الهتافات تشق عنان السماء وتستوي الصفوف ملتفة كاصطفاف الكواكب السيارة في ليلتها الفريدة… مستوية كل السواعد والارجل في مشهد عرفاني ابتهالي بديع والحناجر الغضة ما برحت حبالها عن نشيدها الفجري البليغ وهي تختزل بداخله كل الحكاوي والحكاية (يا خرطوم ثوري ثوري ضد الحكم الدكتاتوري)… ثم يتم استدعاء المكان في لوحة حانية تخالطها المشاهر والدموع وفيها يرتفع الصوت بثقة المرسل في المتلقي حيث تنحرف الارض بضع درجات جنوبا وهي تستحضر روح المنطقة وتاريخها الحصري (يا رفاعة ثوري ثوري ضد الحكم الدكاتوري). تحركت وقتها من غرب المدينة نحو وسطها قاصدا سوقها المترابط الظهور والارحام والمكتنف بكل الدفء والعشق وروح الرفض والتمرد… غربا قد اكتمل المشهد وسط تجمعات المدارس وتزينت الطرقات بأجساد الطلاب المتراصة وزغاريد ربات البيوت المتعاطفات والمبتهجات وحتى الشامتات… السوق وجهتنا الثانية حيث الرمزية العليا لكل فعل تظاهري رافض… الخطة تقتضي ان اخاطب الجماهير من وسطه المكتظ بالساعين والباعة والمهمومين و(المخمومين)… وأنا في منتصف الطريق توقفت سيارتين من سيارات جهاز الامن ونزل من احداهما رجل يهرول نحوي كالممسوس… أمسكني من يدي بكل قوته بينما زملاءه في كامل التحفز الوحشي… بنهاية النهار كنت فاقدا للوعي نتيجة الضرب والتعذيب قبل ان يتم نقلي مساء نفس اليوم خارج رفاعة نحو زنازين تمبول. ……. رجل الامن الذي نفذ أمر القبض هو محمد الصديق زيدان وينحدر من منطقة (السيال فاطر)… وزميله الذي ضربني هو محمد مصطفى وكنيته (ابضنين)… وزميلهم الذي رش الماء على وجهي عندما فقدت الوعي يسمى (فخري)… وكل الاسماء الاخرى بطرفنا. في تمبول قضيت ليلتي الاولى وكل ساعاتها وانا اصرف في السياط والعصي وخراطيم المياه السوداء… وأؤدي في تمارين رياضية قاسية محصورة فقط للمتدربين عسكريا… ووجدت معي سبعة عشر معتقلا آخرا تم القبض عليهم في نفس اليوم بتهمة التظاهر ضد النظام… جميعنا كنا دون الثامنة عشر من العمر… إستمر التعذيب حتى اليوم الثاني حيث اطلق سراح رفاقي وبقيت لوحدي وبعد انقضاء فترة الاعتقال علمت ان هؤلاء قد قطعوا المسافة الى رفاعة مشيا على الاقدام … بعدها تم وضعي في زنزانة واحدة مع طلاب آخرين من جامعة الجزيرة تم اعتقالهم في نفس اليوم بسبب مظاهرة انطلقت من الجامعة بتاريخ السبت 24/4/1994.. وممن جمعتني معهم الزنزانة (هشام محمد عثمان الدفعة 12 طب الجزيرة من عطبرة ووالده معلم )…(خالد بركة محجوب الدفعة 14 طب الجزيرة من الصحافة وسط مربع 34 )… خالد عبده الضي الدفعة 14 زراعة الجزيرة من امدرمان الثورة الحارة 8 وهو ممن اجتمعت معه في زنازين رفاعة عند نقلي من معتقل تمبول قبل اطلاق سراحي بأيام قليلة). كنا ننام على الارض… ويسمح لنا بدخول الحمام مرتين في اليوم… والتحريات لا تنقطع… تتخلها نوبات من التعذيب المتنوع الاساليب… وأقسى ما تعرض له خالد عبده الضي من تعذيب انهم استهدفوا بصره حتى كاد ان يفقده… وعلمت منه انهم لا يسمحون له برؤية الشمس. في عام 2010 تم اعتقالي من مكتبي بوسط الخرطوم وتم اعتقال كل من تواجد فيه لحظة التنفيذ ومنهم ابن اختي احمد الدفينة وشقيقي نادر الدفينة وزميل لهما ومهندسة يجاورنا مكتبها وآخرين… تمت مصادرة معدات وماكينات تصوير وطباعة واجهزة حاسب الي وغيرها من ممتلكات. سألت المجموعة عن أمر النيابة الخاص بالتفتيش واجابني احدهم (ما عندنا… بنفتش كدا ساي… قوة بس)… وعندما امر جنوده بمصادرة المقتنيات سألته عن امر القاضي الخاص بالمصادرة وانا في الاساس لم توجه لي تهمة ولم يتم عرضي على قاضي واجابني نفس الاجابة… تعرضت يومها للضرب في رأسي وبطني وظهري لأنني كنت مصرا أثناء التحري على معارضتي للانقاذ ولأنني ظللت مصرا على خلافي العقائدي مع الوهابية حول رفض فكرة تجسيد وتجسيم الذات الالهية وتنزيهها عن المحدودية في الزمان والمكان وانني أؤمن بأن ذات الله مطلقة وما عداها محدود… والذي ضربني في بطني اللواء عبدالجابر مدير الامن العقائدي وهو نفسه الذي اشرف على اعتقالي في الاعوام 1992 و 1994. في يوليو واغسطس 2012 وعقب تظاهرات المساجد الشهيرة (جمعة لحس الكوع… جمعة الكنداكة… جمعة الكتاحة… وغيرها) دخلت المعتقل قبل شهر رمضان بيوم واحد… تم تنفيذ الاعتقال عند خروجي من المنزل وانا في طريقي للمستشفى مع زوجتي التي تعاني من مرض السكري واجريت لها عملية فتاق بطني ومعها ابني الذي اجريت له عملية زايدة وكلاهما ينزفان مع وجود مواد في الجروح الملتهبة… تم اعتقالي وانا في طريقي بهما للمستشفى ولم تشفع كل آلامهم في تأخير الاعتقال… قضيت اتعس ايامي الرمضانية في زنزانة لا توجد بها كهرباء وطولها حوالي مترين وعرضها حوالي متر ونصف وارتفاعها كذلك ولا يوجد فيها غطاء او مرتبة… وانتظر الساعات الطوال لدخول الحمام وظللت لايام عديدة في انتظار ان يوافقوا على نقلي لطبيب من شدة الآلام خصوصا معاناتي من الجيوب الانفية التي التهبت حتى وصلت مرحلة اضطريت فيها الى ربط رأسي ووجهي بثوبي الذي كنت البسه (الجلابية). …….. اغمي على زميلي في الحبس علي ادريس من شدة التعذيب واصيب بتشنجات جعلتني اضع عليه قطعة مبتلة من جوالات الخيش حتى يهدأ… وكان يعاني من ضيق التنفس… لم يعرضوه على طبيب حتى كاد ان يفارق الحياة لولا اسعافات كنت اجريها له. ان آخر ما كنا نحلم به هو قرص بنادول يعمل على تسكين الآلام الفظيعة التي كنا نعانيها. أيها السادة : لا زلت اعاني من افظع الامراض والالام الناتجة من الاعتقالات التي تعرضت لها واغلب رفاقي في الزنازين كانت قمة امانيهم رؤية قرص بنادول لا غير. لقد فقدنا الاحساس بالزنزانة والصحة والروائح والاجواء… بتنا متأقلمين على كل ما نعاني. أيها السادة : ان المتهم عمر حسن احمد البشير يشتكي من رائحة الزنزانة وسوء التكييف.