ان الصراع المسلح الذي حدث الاسبوع المنصرم في ابو دليق بشرق النيل بين اهلنا الكواهلة والبطاحين والذي ادي الي فرض حالة طوارئ في المنطقة الشرقية للخرطوم يجب الا ينظر اليه عليه انه مجرد صراعا قبليا او اثنيا. بل يجب قراءته من زاوية اوسع كجزء من ازمة بناء الدولة الوطنية في السودان. وفي تقديري، ان السبب الرئيس لهذا الصراع هو "نظام الحواكير" الذي يمنع اي مجموعة من اقامة هيكل اداري اهلي موازي للهيكل الاداري لملاك الارض (وهي ملكية تشريفية). ونظام الحواكير، للأسف، موجود وقائم في كل اقاليم السودان وهو المحرك الاول للصراعات الاثنية وبل ويشكل مانع اجتماعي وثقافي ( social and cultural barrier) امام اي محاولة لخلق الانتماء الوطني المتجاوز لسلطة القبيلة او الاثنية. وبالتالي فان نظام الحواكير يمنع تكوين مجتمعات متماسكة خارج اطار القبيلة مهما كانت درجة التداخل والتصاهر والإندماج. في كل اقاليم السودان، يمثل نظام الحواكير المرجع الأساسي لشرعية تأسيس الإدارة الأهلية وتراكيبها وترقيتها. اذ لا يجوز لاي قبيلة ان تؤسس لنظارة او شرتاوية او دمنقاوية خارج اطار حاكورتها، مهما كبر حجمها او زاد عدد افرادها وليس للدولة المقدرة للتدخل في مثل هذه الامور. وبالتالي يعلب هذا النظام دور الدولة العميقة الفعلي والتي تسيطر علي وتوزع الحقوق الاساسية بين المواطنين في كل أرجاء البلاد. ففي مناطق كثيرة في وسط وشمال وشرق السودان، تم هذا التقسيم في عهد المستعمر الانجليزي الذي اسس الإدارة الأهلية كنوع من الحكم ارسي لها قوانينها استتبع قبائل لاخري بعد ان قام بتمليك الارض لبعض القبائل القديمة اوذات الوزن الجماهيري. اما المجموعات الصغيرة او تلك التي دخلت حديثاً فقام باستتباعها اداريا للمجموعات الكبري واعتبرها مستضافة علي الارض وبالتالي لا يحق لها الاستقلال السياسي عن المجموعات المضيفة. وهذا النظام تأسس لخدمة المستعمر في السيطرة وفرض النفوذ ولتسهيل عمليات نهب الموارد والثروات الطبيعية والبشرية وليس لخدمه اي مجموعة او قبيلة سودانية. اما في اقليم دارفور، فقد تأسس نظام الحواكير في عهد السلطان موسي بن السلطان سليمان سولونق الذي حكم دارفور ما بين 1637 – 1682م. وكان نظاماً اقطاعيا بامتياز. فهو نظام، كما وصفه الرحالة محمد بن عمر التونسي، يجعل البلاد كلها ملكا للسلطان فيقسمها علي اهله واخصائه وكبار بلاطه ووزرائه بوثائق مختومة ليعيشوا علي ريعها. وبهذا المعني فان "الحاكورة" ليست "دار القبيلة" وانما هي "اقطاعية" تمنح للاخصاء من الفقهاء والقضاة ورجال البلاط والضباط وكبار التجار (الجلابة) والميارم وزعماء القبائل و وجهاء المجتمع. والحاكورة في دارفور ليست "ارضا" في كل الأحيان، بل قد تكون قبائل او مجموعات سكانية يقوم السلطان بتمليكهم لاحد اخصائه ليجمع الضرائب والزكاة والعوائد والاتاوات لصالح السلطنة وياخذ منها نصيبه؛ او قد تكون قبيلة تابعة اداريا لزعامة قبيلة اخري ولا يمكنها تأسيس نظام اداري خاص بها. ثم تطور مفهوم الحاكورة لاحقاً الي "حاكورة ادارية" وهي عبارة صكوك يقدمها السلاطين لزعماء القبائل مقابل ولائهم للسلطنة. وهو نظام حافظت عليه الإدارة الأهلية وتناقلته عبر القرون ولكنه بالتأكيد لا يصلح لانسان القرن الحادي والعشرين. ومن الجانب الاخر، فقد كان المستعمر الانجليزي حريصا جدآ علي هذا النظام الفدرالي القبلي وسن في سبيل ذلك عددا من القوانين للمحافظة عليه. ففي الاقليم الاوسط، وبعد انشاء مشروع الجزيرة، فر عدد كبير من سكان الجزيرة تاركين مهنة الزراعة بسبب قساوة وصرامة قوانين العمل المفروضة علي العمال. وفي عام 1931م تم تمليك الارض لكل عمال المشروع في محاولة لتشجيع الناس للعمل في الزراعة. وفي عام 1948م استصدر الحاكم الانجليزي قانونا اخر يمنع بموجبه العمال القادمين من غرب البلاد من توريث الارض لابنائهم، حفاظاً علي نظام الحواكير الذي انشأه. وبالتالي فان نظام الحواكير يمثل الان اكثر من دولة داخل دولة و هو احد اهم جذور الازمة فيما يتعلق بمقدرتنا علي بناء الدولة الوطنية الحديثة. وهذا النظام يعني في حده الادني انتهاك لمبدأ المواطنة المتساوية، ويظل احد الشواهد المهمة علي اننا ما زلنا تحت قيود الاستعمار ولا نملك سوي درجة محدودة من الاستقلال. ومن مفارقات الممارسة الساسية في السودان ان ينادي احدهم بدولة مدنية علمانية ليبرالية ديمقراطية تعددية وهو يؤمن بنظام الحواكير.