السودانيون عموماً لديهم احترام كبير؛ ومحبَّة غير منظورة للمتفوقين. خاصة؛ في امتحانات الشهادة الثانوية السودانية؛ والتي تحظى باهتمامٍ عالٍ من الأسرة، والدولة على كافة مستوياتها، مما يدلل على المكانة الرفيعة التي يحتلها العِلم في حياة السودانيين. لكنَّ؛ تبقى الأسئلة: أين ذهب العشرات من أوائل الشهادة السودانية.. وأين هم الآن.. وماذا فعلوا في الحياة.. وماذا فعلت بهم.. هل وجدوا الفرصة لتقديم شيء لبلادهم.. أم هاجروا.. واغتربوا.. وكرسوا نبوغهم لخدمة دول وشعوب أخرى.. ما هي مصائر من احتفى بهم المواطنون.. وحفظوا أسماءهم ورسومهم.. وعلقوا آمالاً على استلامهم لراية التغيير.. ووضع السودان في مكانه المستحق؟!! في قلب الثورة في بداية حٍراك ثورة ديسمبر ومواكبها؛ انتشر بوست كتبه الدكتور المهندس عبد الله جعفر ميرغني، أول الشهادة الثانوية 1996م، والذي حضَّر الدكتوراه في تخصصٍ دقيقٍ ونادرٍ بالهندسة الكهربائية. كشف فيه؛ عن آثار اعتداء جهاز الأمن عليه بالضرب، والجلد بالسياط على ظهره، وبيَّن الكدمات التي على وجهه، جراء خروجه في ذلك الموكب. انتشر البوست انتشار النار في الهشيم؛ وشاركه عشرات الآلاف من الناس الذين كانوا يعنونونه ب"حينما يجلد طيش السودان أول السودان!!". لاحقاً؛ واصل عبدالله جعفر كتابة بوستاته المحرِّضة، وخروجه في المواكب، حتى توَّج ذلك بأن أُطلق النداء للخروج في موكب 30 يونيو؛ ذلك الموكب الحاسم الذي رجَّح كفَّة الشعب، بعد قيام القوة الغاشمة بفض اعتصام القيادة العامة. الدكتور المهندس بكري علي؛ الذي يُقيم ويعمل بالولايات المتحدةالأمريكية، وهو ثالث الشهادة السودانية 1996م، والذي طوَّر تصميماً مهماً لشركة بوينج لصناعة الطائرات. كرَّس جهده ووقته إبان ثورة ديسمبر لاستقطاب الدعم المادي لتمويل الحراك الثوري، عبر تبرعات السودانيين العاملين بالخارج. لاحقاً؛ وبذات الحماس عمل على دعم الأسر التي تضررت جرَّاء السيول والفيضانات. المساق العلمي.. سارق اللهفة ينزع غالبية المتفوقين في الدراسة بالسودان؛ للاتجاه أكاديمياً ناحية المساق العلمي، تحفهم أشواق أسرهم، وأمنيات الأهل بدراسة الطب والهندسة، حتى تكدَّست هذه الكليات بقوائم الأوائل في السودان. ولعل هذا الاتجاه الاجتماعي؛ الذي يُعلِي من قيمة الدراسات التطبيقية، على الدراسات الإنسانية، قد خلق فجوات وثغرات في رغبات الطلاب لدراسة أنواع أخرى. لكن؛ الامتيازات الاجتماعية، التي تمنحها مهنة الطبيب، والمهندس، سرقت حماس الطلاب لدراسة علوم أخرى. يقول الخبير التربوي محمد الطيب؛ ترتفع نسبة قبول الطلاب بالمساق العلمي، وتنخفض نسبة المساق الأدبي. المضحك؛ أن الأخيرين هم من يقودون البلد. لذلك؛ الحال ينحدر. مؤسف أن تُصادِر كليات الطب، والهندسة، العقول الأمضى في السودان، وتسجنها في علومٍ ومهنٍ لا تحتاج إلى نبوغ. ولكن؛ يرى آخرون، أن نوع التعليم في السودان أساساً لا يخدم احتياجات البلاد، نظراً إلى سوق العمل، حيث يتكدس الآلاف من الخريجين بلا وظائف في تخصصات عديدة، وتندر بعض التخصصات في سوق العمل. أما بخصوص إسهام أوائل السودان؛ فيمضي إلى القول بأن غالبيتهم هاجروا للتخصص، واستقروا في الغرب، أو الخليج، بحثاً عن الفرصة. هذه البلاد؛ تقتل الأحلام.. قالها مُطرقاً. التعليم البنكي.. وإسهام النوابغ بروفيسور معروف؛ قال إن نوع التعليم البنكي، الذي يراهن على حجم المعلومات التي يتم إيداعها في عقول التلاميذ، لا يمنح الفرصة لخلق أجيال مفكرة. وذهب إلى أن محتوى المناهج؛ إضافة للوسائل التعليمية، تجعل من المدرسة مكاناً للتلقين، لا التعليم. وأن العملية التعليمية؛ يجب أن تخلق إنساناً قادراً على التفكير، والقيادة، وتفجير مواهبه، ومهاراته، في المجالات التي يميل إليها. أما غصب الطلاب؛ على الاتجاه إلى نوع دراسات محددة، فهذا وأد لكثير من العقول والمهارات التي كان يمكن أن تثمر. عوض تكديس كليات الطب؛ والهندسة، بطلاب كان يمكن أن يبرزوا في السياسة، وعلم النفس، والاقتصاد، وإدارة الأعمال. أزمة السودان؛ أن الذين يتصدون لقيادتها الآن وسابقاً هم من لم يحرزوا درجات بالأساس، دعك من تفوقهم. أول السودان.. إعلامية "ست البنات عبدو"؛ أول الشهادة السودانية للعام 2018م، كانت المفاجأة أنها درست المساق الأدبي؛ لم ترهن نفسها، ورغبتها، للخيارات السائدة. اتجهت إلى دراسة الإعلام؛ رغم رغبة الأهل التقليدية، بالاتجاه لدراسة الطب، والهندسة. كانت فتاة مثقفة؛ وواثقة من خياراتها، وتأمل في تحقيق أهدافها بدراسة الآداب، والتخصص في الإعلام. ول"ست البنات"؛ قصة حزينة ظهرت إلى العلن، عقب اندلاع شرارة الثورة، فقد كشفت أن الرئيس المخلوع البشير، منحها شيكاً بسبعة آلاف، كجائزة تشجيعية من الدولة، لتكتشف أنه شيك بلا رصيد، وأن المخلوع قد خدعها أيضاً، كما فعل مع شعب كامل. الديمقراطيالشهادة الثانوية