ضرب صاحب «الإنتباهة» مثلاً في إبراز الطلاب العلميين في مجال الدراسات الأدبية والإنسانية بالدكتور جعفر ميرغني، الذي هجر مجال الدرس الهندسي بعد أن استبحر فيه. ولو بقي على درس الهندسة والتخصص فيها ما أظنه كان سيفلح فيها لأنها تتنافر مع ذوقه الحياتي الأدبي الطريف.ومثل الدكتور ميرغني مثل باهر، ولكن الأمثلة كانت تترى من قديم الزمان. وقد تقدمها مثال أذكى سودانيي العصر الحديث، الناقد العبقري معاوية محمد نور، الذي أهله نبوغه الأكاديمي للانضمام إلى كلية الطب في أولى دَفعاتها، فأشاح بوجهه عنها، وناضل نضالاً بطولياً أسطورياً لتخليص نفسه منها، واتصلت دراسته للآداب خارج السودان على النفقة الخاصة، فبرَّز وبهر ألباب الحكماء وقال عنه عظيمهم العقاد:«لو عاش معاوية لكان نجماً مفرداً في سماء الفكر العربي». تلاه مثال الزعيم محمد أحمد محجوب، الذي درس الهندسة بكلية غردون التذكارية، وعمل بها لآونة قصيرة، ثم انقلب عنها ليدرس القانون الذي عمل به بقية حياته خلا الفترات التي عمل بها وزيراً أو رئيساً للوزراء. وقد برَّز المحجوب مفكراً ألمعياً ثاقباً، وشاعراً مجدداً، وناقداً مصيباً، أكثر مما برز سياسياً أو هندسياً ومأثرته الهندسية الوحيدة متواضعة جداً تتمثل في الإسهام بتشييد جسر المسلمية قرب السكك الحديدية والمشافي التعليمية. وتلاه مثالاً الدكتور حسن الترابي، وهو من أفذاذ العباقرة السودانيين، ومن صناع تاريخ السودان الحديث. فقد كانت مجاميعه العلمية تؤهله لدراسة الطب، وبقي حائراً بين الانخراط في درس الطب أو القانون، إلى أن أجمع أمره على دراسة التخصص الأخير. ولو اتجه إلى درس الطب، كما يفعل الطلاب من أصحاب النتائج الكبيرة، لما برَّز فيه لأنه يتنافى مع مزاجه في الصميم. ومن الأمثلة الساطعة أديب العروبة الكبير الأستاذ الطيب صالح، فالمعروف أنه درس في كلية العلوم لا الآداب، ولكنه في حياته العملية ما عمل إلا في خدمة الآداب. ولو رحنا نعدد الأمثلة لما وقفنا عند حد فاستقصاؤها ضرب من التطويل الثقيل. وما يستنتج منها هو أن دراسة الآداب ليست من سقط المتاع، وأنها ليست ملاذاً يلجأ إليه من أوصدت أمامهم كليات العلوم التطبيقية. ولذلك ينبغي أن يقبل عليها رهط من الطلاب المتفوقين، الذي يُهرعون عادة بلا تدبر إلى كليات الطب والهندسة وما شابهها، غير متفطنين إلى أن مجالهم الأصح هو مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية. وأذكر أني زاملت في مراحل الطلب الأوسط والثانوي طالباً يدعى عبد المحمود نور الدائم الكرنكي، كان يحرز الدرجات العلى في فروع المعرفة المختلفة، ويحرز المرتبة الأولى في الصف، ولكنه آثر بوعي حصيف بذاته أن يلتحق طوعاً بالمساق الأدبي. وأذكر جيداً أنه بادر إلى تسجيل نفسه في ذاك المساق قبل امتحانات التصفية التي يقرر بعدها الأدبيون مجبورين أن يكونوا أدبيين. ولم يكن يفارق الأخ الكرنكي طبع مرح ساخر فكان كلما سألوه عن تخصصه أجاب: أدبي رياضيات! ذلك أن أساطين الرياضيات ودهاتها كانوا الوحيدين الذين يستحقون لقب العباقرة في نظر الناس! وقد جاء صاحب «الإنتباهة» بمثال آخر لابن للدكتور ميرغني يقال له عبد الله أحرز المقام الأول في امتحانات الشهادة السودانية، وقال إنه انبهر بعلمه وأدبه الذي تجاوز سنه عندما استضافه في برنامج تلفازي قبل عشرة أعوام أو زهاءها. وتساءل على إثر ذلك يا ترى أين هو هذا الفتى الآن؟! وأضاف قائلاً إنه لم يسمع عنه منذ لقاء التلفزيون ذاك وتمنى أن يراه في يوم وقد حقق لنفسه وأمته مجداً في مجاله. ثم تساءل: «ولكن بالله عليكم كيف كان سيكون حالُه لو سار على درب أبيه وخرج من محبس الهندسة الظالم الذي يغمر سجناءه البعيدين من الأضواء التي هي أقرب إلى مجالات الآداب والفنون؟!». ونحن نتمنى أن يكون الفتى قد أصاب من التوفيق ما أصاب أبوه، ونتمنى أن يكون أصابه في المجال الهندسي الذي أكمل أشواط درسه. فبلادنا أشد حاجة إلى المهندسين العباقرة منها إلى غيرهم بالتأكيد. وقد شهدت خلال دراساتي الصينية أن أفلح قادتها هم المهندسون. وأكثر قادة الصين اليوم هم المهندسون. والمهندسون الكهربائيون بوجه خاص. ولا تسألوني لماذا المهندسون الكهربائيون بوجه خاص؟!