كلية الارباع لمهارات كرة القدم تنظم مهرجانا تودع فيه لاعب تقي الاسبق عثمان امبده    بيان من لجنة الانتخابات بنادي المريخ    بيان من الجالية السودانية بأيرلندا    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    شاهد بالفيديو.. السيدة المصرية التي عانقت جارتها السودانية لحظة وداعها تنهار بالبكاء بعد فراقها وتصرح: (السودانيين ناس بتوع دين وعوضتني فقد أمي وسوف أسافر الخرطوم وألحق بها قريباً)    شاهد بالصورة.. بعد أن أعلنت في وقت سابق رفضها فكرة الزواج والإرتباط بأي رجل.. الناشطة السودانية وئام شوقي تفاجئ الجميع وتحتفل بخطبتها    البرهان : لن نضع السلاح إلا باستئصال التمرد والعدوان الغاشم    وفد عسكري أوغندي قرب جوبا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    مجاعة تهدد آلاف السودانيين في الفاشر    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة 25 يناير وصورتها في السينما المصرية: مقارنة بين نموذجين
بين زمنين
نشر في الراكوبة يوم 25 - 01 - 2021

على الرغم من أن الفيلم الروائي لم يتأخر كثيرا في التعبير عن وقائع الانتفاضة الشعبية التي شهدتها مصر في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، والتي عرفت في الأدبيات التي وصفتها ب "ثورة 25 يناير"، إلا أن نتاجه ظل قليلا نسبيا، ومحكوما بذاك الانقسام الذي ساد المجتمع المصري في النظرة إلى القوى الفاعلة فيها ومسار البلاد بعدها.
وعند المقارنة مع الفيلم الوثائقي تميل الكفة كثيرا للأخير، كما ونوعا، فهو الشكل السينمائي الأقرب للتعبير عن مثل هذه الأحداث الشعبية الكبيرة والمحتدمة، بل وكان مشاركا في صنعها بفعل ما وفرته التكنولوجيا الحديثة من سهولة توثيق الأحداث عبر الكاميرات الصغيرة؛ سهلة الحمل والاستخدام، وكاميرات الهواتف النقّالة ونشرها بسرعة عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي.
لذا رافق الفيلم الوثائقي الحراك الشعبي في معظم أحداث ما عرف بالربيع العربي، وشكلت المادة الضخمة من الوقائع المسجلة عبر كاميرات المشاركين أو الهواتف النقالة أو القنوات التلفزيونية المختلفة التي انتشرت فرقها المختلفة لتسجيل هذه الوقائع لحظة بلحظة، فضلا عما وثقه المخرجون أنفسهم الذين سارعوا للنزول إلى ساحة الحدث؛ مادة خصبة وسجلا ثرا لعمل أفلام وثائقية عنها، وقد تناولنا ذلك وإسهام الصورة السينمائية والفيلم الوثائقي في الربيع العربي في مقال سابق هنا.
بيد أن الفيلم الروائي الذي يعتمد على إعادة بناء الحدث ضمن مسار سردي ويحتاج إلى إمكانيات إنتاجية أكبر، ظل متعثرا ومرتبكا في معالجة مثل هذا الحدث الكبير، وهذا ما تكشف عنه أي مقارنة بين بعض أول الإنتاجات الروائية التي حاولت التعبير عن "ثورة 25 يناير" وتلك التي انتجت في السنوات الأخيرة عنها، كما هي الحال، على سبيل المثال لا الحصر، بين فيلمي "18 يوما" الذي أنتج في عام 2011 خلال وبعد أيام الثورة بقليل وفيلم "عيار ناري" المنتج أواخر 2018.
بين زمنين
قدمت السينما المصرية عددا من الأفلام الروائية التي تناولت "ثورة 25 يناير"، من أمثال: "بعد الموقعة" ليسري نصر الله، الذي عرض عام 2012 و "فرش وغطا" لأحمد عبد الله، و"الشتا اللي فات" لإبراهيم بطوط، المُنتَجين عام 2013. و "حظ سعيد" لطارق عبد المعطي 2012 ونوارة لهالة خليل عام 2015 و"اشتباك" لمحمد دياب 2016 وغيرها، ونرى هنا أن مسار تقديمها الزمني، أي مدى قربها زمنيا من زمن وقوع الأحداث ومدى بعدها عنها، شكل عاملا حاسما في معالجة هذه الأفلام لوقائع الثورة مع الأخذ بنظر الاعتبار تطورات الأحداث اللاحقة لها.
مشهد من فيلم اشتباك للمخرج محمد دياب
ولصعوبة حصر تحليل كل هذه الأفلام في حيز هذا المقال الضيق؛ سنقصر تناولنا لها هنا على المقارنة بين المعالجة السينمائية لموضوع الثورة بين مرحلتين زمنيتين وبين نموذجين سينمائيين لأنها تقدم لها صورة موجزة عن مسار المعالجات السينمائية لوقائع الثورة.
إن مثل هذه المقارنة تكشف بوضوح عن وجود انقسام في النظرة إلى أحداث الحراك الشعبي في 25 يناير في مصر، كما توضح الفرق بين معالجة الحدث لحظة وقوعة أو بعد وقوعة بقليل، عن تلك التي تأتي بعد انقضائه ومرور زمن طويل نسبيا عليه.
ففي "فيلم 18 يوما" الذي يمكن أن نعده أول استجابة من مخرجي السينما الروائية لأحداث 25 يناير، نرصد استجابة جماعية من عدد من مخرجي السينما للحاق بالأحداث المتسارعة في الواقع والتعبير عنها إبداعيا؛ لذا كان قالب الفيلم الروائي القصير هو الأقرب لمثل هذه الهبة والاستجابة العفوية، في التعبير عن تلك التحولات المتسارعة في الواقع.
فسارع عشرة مخرجين لتقديم عشرة أفلام روائية قصيرة في زمن فيلم روائي واحد، ملتقطين قصصا مختلفة تعبر عما يجري أمامهم على أرض الواقع وتعكس مواقفهم منه عبر منظورات متباينة وأساليب فنية مختلفة.
لقد تركت لنا هذه الاستجابة العفوية بكل ارتباكاتها أحد أجمل الأفلام التي عبرت عن الثورة المصرية وواكبت تطورها، بمنظورات درامية مميزة ولغة بصرية شفافة تحاول أن تسهم إبداعيا في صناعة الحدث الجاري أمامها، والأهم هنا ما يمكن أن نسميه ب "الصدق الإبداعي" في التعامل مع هذا الواقع وتحولاته المتسارعة.
وللأسف لم يعرض هذا الفيلم عرضا جماهيريا كاملا في مصر، رغم الاحتفاء النقدي به وعرضه في عدد من المهرجانات العالمية، بدءا من مهرجان كان السينمائي الدولي. ويلف الكثير من الغموض موقف السلطات المصرية منه، ففي الوقت الذي أشيع أن الفيلم مُنع في مصر، وقام بعض مخرجوه بتسريب نسخ منه للعرض على الإنترنت لإيصاله إلى جمهوره الحقيقي، تنفي الرقابة المصرية أنها أصدرت منعا بحق الفيلم، وتقول إن أحدا من منتجيه أو مخرجيه لم يتقدم بطلب لترخيص عرضه جماهيريا في البلاد!
10 مخرجين و 10 رؤى
ملصق فيلم 18 يوما ،FACEBOOK
وساهم في الفيلم عشرة مخرجين من أجيال مختلفة ومستويات متباينة وهم: شريف عرفة، يسري نصر الله، كاملة أبو ذكري، مروان حامد، شريف البنداري، محمد علي، خالد مرعي، مريم أبو عوف، أحمد عبد الله، وأحمد علاء الديب.
والتقط المخرجون قصصا مختلفة خلال ال 18 يوم بين انطلاق الحراك الشعبي في 25 يناير وتنحي الرئيس المصري حسني مبارك، ومن هنا جاءت تسمية الفيلم "18 يوما".
ففي الفيلم الأول "احتباس" يلجأ المخرج شريف عرفة إلى استعارة مستشفى الأمراض العقلية ونزلائه المعزولين الذين يستفيقون على حدوث الثورة، تعبيرا عن البلاد المعزولة تحت الاستبداد، ويحاول أن يجعل من نزلاء المستشفى ممثلين لخيارات مختلفة في المجتمع المصري، فنرى عقيد الشرطة السابق ومدرس تاريخ ومذيع وإعلامي سابق وشاب متدين ورجل أعمال، يجمعهم المصح النفسي وتتباين استجاباتهم للثورة بتباين خلفياتهم الاجتماعية هذه.
وفي الفيلم الثاني "خلقة ربنا" نتابع مع المخرجة كاملة أبو ذكري تحولات فتاة مصرية من حارة شعبية (الممثلة ناهد السباعي) كانت تخشى عقوبة الرب إذا صبغت شعرها بلون أصفر إلى مشاركة فاعلة في المظاهرات التي نزلت لتبيع الشاي فيها، بعد إعجابها بحماسة أحد الشباب المشاركين فيها.
وينقل مروان حامد في فيلم "19-19" صورة قاسية عن واقع التعذيب التي يتعرض لها ناشط سياسي (الممثل عمرو واكد) يعتقل في إحد مقرات أمن الدولة. ويركز على تحولات المحقق السادي المترافقة مع تطورات أحداث الثورة.
وينقلنا المخرج محمد علي إلى شريحة أخرى مسحوقة تحضر في ساحة التظاهر، ولكن لكسب قوتها عبر بيع الأعلام للمتظاهرين، وهي شريحة مسحوقة تحت ثقل البحث عما يديم قوت يومها ولا تمتلك (ترف) التفكير في الحرية والثورة.
وفي فيلم "تحرير 2-2″، تنظر مريم أبو عوف إلى ما عرف بموقعة الجمل من منظورين: الأول عبر حكاية مجموعة من الناشطين الذين قتلوا في الموقعة والثاني عبر حكاية شاب فقير لا يملك قوت يومه، يتم استئجاره (كبلطجي) للوقوف بوجه المتظاهرين ورفع صور مبارك.
وينقلنا شريف البنداري في "حظر تجوال" إلى قصة رجل وحفيده يباغتهما حظر التجوال عند عودتهما من المستشفى، وفي الوقت الذي ينزعج الجد من منظر المدرعات العسكرية التي تغلق الشوارع، نرى الطفل يحلم بأخذ صورة على دبابة وهذا ما يتوفر له مع وصول المتظاهرين وفتح الطرق صباحا.
المخرج يسري نصر الله وأبطال فيلمه بعد الموقعة في مهرجان كان 2012 ،GETTY IMAGES
وأدى الممثل أحمد حلمي في فيلم "كحك الثورة"، الذي كتب نصه هو وأخرجه خالد مرعي، دور خياط يضطر إلى البقاء في المحل الذي يعمل فيه والقريب من ميدان التحرير نحو ثلاثة أيام من دون طعام؛ خائفا مما يحدث في الخارج من هيجان وصدامات ومسجلا يومياته ومشاعره لوالده على شريط كاسيت.
وفي فيلم "شباك" لأحمد عبد الله، يصبح الشباك المدخل الرابط بين عالمين، الشاب المنعزل في شقته "أحمد الفيشاوي"، والمتفرج الذي لا يشارك في الاحداث مقابل جارته الشابة الناشطة التي تنزل يوميا إلى ساحة التظاهر، ويعتمد عبدالله على الصورة كليا في الفيلم الذي يخلو من الحوارات. بيد أنه يجمع الفتاة والشاب في النهاية بعد نزوله إلى الميدان مع تنحي مبارك ولكن في كادر تتوسطهما فيه دبابة.
ويقدم المخرج يسري نصر الله صورة علاقة زوجية مهددة بالتفكك جراء رغبة الزوجة (منى زكي) في النزول إلى التحرير والمشاركة في الاحتجاجات ورفض الزوج (أسر ياسين) وخوفه عليها. وعندما تنزل الزوجة في النهاية للتظاهر يتبعها الزوج ليسيران معا وسط المتظاهرين المطالبين باسقاط النظام.
ومثل فيلم "كحك الثورة" يقدم أحمد علاء في "أشرف سبرتو" حكاية شاب يعمل حلاقا في محل ورثه عن والده قرب ميدان التحرير؛ يغلق أبوابه في بداية الأحداث، لكنه بعد الهجمات على المتظاهرين يقرر فتح أبواب محله وتحويله إلى مستوصف ميداني لمعالجة المتظاهرين المصابين.
"عيار ناري" بعد الثورة
img loading="lazy" class="lazy lazy-hidden css-1vsigzm-StyledImg-fadeIn e1enwo3v0" src="https://www.alrakoba.net/wp-content/plugins/a3-lazy-load/assets/images/lazy_placeholder.gif?resize=708%2C415" data-lazy-type="image" data-src="https://ichef.bbci.co.uk/news/640/cpsprodpb/1338F/production/_116653787_gettyimages-852090208.jpg" alt="أدى الممثل أحمد الفيشاوي دور الطبيب الشرعي في فيلم "عيار ناري"" width="708" height="415" data-recalc-dims="1" /أدى الممثل أحمد الفيشاوي دور الطبيب الشرعي في فيلم "عيار ناري"،GETTY IMAGES
وإذا كانت معايشة الحدث والرغبة في التعبير الآني المباشر عنه والمشاركة فيه، قد جعلت من بعض هذه الأفلام القصيرة أقرب إلى اللافتات السياسية أو الانطباعات المباشرة والسريعة عن جوانب منه أو شرائح مشاركة فيه أو كانت على هامشه؛ فإن النظر إليه عن بعد، بعد مرور فترة زمنية عليه، يمنح فرصة للتأمل في الحدث وتحليله والبحث المستفيض في محركاته وعناصره الفاعلة وتناوله في (جنرات) وأشكال فنية إبداعية "مسترخية" بعيدا عن الضغط الآني للحدث وتأثيراته المباشرة.
ويأتي فيلم "عيار ناري" بعد مثل هذه الفاصلة الزمنية، لكنه لم يختر الغوص في تحليل الثورة ودوافعها ومحركاتها، بل ذهب إلى رصد فرضية ترصد حالة واحدة (شاذة ربما عن السياق العام)، واستثمر الإثارة فيها للخروج بعمل تشويقي في إطار جنرة أفلام تشويق وجريمة تصبح أحداث الثورة مجرد خلفية له.
وقد نجح العمل، وهو المحاولة الإخراجية الروائية الأولى للمخرج كريم الشناوي عن سيناريو لهيثم دبور وبطولة أحمد الفيشاوي وروبي، في أن ينسج مسارا تشويقيا حول حكاية طبيب في الطب الشرعي (الممثل أحمد الفيشاوي) يعيش في عزلة عن الآخرين وعلاقة متوترة مع والده الوزير السابق الذي تحوم حوله شبهات فساد، فينغمس في الإدمان على الكحول. لكنه في الوقت نفسه مخلص في عمله ويتفانى في البحث عن الحقيقة، خاصة في تحديد أسباب مقتل الاشخاص الذين يشرح جثثهم تحت شبهات جنائية.
وبعد تشريح جثة شخص قتل في المظاهرات ويصفه الجميع بأنه "شهيد" قتل على أيدي قناصي وزارة الداخلية التي استهدفت المتظاهرين، يكتشف أنه قد قتل بعيار ناري أطلق عن مسافة قريبة جدا منه، الأمر الذي ينسف الرواية السائدة عن الأحداث.
ويتعرض الطبيب لضغوطات بعد تسرب تقريره إلى الصحافة من أجل تغييره ليتناسب مع السائد، ويهاجم متظاهرون بينهم شقيق للقتيل مبنى الطب الشرعي متهمين إياهم بتبرئة قتلة المتظاهرين. كما يُعلق عمله الوظيفي ويُحال إلى لجنة تحقيق. فيلعب بنفسه دور التحري السري الذي يحقق في القضية من أجل اكتشاف حقيقة مقتل الشخص الذي شرح جثته، وتتدخل الصحفية التي نشرت المقال لمساعدته، فيقومان معا بملاحقة لأخ "الشهيد" الذي حصل على شقة جديدة، وانتقل للعمل من المحاجر إلى محل أنيق لبيع مستلزمات الهواتف النقالة منحه إياه شخص متنفذ ممن يسهمون في دعم المتظاهرين!، ويستعد للزواج من خطيبة أخيه. والاتصال بوالدته وخطيبته وزيارة منطقته الشعبية، ليكتشفا في النهاية أن من قُدم على أنه شهيد كان شابا عابثا لا علاقة له بالمظاهرات وكان محملا بالديون، وخطيبته حملت منه قبل الزواج وسعى لحل مشاكله بتهديد أمه لبيع منزلهما المتواضع، فيصطدم مع أخيه الذي يحاول حماية أمه مما يسفر عن مقتله خلال الشجار بينهما، وتلفق الأسرة بعد ذلك قضية مقتله في المظاهرات لتنال التعويضات ويحاول الأخ لملمة الفضيحة الاجتماعية بالزواج من خطيبته.
تحذير: المحتوى من طرف ثالث قد يتضمن إعلانات
لقد أثار هذا الفيلم عند عرضه الأول في مهرجان الجونة السينمائي جدلا كبيرا، واتهم البعض الفيلم بالإساءة إلى "ثورة 25 يناير"، ومحاولة تبييض صفحة النظام السابق من المسؤولية عن القمع ودماء من سقطوا في الاحتجاجات، بينما دافع آخرون عنه بأنه يأخذ حالة فردية ويكشف عمن حاولوا استثمار هذا الحدث العام لمنافع شخصية.
وواقع الحال، إن هذا الفيلم يظل محكوما بالاستقطاب الجاري في مصر بين النظام الحالي ومعارضته لتقديم سرد تاريخي يجير ما وقع في 25 يناير وبعدها لمصلحة روايته الرسمية. فإذا كان منتقدو الفيلم يجنحون إلى التعميم في اتهامه بتبييض صفحة أجهزة النظام السابق وتبني ما يرونه رواية ثورة مضادة، فإن الفلم نفسه لم ينج من مثل هذا التعميم، كما في المقدمة المنطقية التي بنى أحداثه عليها في أن الحقيقة جارحة ومرة ومن المنطقي تجاوزها إحيانا لأسباب إنسانية وكي تستمر الحياة بسلام واستقرار (فالطبيب في النهاية ينكر تقريره ويؤيد الرواية السائدة بعد معرفة دوافع الأم والأخ، كما يتصالح مع فكرة أن والده الذي يقول له أن ما يهمه هو: هل أنه مذنب بنظره ونظر اخته؟ وليس ما تراه الأغلبية السائدة التي تتهمه بالفساد).
ولولا ظل هذه الملابسات، لكان هذا الفيلم قد قدم نموذجا لنظرة متحررة من القدسية التي يضفيها البعض على التضحيات التي تحدث في أحداث كبيرة مثل الثورات، ومراجعة للماضي بمعزل عن السرديات المهيمنة التي تكرسها القوى المنتصرة والمهيمنة بعدها. كما هي الحال مع تلك الأفلام التي انتجت في فرنسا مطلع السبعينيات التي أعادت النظر في القدسية التي كانت تضفيها الديغولية على فترة المقاومة الفرنسية وقدمت منظورات ومراجعة مختلفة لها، وأثارت جدلا فكريا وسياسيا وفنيا واسعا في فرنسا.
لكننا لا نرى أن هذا الفيلم يقع تحت هذا التصنيف، فهو لم يخرج عما سميناه استقطاب الروايات المتناقضة لوقائع ومآلات "ثورة 25 يناير" في مصر، وأهداف القوى المتصارعة عليها حتى وإن حاول تقديم نفسه في صيغة فيلم تشويق تصبح الثورة مجرد خلفيه له.
إن هذه المقارنة بين نموذجين في مرحلتين زمنينيتن مختلفتين، تعطي لنا لمحة عن المسار الذي اتخذه تقديم "ثورة يناير" في السينما المصرية، ففي المرحلة الأولى نجد أن الحدث ما زال بحرارته، ويهيمن على سعي الفنانين؛ ليس للتعبير عنه بصدق فني فحسب، بل ومحاولة اللحاق به والمشاركة في صنعه. لكننا في المرحلة الثانية أكثر تحررا من آنية الحدث وأكثر قدرة على تحليله وهضمه وتقديمه ضمن القوالب والأشكال الفنية السينمائية السائدة وباشتراطاتها.
وإذا كان فيلم "عيار ناري" قد نقل "ثورة يناير" إلى مجرد إطار لسرد بوليسي تشويقي، فأننا في انتظار تلك الأفلام التي تحلل برويّة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والصراعات الطبقية والسياسية التي قادت إلى تفجرها وتحكمت في مساراتها ومآلاتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.