عندما زرت السودان العام المنصرم، كان أن أتتني الرفيقة والصديقة/ أماني جعفر.. وما بيننا شقيقها ياسر، وأخواتي، وجمعٌ غفير من الأصدقاء والصديقات. ولقد كان هناك ما يُشبه التواطؤ بيننا: فنحن لم نلتقي منذ زمان ليس باليسير، رحل خلاله ياسر، فكان تواطئنا أن نقيم مأتماً له.. فدموعي عليه ظلّت حبيسة المآقي لردح من الزمان.. ولقد كان؛ يوما من تلك الأيام التي يشتعل فيها الأسى، تصعَد فيه الروح إلى الحلقوم، يحزمك الحزن برباطٍ لا فكاك منه.. كنت أستمع إليها وهي تحكي عن الخطأ الطبي الذي لا يُغتفر – ليس بسبب الطاقم الطبي وحده، ولكن بسبب سخرية القدر أيضاً! كنت أنصت إليها، أنصت إلى تنهداتها وهي تنده إسم أسامة إلى جانب إسم ياسر.. تردّد ذلك الإسم بنفس اللوعة التي تذكر بها إسم ياسر. لم أفهم، لم أكن أعلم بأنّ لهما ياسر وهي شقيق بذلك الإسم. أنا إبن مدينة ود مدني التي أنجبتهم، أحسست بعارٍ فادح وأنا أسأل عنه، وهي تنظر إليّ وكأنّ على رأسها الطير..! مرّت الأيام مثل عاداتها، وتعرّفت على رانيا جاويش، زوجة ورفيقة أسامة، من خلال كتاباتها، من خلال حكيها الذي تجيده عن الحياة ومنعرجاتها الشتّى، وحكيها الفاجع عن صنو روحها أسامة. تعرفت من خلال كتابات رانيا كم يكون الحزنُ جليلا ومهابا وهي تكتب عنه. * لقد كان خيار الأخويْن، ضمن خيارات لأصدقاء ورفاق آخرين، الإنضمام للحركة الشعبيّة لتحرير السودان خيارا واعياً، وأعني بذلك رؤيتهم لضرورة النضال المشترك لشعوب السودان قاطبة من أجل وطن يسع الجميع: بثقافاتهم المتنوّعة، بأديانهم وسِحَنهم المتباينة. ولي قناعة راسخة، كما لآخرين، بأنّ السودان وطنٌ مُفترض: السودان بحدوده التي رسمها المستعمِر البريطاني منذ بداية الألفيّة الثانية وفيما بعد الحرب العالميّة الثانية، حدّدها بعناية لتحمل بداخلها كلّ عوامل التفخيخ (كما هو الحال بجميع الدول الأفريقيّة الأخرى ومع مُستعمِرين آخرين) لتمزيق الشعوب والقبائل الواحدة بين دُول مُختلقة فإن نظرنا شرقاً، غربا، شمالا وجنوبا سنجد القبائل والشعوب ذات الثقافة المشتركة قد فصلت بينها حدود وهميّة لا تعترف بها تلك الجماعات إبن البجة في شرق السودان ستجده زعيم قبيلة في "السودان" بينما إبن عمّه زعيم القبيلة في إريتريا؛ ومن ثمّ كذلك في غربنا وجنوبنا وشمالنا.. مع تشادوأثيوبيا وأوغندا وكينيا..إلخ. فالتداخل الثقافي لا يتم بمعزل عن الجغرافي في المراعي والزراعة العماد الإقتصادي لهذه القبائل والشعوب المتداخلة. إرتضت الشعوب الأفريقيّة، كما في أمريكا اللاتينيّة بهذا الإرث اللإستعماري في التقسيم. وناضلت، وما زالت تناضل من أجل المعايشة معه كأمر دونما مشيئة، فالمخاطر والمعضلات تتعقّد يوما بعد يوم. يكفي ما نشهده اليوم من نزاع مع "الجارة" أثيوبيا، في نزاعاتٍ مرتقبة مع مصر، جنوب السودان وتشاد. فما الذي سينجينا من مثل هذه المآذق والمزالق.؟!! * لقد تعامل نظام البشير مع قضيّة جنوب السودان بخسّة ودناءة وعدم وطنيّة؛ فلقد رأى خطرا ماحقا عليه من تواجد "الحركة الشعبيّة لتحرير السودان" أيام أن كانت ضمن تحالف (تحالفات؟!!) التجمّع الوطني الديمقراطي. فعمل بكلّ ما بوسعه لإبعادها، أو بالأحرى إبعاد الجنوب برمّته من المعادلة السياسيّة.. دعم الفصائل المنادية بالإستقلال عن الشمال في وجه الخط الوحدوي للدكتور الشهيد/ جون قرنق، دعمهم بالمال والسلاح ليُضيّقوا على خط الدكتور مواعينه، ثمّ أبرموا معه الإتفاقيّات، وأقروا حق تقرير المصير بدون شروط، ثمّ عملوا بهمّة يُحسدون عليها كيما يجعلوا الفترة الإنتقالية طاردة لأحلام الجنوبيين في الوحدة الجاذبة – بعكس ما نصّت الإتفاقيات وبروتوكالاتها. فمذا تبقّى إذن لإثبات عدم الوطنيّة والتفريط المخذي في جنوب الوطن؟!! ولكن، للحقيقة أيضا، أن كل ذلك لم يكن ذنب البشير ونظامه وحده.. فهي سياسات إتفقت عليها كلّ الأنظمة التي حكمتنا: فالحرب التي كان مستعرة في الجنوب كانت جرائم حرب على طول الخط؛ ومما يؤسف له أنّ الإعلام الشمالي (المملوك للدولة والخاص) كان قد صمّ أذنيه وأغمض عيناه عن كل ما يجري من مخازي. ومثلما جرى لاحقا في دارفور، فإنّ إنسان الشمال والوسط لا يدري بما يجري في أطراف وطننا – رجل أفريقيا المريض! وللحقيقة أيضا، لم يكن للحركة الشعبيّة حليفا مما يُسمّى بالأحزاب الشماليّة الكبيرة – شيوعي، أمّة وإتحادي. لقد حاربوها جميعا وتأفّفوا من العمل والتنسيق العسكري معها حين إقترحت تكوين لواء السودان ليكون نواة لجيش حديث ومُحترف. * أكتب هذا بمناسبة الشجن التي ذكرت، ولا أدري كيف إحتملت الرفيقة/ أماني، ورانيا، وبقيّة الأسرة والأصدقاء والصديقات كلّ هذا الألم الممضّ، غير أنّه يذكّرني بفاجعة أخرى: رحيل الأخويْن الشهيديْن/ عمار وحكيم محمود الشيخ، أشقاء محمد مدني، وأنا لا أدري كيف أحتمل كلّ ذلك إلى جانب ياسر وأسامة!