تقول الأسطورةُ الصينيةُ القديمة إن شاعراً رأى أضواءَ القمر تتكسَّر بين أمواج بحيرةٍ ساكنة، فأخذه بهاءُ المنظر وقرّر أن يشرب ماءَ البحيرةِ حتى يختزلَ جمالَ القمرِ داخلَ جسده. …………… طويلُ القامة كما نخلة، بهيُ اللونِ كما أبنوسة، وأخضرُ الروحِ كما نيمةٍ في فصلِ الخريف. هو رجلُ يختصرُ الشجر! تقول رزنامةُ عمر العم "صالح الفكي " إنه ولد في منطقة "أبو جبيهة " في غرب السودان. هناك قضى طفولته متسلقاً الأشجار، راكضاً وراء الغيوم، مغتسلاً بأمواه المطر (لا بُدّ أنه وَرِث ذاك السلامَ النفسيَ الهائل من تلك البقعة الجنَّة)، وحين بلغ العاشرة تقريباً حزم حقائب أحلامه ويمَّم وجهه صوب "الخرطوم". "كانت الخرطومُ عاصمةً بحق في خمسينيَّاتِ القرنٍ الماضي ". هكذا قال لي وهو يحتضنُ حفيدته بحنانٍ دفيق." أقمتُ في بيت أختي، وأذكر أنني عمِلتُ في محطةٍ للوقود كان يمتلكُها الفنان العظيم "أحمد المصطفى"، فكنتُ أقضي سحابة نهاري ملطَّخاً ببقع الزيتِ والبنزين، حتى إذا أناخَ المساءُ على دروبِ المدينةِ؛ خرجتُ ورفاقي نرتادُ أفخم المطاعم، ثم نعرجُ بعد ذلك على دور السينما. كان الفيلمُ يعرض في دور العرض في الخرطوم وأم درمان وبحري بعد عرضه في لندن بأيام قلائل. كان النيلُ نهراً حقيقياً، تمتدُ على خاصرتيهِ الخضرةُ الساحرة. وكانت شوارعُ المدينة نظيفةً وبيوتُها مرتبةً وأهلُها في غاية التحضُّر". سألته عن الفنان "أحمد المصطفى" فقال مبتسماً: " كان رجلاً دمثَ الخلق، أنيقَ الملبس، متواضعاً كما العشب؛ ليس كأولاد أيامكم هذه ". بعد سنوات قلائل قادَ القدرُ خطى رجلٍ لتدلف حياة العم "صالح". ذاك هو "الخليفة الحسن"، والد الأستاذ العظيم "أحمد الخليفة". أقنع "الخليفة الحسن" العم "صالح" بتركِ محطةِ الوقود والعمل لدى السيد "عبد الله خليل " رئيس وزراء السودان زمانئذٍ. وبالفعل قضى معه العم "صالح "بضع سنوات التقى بعدها بالإمام " عبد الرحمن المهدي " وانضم على يديه إلى كيان الأنصار. ثم قرَّر "العم صالح "أن يهاجر إلى "الشكينيبة" ليعمل مع "الخليفة الحسن". وهناك التقى بالشيخ "المكاشفي" ودلف على يديه إلى مدينة التصوُّف. " ذات يوم جاءت خالتك "مكّة بت محمود" ومعها أمها – حاجة آمنة بت نايل – إلى مسيد الشيخ "المكاشفي". أذكر أن الشيخ كان حينها محاطاً بلفيفٍ من صحبه، ولم يكد يرى "مكّة "حتى همس في أذنيّ قائلاً " بعون الله تعالى ستتقاسم وهذه البنت الذُّريَّةَ والمشاوير"، وصدقت نبوءة الشيخ وتزوجتُ خالتك "مكة" وأنجبتُ منها البنينَ والبنات". أمسك سؤالٌ بتلابيبِ فضولي فسألتُه عن حياته معها، كيف يعاملها، وهل انفصلا يوماً. ضحكَ ضحكته السامقة الصوت تلك وهتفَ " انفصلنا! أقسم بالله إن حاجة "مكةّ" لم تنم يوماً وهي غاضبةً مني. الدنيا لا تستحقُ هذا العناء. كم أشفق عليكم يا ولدي ". سألتُ نفسي حينها عن علاقاتِ جيلي القلقة، وعن المجازر التي كم ارتكبناها باسمِ الحب. العم "صالح" لا يعرف تزويغ الكلام، لكنه يحترفُ الحب، وقد ظلّت حاجة "آمنة" تقيمُ في بيته حتى غادرت الفانية. " عملتُ سائقاً لإحدى عربات "الخليفة الحسن"، وأذكرُ أنه حين تمّ افتتاحُ مشروع امتداد المناقل أحضرتُ "محمد وردي" و"الكابلي" و"أحمد المصطفى" ليشاركوا أهل المنطقة أفراحَهم غناءً. جاءوا معي من الخرطوم في لوري عادي يا بني". سألته إن كان قد مارس يوماً مهنةً أخرى غير "سواقة" العربات، فردّ بالنفي، ثم رفع رأسه واستطرد: " لقد جعل الله رزقي ووطني وراءَ عجلةِ القيادة. وأذكرُ أنني عدتُ يوماً من سفرٍ بعيد، وذهبتُ إلى مسيد الشيخ "المكاشفي" لأحييه فوجدتُ حاجة "آمنة بت نايل". علمتُ أنها سألته شيئاً من المال فأعطاها لكنني لم أٌقبل. لم يجبرني الشيخ وسألَ الله – بناءً على رغبتي – ألا أمدَّ يديّ لأحدٍ في يوم من الأيام. وبالفعل لم يحدث ذلك على الإطلاق. جاب العم "صالح" كل بقاع السودان على ظهر اللوري. " زرتُ كلَّ مدنِ السودانِ يا بُني. زرتُ الخرطوم ومدني وبورتسودان وحلفا والجنينة والفاشر وكسلا وجوبا وقيسان وغيرها. لامست إطاراتُ عربتي خيرانَ الجنوب، ورمالَ الشمال وقيعان الغرب وأطيان الشرق. كلُّ دروبِ السودان مغروسةٌ كما الأعلام في بؤبؤ عيني. رقدتُ تحت سماوات كردفان، وغسلتني أمطار جوبا، وتوضَّأتُ بمياه البحر الأحمر وعلَّقت بثيابي ذرات الحدود المصرية والتشادية والحبشية. حملتُ على ظهر اللوري خاصتي المهوقني والبن والمانجو والزيت والشاي واللحوم والحلويات والأسمنت والأوراق والبصل والأسمدة والبهائم. حملتُ الفنَّانين ورجال الدين والصعاليك والشباب والساسة. كان السودانُ حينها وطناً شاسعاً كالدنيا، كنا موفوري الكرامة لم نتبعثر في عواصم الكون، وكانت حدودُنا خطاً أحمرَ للأصدقاء قبل الأعداء، كانت مدن السودان ودروبه آمنةً، فكنتُ أوقف اللوري في سوق جوبا الكبير لثلاث ليالٍ دون أن يقربه أحد. رقصتُ مع الشلك والنوير، و تناولتُ الخبز مع المحس والسّكوت، واحتسيت القهوة في مقاهي الهدندوة وصلَّيتُ في مساجدَ الفور ". ذاك المساء، خرجتُ من بيت العم "صالح" وذاكرتي تفوحُ بروائحَ شتى. تأملتُ دروبَ القرية الضيِّقة. لشدَّ ما تشبه حياتي هذه الأزقة. أنا لم أرَ شيئاً في الكون. جيلي يكادُ يعيش خارج أسوار الحياة تقريباً، جيلي لم يعرف جغرافيا السودان سوى في أضابير كتب الجغرافيا. جيلي يحتاجُ أن يجوبَ هذا البلد الهائل الجمال ليحبه أكثر. جيلي فقير الذواكر. التفتُ ورائي فرأيتُ بيت العم "صالح" الصغير الكبير. لسعتني برودةُ المساء، فشددتُ قامتي ثم همست وجسدي يغوصُ في عتمة المساء؛ يا له من رجل! [email protected]