جاء في عدد من أجهزة الإعلام الحكومية والصحف أن مصادر مصرفية وُصِفَت بأنها موثوقة أن التحويلات ومشتريات النقد الأجنبي لدى المصارف قد زادت بمعدل 400 إلى 500 ألف دولار في اليوم. ولنفترض أنها 450 ألف في اليوم فهذا يعني إجمالي إيرادات 9.9 مليون دولار شهريا على اعتبار أن الشهر 22 يوم بعد استبعاد إجازة الجمعة والسبت أي إجمالي 3.7 مليار جنيه بمتوسط سعر 378 جنيه للدولار الواحد. فإذا كانت الكتلة النقدية في البنوك هي حوالي 24.9 مليار جنيه حسب البيانات المعلنة من البنك المركزي حتي الربع الثالث من عام 2020م فهذا يعني أن البنوك ستنفق كل هذه الكتلة النقدية بالكامل خلال 7 أشهر فقط (24.9 مليار / 3.7 مليار = 6.7 أشهر) مع العلم بأن هذه الكتلة النقدية ليست كلها نقد سائل في الخزينة، بل تشتمل على 20% احتياطيات الزامية لدي البنك المركزي وأيضا في شكل أصول أخري (شهامة وأخواتها)، بجانب النقد الذي يجب أن يتم الاحتفاظ به لدي الصرَّاف كنسبة سيولة يفرضها البنك المركزي على البنوك التجارية لمقابلة طلبات السحب من العملاء سواء كانوا أصحاب حسابات جارية تحت الطلب أو حسابات استثمار أو تحويلات …إلخ. بمعني أن البنوك إذا كانت فعلا تواصل في شراء هذا العرض المتواصل والمتزايد (حسب الإعلام الحكومي وشبه الحكومي المنظم) وبهذا المعدل الذي يفوق إمكاناتها ويزيد عن حجم الكتلة النقدية لديها فإنها حتما لن تستطيع الشراء بعد مرور سبعة أشهر وستتوقف عن الشراء خاصة وأن معدل دوران النقود في البنوك معدل ضعيف جدا باعتبار أن 94% من النقد المتداول موجود خارج النظام المصرفي. والغريب أن نفس الأقلام والأبواق الإعلامية تشير إلى تزايد حجم التحويلات وعمليات بيع العملات الصعبة للبنوك، ولكن في نفس الوقت نجد أن أسعار السوق الموازي متزايدة وتحافظ على فرق بينها وبين سعر البنك المعوم بثلاثة إلى أربع جنيهات للشراء وخمس إلي ست جنيهات للبيع، وأن الإقبال على السوق الموازي بسبب ضعف السيولة لدي البنوك ولعدم قدرتها على الوفاء بطلبات النقد المحلي والأجنبي للتحويلات من الخارج وعمليات الشراء المحلي بالسرعة المطلوبة يتزايد باستمرار وبهدوء أشبه بذلك الذي يسبق العاصفة. ولا زالت احتياطيات البنك المركزي والبنوك التجارية من النقد الأجنبي لا تذكر وتكاد تكون معدومة. وعلى البنك المركزي أن يفصح عن الأرقام الحقيقية في بياناته الرسمية إن كان الوضع عكس ذلك بدلا من الاعتماد على بعض الأبواق الإعلامية التي تعتقد أن وظيفة الإعلام هي التضليل والفبركة وإخفاء الحقيقة. كما تناول الإعلام الحكومي مقابلة وزير المالية جبريل إبراهيم مع المبعوث الأمريكي دونالد بوث وأنه ناقش معه دخول البنوك الأمريكية والغربية للسودان، وقد صورته على أساس أنه بمثابة الحدث الفعلي الذي تم على أرض الواقع في حين أن النقاش انحصر (كما جاء في الراكوبة بتاريخ الأمس 31 مارس 2021م) في مطالبة المبعوث الأمريكي للوزير جبريل بالعمل على تهيئة المناخ الاستثماري في السودان لإتاحة الفرصة لدخول البنوك الأمريكية والغربية والشركات الأمريكية العالمية في المجالات المختلفة للسودان. فأمريكا يمكن أن تمنح السودان قمحا ضمن برنامج المعونة الأمريكية، وممكن ترفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وتمنح السودان قرض تجسيري مقابل 335 مليون دولار تعويض لضحايا تفجير السفارتين الأمريكيتين في كينيا، وتنزانيا عام 1998م وتفجير المدمرة كول عام 2000م ومقتل الدبلوماسي جون غرانفيل عام 2008م، ومقابل التطبيع مع إسرائيل، ولكن دفع وإجبار البنوك والشركات الأمريكية والغرب عموما للاستثمار في السودان لا يمكن أن يتم بالوساطات أو حتي بالعمل الدبلوماسي (فقطاع الأعمال في أمريكا والغرب هو الذي يتحكم في قرار الحكومة وليس العكس) وإنما يمكن أن يتم بإعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي بالسودان هيكلة شاملة كاملة بحيث تصبح البنوك السودانية قادرة علي جذب استثمارات سوق رأس المال العالمي قصير وطويل الأجل ممثل في البنوك التجارية والاستثمارية المتخصصة للسودان وتكون قادرة علي بناء شبكة مراسلين دولية واسعة النطاق تغطي كافة حدود أسواق رأس المال العالمية. فانسياب حركة التحويلات المصرفية الإقليمية والعالمية لا تتم إلا من خلال ذلك وبعد أن يكون القطاع المالي والمصرفي السوداني جاذبا وقادرا لذلك. فالبنوك السودانية لا تملك عملات صعبة في الداخل والخارج وبالتالي فهي غير قادرة على الوفاء بأبسط متطلبات اتفاقيات المراسلين والتي تشترط ربط ودائع مصرفية بالعملات الصعبة في البنوك المراسلة تغطي حجم تعاملاتها وتشترط أن تكون قادرة على تغطية هذه الحسابات بالنقد الأجنبي باستمرار. وفي نفس الوقت تشترط تلك الاتفاقيات أن تودع البنوك الأجنبية ودائع بالعملات الصعبة في البنوك السودانية وهو ما تتجنبه هذه البنوك الأجنبية لعدم ثقتها في وضع القطاع المالي والمصرفي الذي يفتقر أصلا للاحتياطيات النقدية من النقد الأجنبي مما يعرض ودائعها لمخاطر عالية جدا. وما يحدث حاليا من تأخر صرف قيمة التحويلات الأجنبية وإحجام البنوك الأجنبية لتنفيذ التحويلات للسودان هو نتاج لذلك الضعف والعجز والفشل والفقر الكامل لتلك الشبكات من المراسلين، وأيضا لانعدام السيولة الكافية لدي البنوك والصرافات من العملة المحلية وبالتالي حتي المنافذ أو المؤسسات المالية العالمية التي أبرمت اتفاقيات مراسلين مع مؤسسات مالية سودانية بالداخل لتنفيذ التحويلات كمؤسسة وسترن يونيون قد تضطر لوقف تعاملاتها مع السودان إذا استمر الوضع علي ما هو عليه بفشل وكلائها داخل السودان بالوفاء لعملائها بقيمة تحويلاتهم بشكل فوري كما تفعل نظيراتها في كل بلدان العالم التي تنشط فيها وسترن يونيون الأمر الذي يؤثر سلبا علي سمعتها العالمية وما يمكن أن ينعكس حتي علي قيمة أسهمها وأصولها المتداولة في البورصات العالمية. فلتتوقف هذه الأبواق الإعلامية المضللة، وهذه المصادر المسمومة المسماة زورا بأنها موثوقة عن بث التضليل والإعلان عن أخبار يفضحها الواقع وتكشفها الأرقام على الأرض ولتتحلي الحكومة بالصدق أولا مع نفسها ثم مع الشعب والعالم ثانيا وأن تعترف بالقصور والفشل فأول شروط النجاح هو الاعتراف بالفشل والقدرة على محاسبة النفس والتحلي برحابة الصدر وعدم المكابرة والاستماع للنصح. [email protected]