ماذا حدث بالضبط؟ قبل سنة    ولايات أميركية تتحرك لحماية الأطفال على الإنترنت    قمة الريال والسيتي بين طعنة رودريجو والدرس القاسي    رونالدو ينتظر عقوبة سلوكه المشين    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    القبض على تاجر مخدرات بتهمة غسل 40 مليون جنيه    قطر.. متقاعد يفقد 800 ألف ريال لفتحه رابطاً وهمياً    خبير نظم معلومات: 35% من الحسابات الإلكترونية بالشرق الأوسط «وهمية ومزيفة»    "مطارات دبي" تدعو المسافرين التحقق من حالة رحلاتهم "الحالة الجوية السيئة"    من الزيرو إلى الهيرو    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    شاهد بالفيديو .. قائد منطقة الشجرة العسكرية اللواء د. ركن نصر الدين عبد الفتاح يتفقد قوات حماية وتأمين الأعيان المدنية المتقدمة    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    البنى التحتية بسنار توفر اطارات بتكلفة 22مليون لمجابهة طوارئ الخريف!    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    ضياء الدين بلال: الرصاصة الأولى ونظريّة (الطرف الثالث)..!    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    الموعد الأضحى إن كان في العمر بقية،،    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    الضربة المزدوجة الإنهيار الإقتصادى والمجاعة في السودان!    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رزنامة الأسبوع: إِنْسَانٌ اِسْتِثْنَائِي!
نشر في الراكوبة يوم 05 - 04 - 2021


الإثنَين
أوردت «سونا» أن وزارة الدَّاخليَّة أكَّدت، في بيانٍ صحفيٍّ، ألا عودة لقانون «النِّظام العام»، على العكس مِمَّا طالب به، مؤخَّراً، الفريق عيسى آدم، مدير شرطة ولاية الخرطوم، في لقاءٍ مع قناة الجَّزيرة، كما وجَّهت الوزارة رئاسة الشُّرطة بضبط خطابها الإعلامي، في نقدٍ واضح لتلك المطالبة التي أثارت غضباً واسعاً. ومن جانبها أكَّدت النِّيابة العامَّة أن «ذلك القانون قد ألغي بلا رجعة، ولم يعُد جزءاً من المنظومة التَّشريعيَّة»؛ كما اعتبرتها منظمة «حارسات» تعبيراً عن «حنين أنصار الإسلام السِّياسي لنظامهم البائد»؛ وأضافت: «تعلَّمنا من عهد السِّياط، والإذلال، أن المستبدِّين الذين يُنصِّبون أنفسهم أوصياء على النِّساء، هم أنفسهم الذين يسرقون المال العام، ويختطفون اللقمة من أفواه الفقراء، ويخرِّبون الصَّحَّة، والتَّعليم، ويلغون في دماء الأبرياء، ويدقُّون المسامير في رؤوس المعتفلين، ويُدخلون السِّيخ في أدبارهم، ولا يتورَّعون عن ارتكاب كلِّ مفسدة وهم يحوقلون، بعد كلِّ ذلك، باسم الدِّين وشرع الله»!
وحيث أن البيانات والتَّوجيهات وحدها لا تكفي، فإن أقلَّ ما توجَّبت معاملة ذلك التَّصريح الأخرق به هو إقالة صاحبه، أو مطالبته بالاستقالة، خاصَّة أن من آثاره الكارثيَّة أن بعض المنتهكين المتشنِّجة اعتبروا تَّصريح كبير شرطة الخرطوم رخصة لهم، فأقدموا، فعليَّاً، على جلد بعض الفتيات بالسِّياط في الشَّوارع، بسبب لبسهنَّ، ولمَّا سؤل هو عن ذلك، أجاب، لا فُضَّ فوه، قائلاً: «ما في زول بجلدوه بلا سبب»! مع ذلك فإن قراراً مخفَّفاً صدر، فقط، بنقل الرَّجل إلى الوزارة، وإحلال الفريق زين العابدين عثمان محله!
الفريق شرطة عيسى آدم إسماعيل مدير شرطة ولاية الخرطوم
قانون «النِّظام العام»، الذي يطالب الفريق عيسى بعودته، استهدف بالعداء السَّافر، خلال سنواته الظلاميَّة، قيَماً اجتماعيَّة مرعيَّة، حيث ظلت الشَّكوى منه تنصبُّ على مصادمته لجملة التَّصوُّرات الشَّعبيَّة عن خير والشَّر، الصَّواب والخطأ، الجَّمال والقبح، الفضيلة والرَّذيلة، الأمر الذي من شأنه الإضرار الفادح بالتَّكوين النَّفسي الاجتماعي، على حين لم يدافع عنه غير الرَّسميين، والقادة، والمحاسيب، والقوى الدَّاعمة للنِّظام البائد، كونه كان يحقِّق لهم أقصى ما يُبقي على وعي المواطنين رهن الرِّهاب من تلك السُّلطة، باسم القانون، في كلِّ الأوقات! فمن أكثر الأوهام البُرجوازيَّة تضليلاً تصوُّر «القانون» قريناً ل «العدالة»، كقوَّةً خارجيَّةً تنتصب فوق الجَّميع، وعلى مسافة واحدة من الجَّميع، بينما هو، في حقيقته، محض أداة طبقيَّة في يد الأقليَّة، تستخدمها لحمل الأغلبيَّة على ألا ترى إلا ما تراه هي! لذا يلزمنا التَّفريق بين مفهومي «القانون» و«العدالة»، فالأخيرة واعز باطني، من صميم «الفطرة السَّليمة»، يوجِّه الضَّمائر نحو «القيَم الخيِّرة»، وينفِّرها من نقائضها. أمَّا «القانون» فمحض نصوص يصوغها «دجَّالون سلطانيُّون» يوهمون النَّاس بأن الفضائل كلها تدور حيثما دارت هذه النُّصوص، فيتحقَّق الحقُّ بقانون، وينزهق الباطل بقانون، ويجيء الخير بقانون، ويذهب الشَّرُّ بقانون، ويتجلَّى الجَّمال بقانون، وينقشع القبح بقانون، وتسود الفضيلة بقانون، وتتراجع الرذيلة بقانون، بينما «القانون»، في واقع الأمر، لا يكتسب شرعيَّته، ولا يكون «عادلاً»، إلا باستشعار النَّاس، ذاتيَّاً، ومن تلقاء أنفسهم، واجب الالتزام به.
من هذا المدخل ننفذ للنَّظر في قانون «النِّظام العام لسنة 1996م». ونختار أكثر مواده عدواناً على «القيَم» المتَّصلة، تحديداً، بالموقف من المرأة، وإثنيَّات الهامش، ومراكز النَّشاط الثَّقافي، وحرِّيَّات الإبداع الموسيقي والغنائي. في هذا الإطار، وفضلاً عمَّا أضيف إليه من مواد «القانون الجَّنائي لسنة 1991م» التي تلاحق حتَّى «الأزياء»، وتجعل من «تجريمها» سوط عذاب مسلَّط على الخلق، خاصَّة النِّساء، فإن المواد المشار إليها من قانون «النِّظام العام»:
(1) تحظر إقامة أصغر «حفل غنائي عائلي»، ولو بأضعف «مكبِّر صوت»، مِمَّا يُستخدم ضمن أجهزة الاستماع المنزليَّة، إلا بشروطٍ، أوَّلها التَّصديق الرَّسمي المقيَّد بساعة معيَّنة لإنهاء الحفل، والنَّصُّ على عقوبات، حالَ تجاوز هذه الشُّروط، تشمل السِّجن، والجَّلد، والغرامة، ومصادرة الآلات الموسيقيَّة، ومكبرات الصُّوت. وتبرِّر السُّلطة هذا العسف بحماية الجِّيران من «الإزعاج»، رغم كفاية تجريم «الإزعاج» في القانون الجَّنائي، ودون تحديدٍ، على الأقلِّ، لقوَّة مكبِّر الصُّوت المحظور، على غرار تحديد السُّرعة المسموح بها، مثلاً، في قانون المرور، كما ودون استصحابٍ حتَّى لتقديرات الجِّيران الذين يُدَّعى حمايتهم، دَعْ ما ينطوي عليه حشرُ أنف السُّلطة في مثل هذه العلاقات من ترخُّص مستقبح، واستهانة غليظة بقيمة الجِّوار نفسها في الثَّقافات السُّودانيَّة! هكذا يعتدي القانون، بحجر واحد، على جملة قيم ثقافيَّة تتعلق بحريَّة الإبداع، والتَّذوُّق، وحقوق الأسر، وخيارات حياتها، وخصوصيَّة الجِّوار، وما ذلك إلا لتحقيق أغراضٍ أبعد ما تكون عن «الصَّالح العام»!
(2) تحظر هذه المواد، بالمثل، إقامة أيَّة «فعاليَّة عامَّة»، خصوصاً إن كانت «موسيقيَّة غنائيَّة»، إلا بإذن من سلطات الأمن، وتصديقٍ من شرطة النِّظام العام، مع كلِّ ما يسبِّبه ذلك من عنتٍ للمؤسَّسات المعنيَّة بالنَّشاط الفكري، كمعاهد العلم، والمراكز والأندية الثَّقافيَّة، وإعاقة مثل هذه الفعاليَّات، حتَّى لو اتَّخذت الطابع البحثي أو التَّثقيفي البحت! وعلى سبيل المثال حدث ذلك، بالفعل، لاتِّحاد الكتَّاب السُّودانيِّين، إذ أعاقت هذه السُّلطات ندوة، نُظِّمت داخل داره، لعالِم أحمد محمَّد الحسن (90 عاماً)، عضو الاتِّحاد، والأستاذ في معهد الأمراض المتوطِّنة، التَّابع لجامعة الخرطوم، والحائز على لقب بروفيسور مدى الحياة emeritus professor، وذلك حول ظاهرة «الزَّار»، ضمن سلسلة ندوات الاتِّحاد في الباراسايكولوجيا، بدعوى اشتمالها على نماذج تطبيقيَّة للتَّرانيم، والإيقاعات، والرَّقصات المكوِّنة للظاهرة!
(3) ومِمَّا تحظر هذه المواد، أيضاً، رقص النِّساء مع الرِّجال، ورقص النِّساء أمام الرِّجال، في الحفلات! هذه المواد، فضلاً عن اشتمالها على عدوان فظٍّ على قيم اجتماعيَّة وإنسانيّة مرعيَّة، تنطوي، أيضاً، على مفارقات صارخة:
أ/ فباستخدامها المطلق للفظي «رجال ونساء»، تقصر تصنيف العلاقة الاحتفاليَّة، حتَّى الأسريَّة، في حدود «جنسيَّة» بحتة، فتهدر أيَّة قيمة لأيِّ تصنيف آخر، كثنائيَّة «الأم الإبن»، «الأب الإبنة»، «الأخ الأخت»، «الزَّوج الزَّوجة»، دع علاقة الزَّمالة، أو حتَّى «الخطوبة»، مِمَّا لا تقرّه، قطعاً، ذهنيَّة التَّحريم التي أنتجت النَّص!
ب/ وبحظرها رقص النِّساء «مع» الرِّجال، والنِّساء «أمام» الرِّجال، تشطب، في الواقع، مشهد النِّساء من أيِّ حفل يحضره رجال، أو تسمح لهُنَّ، في أفضل الأحوال، بالجُّلوس ساكنات «يتفرَّجن» على رجال يراقصون .. رجالاً!
(4) كما ولا بُدَّ من أخذ الآتي في الاعتبار:
أ/ النِّطاق الجُّغرافي لسريان هذا القانون هو العاصمة القوميَّة التي شهدت، أوان صدوره، وما تزال تشهد، حركة نزوح كثيفة إليها من الرِّيف المهمَّش الذي يعاني سكَّانه من الفقر، بكلِّ أشكاله، مما يتَّسق مع دعاوى التَّنمية غير المتوازنة؛
ب/ المشرِّع ليس جاهلاً بالواقع الثَّقافي في هذه المناطق الرِّيفيَّة، حيث تشيع طقوس الاحتفاليَّات المختلطة، بما فيها الرقص المختلط؛
ج/ الاستنتاج الوحيد الرَّاجح، إذن، هو أن المشرِّع يفترض في العاصمة القوميَّة دولة أجنبيَّة يخضع زوَّارها لقانونها، وهذا ما أكَّد عليه، صراحة، وحرفيَّاً، ودون أدنى مداورة، مدير شرطة النِّظام العام، في تعقيبه على ورقةٍ حول الموضوع، كنَّا قدَّمناها، ذات سمنار، بمعهد التَّدريب القانوني بالخرطوم، أواخر تسعينات القرن المنصرم!
(5) المواد المذكورة تحظر، أيضاً، أداء الأغاني «الهابطة!». أمَّا تقدير هذا «الهبوط» فمتروك للشُّرطة، بسلطة مطلقة، مع إزالة «المخالفة!»! هكذا اختزل المشرِّع مجمل تاريخ الجَّدل الفلسفي حول ظاهرة الإبداع، كنشاط إنساني متميِّز، من أهمِّ دروسه وجوب النَّأي به عن أيَّةِ محاكمة خارج معايير النقد والتذوُّق. محاولة إلغاء هذه المعايير، واستبدالها بنفوذ السُّلطة السِّياسيَّة، وأجهزة قمعها، تمثِّل هدماً للطاقة الإبداعيَّة ذاتها! فالمشرِّع يُنصِّب «البوليس» ناقداً أعظم لا رادَّ لأحكامه التي تصدر، بالضَّرورة، عن تصوُّرات ذاتيَّة تزعم لنفسها كمال التسلُّح الخُلُقي، بينما تنفيه عن المبدع، شاطبة، بجرّة قلم، أيَّة جدوى لمعايير العلم والمعرفة التي تمثِّل أنضج ثمار الجُّهود التي ما انفكَّ يبذلها حملة مشاعلها عبر كلِّ التَّاريخ الإنساني، دَعْ ما ينطوي عليه ذلك من تهديد لثراء المفاهيم، والأخيلة، والأمزجة الفنيَّة، ولتنوُّع طرائق التَّعبير المختلفة، وأساليبها في شتَّى اللغات واللهجات السُّودانيَّة، مِمَّا يمحق هذه القيم، ويُخضعها لمعياريَّة الأيديولوجيا الطبقيَّة السَّائدة، ويفرِّق دمها بين شتَّى قبائل الجُّند المجيَّشين لتطبيقها، بمختلف معياريَّاتهم الشَّخصانيَّة، الثَّقافيَّة والسَّايكولوجيَّة!
الثُّلاثاء
اللعنة على «الواتساب»، فقد «اخترع» أحد «شياطينه»، الأسبوع الماضي، قبول السُّودان وإثيوبيا بالتَّقرير الاستشاري حول آثار سدِّ النَّهضة المتوقَّعة، بينما رفضته مصر، بزعم أن الخرائط المرفقة به أظهرت «مثلَّث حلايب» ضمن .. حدود السُّودان!
الأربعاء
لا أملك إلا أن اتَّفق مع الصَّادق النور، النَّاطق الرسمي لجيش تحرير السُّودان (مناوي)، في دعوته لإبعاد كلِّ القوَّات العسكريَّة، وليس الحركات المسلَّحة فقط، إلى خارج الخرطوم، و .. قطعاً هذه لغة أفضل، ألف مرَّة، من لغة «الخرطوم دا بتاع أبو منو»!
الخميس
حكاية «السَّمين والنَّحيف»، لهرم السَّرد والمسرح الرُّوسيَّين أنطون تشيخوف، تُعتبر من روائع الأدب العالمي، كتبها عام 1882م، وترجمتُها عن الرُّوسيَّة، قبل سنوات طوال، وأهديت التَّرجمة إلى روح الحبيب الرَّاحل عبد الرَّحيم أبو ذكرى، فلطالما فُتِن كلانا بتشيخوف، ضمن من فُتنَّا بهم من أيقونات الإبداع في هذه اللغة العظيمة. وكان أن صار تشيخوف مدخلنا إلى عوالم عزيز نيسين التُّركي، وبشرى الفاضل السُّوداني. وعلى الرُّغم من تواتر ترجماته إلى العربيَّة، فقد بدا لي، دائماً، أن ثمَّة خللاً يلازمها من حيث اعتمادها الفصحى كليَّاً، في حين أن مزيج الفصحى والدَّارجة هو الأقرب، عندي، إلى نقل الرُّوح الذي لطالما صاغ به ذلك الهرم الكبير شعريَّة السَّرد والحوار معاً. كتب تشيخوف:
فى محطة السِّكَّة حديد بمدينة نيكولاي، تقابل، فجأة، اثنان كانت تربط بينهما، في الماضي، علاقة صداقة، أحدهما سمين والآخر نحيف. السَّمين كان قد فرغ، لتوِّه، من تناول غدائه بمطعم المحطة، فكانت شفتاه اللتان تبدوان مطليَّتين بطبقة دهن تلمعان ككرزتين يانعتين، ومن أعطافه تفوح، كانت، رائحة نبيذ ونكهة حلوى. أما النَّحيف فقد نزل، كان، لتوِّه أيضاً، من إحدى عربات القطار، محمَّلاً بشُنط، وصُرر، وكراتين تفوح منها روائح زوادة بيتيَّة من فخذ الخنزير المملَّح، وثُفْل القهوة، وخلفه امرأة نحيفة، مستطيلة الذقن، زوجته، وتلميذ طويل القامة، ضيِّق العينين، إبنه.
«بورفيري»؟! هتف السَّمين؛ «أصلو ما بصدِّق! بالأحضان! عاش مين شافك يا رجل»!
«ميشا»؟! صاح النَّحيف مبهوراً؛ «صاحبي القديم؟! يا سلاااااام .. وين أراضيك»؟!
تعانقا ثلاثاً، وقد ترقرق في مآقيهما الدمع، وهما مأخوذان بالمفاجأة السَّعيدة.
«لا حولا ..»! صاح النَّحيف، بعد العناق، متهلِّلاً، «لكين جنس مفاجأة! كدي كدي عاين لي جاي! إيه الحلاوة دي كلها يا صاحبي! والله ياكا ذاتك ميشا بتاع زمان ما اتغيَّرت أصلو! لسه سارح بدلالك! يا ود يا ود .. إيه القيافة دي كلها! أها بالله عامل كيف؟! غِنيت ولا عرَّست؟ أنا غايتو عرَّست زي ما إنت شايف .. ودي زوجتي لويزا، إسمها لجهة عائلتها فانتصينباخ .. بروتيستانتيه، وده ياسيدي إبني نافانايل .. تلميذ فى سنة ثالثه .. يا نافانيا تعال سلم على أعز أصدقاء طفولتي .. كنَّا في المدرسة سوا»!
نافانايل فكر برهة، ثم خلع قبعته.
«كنَّا في فصِل واحد»! واصل النَّحيف: «تتذكر كيف كنا بنغيظك؟! لقبناك بهيروستراتوس لمَّا حرقت دفتر الحضور والغياب بالسِّجارة .. ها .. ها، وأنا لقبونى بافيلاتوس لأنى كنت قوَّال .. ها .. ها، يا سلام ياخي .. دنيا! ما تخجل يانافانيا .. تعال قريب .. ودي يا صاحْبي زوجتى .. إسمها، لجهة عائلتها، فانتصينباخ .. بروتيستانتيَّة»!
فكر نافانايل برهة، ثم اختبأ خلف ظهر أبيه.
«كيف الأحوال بالله»؟! قاطع السَّمينُ النَّحيفَ، محدِّقاً فيه بابتهاج؛ «أها .. وشغَّال شنو .. وللا نزلت المعاش"؟!
«أبداً .. فى الخدمة لسَّه، محكَّم هيئة، أدوني شارة ستانسلاف السَّنة الفاتت .. ماهيَّتهم تعبانة، لكين الله في .. زوجتي بتدِّي دروس خصوصَّية في الموسيقي .. وأنا بعد الشُّغل بعمل علب سجاير خشبيَّة .. علب تمام! ببيع الواحدة بروبل .. والبياخد عشرة علب وأكتر عنده تخفيض خاص .. أهو جاي جاي بنمشِّي الحال، والرِّزق تلاقيط. كنت فى الرِّئاسة، ودلوقت نقلونى هنا رئيس مكتب تبع إدارتنا ذاتا، فحأستقر هنا .. وانت، يا خوي، كيف؟! مستشار حكومي أظنك»!
«يعني .. فوق حبَّة»! أجاب السَّمين؛ «ضابط أمن .. عندى دلوقت دبُّورتين»!
بغتة .. شحب وجه النَّحيف، وامتقع لونه، وارتعدت أوصاله، وساخت مفاصله، وتجمَّد الدَّم في عروقه، لكنه غالب نفسه، فالتوى وجهه بأعرض ابتسامة في الكون كله، مثلما راح رأسه يشعُّ بالسُّخونة. أما جسده فقد تقفَّع، وتحدَّب، وتضيَّق، وتجمَّع. وأما شنطه، وصرره، وكراتينه، فقد تكمَّشت، وتعوَّجت .. صار ذقن زوجته الطويل أطول .. وانحنى ابنه نافانايل .. وتمطَّط، وزرَّر جميع أزرار سترته المدرسيَّة. وما لبث أن صدر عن النَّحيف صوتٌ كالفحيح:
«أنا يا معاليك، يعني، في غاية الفخر، يعني، إذا جاز التَّعبير، والله، يعني، كونه صديق .. صديق طفولة، إذا جاز التَّعبير، يعني، يبقى، يعنى، كِدَا، هئ .. هئ .. هئ .. وكِدَا»!
«ياراجل»! برطم السَّمين؛ «إيه الكلام الفارغ دا؟! نحن بيناتنا صداقة عمر ياخي، فإيه لزوم الرَّسميَّات دي»!
«أستغفر الله .. أستغفر الله .. ياسعادتك»! تمتم النحيف بحلق يابس، وقد ازداد انكماشاً؛ «دا بس، والله، من تواضعكم الجَّم .. لكين، يعني، مهما كان .. العين ما بتعلا على الحاجب، والله، يعني، اهتمامكم بَيْ دا، يا معاليك، يعنى، زي البلسم، والله العظيم، و .. يعنى .. لو سمحتم، يا فخامتكم، يعني، أقدِّم ليكم إبني نافانايل، يعني، وزوجتى لويزا .. بروتيستانتيَّة نوعاً ما»!
للوهلة الأولى بدا كما لو أن السَّمين أراد أن يقول شيئاً، لكنَّ وجه النَّحيف، بما ارتسم عليه من أمارات التَّبجيل، والإجلال، والنَّشوة، والانكسار، والتَّوقير، جعله يشعر بالرَّغبة في القئ، فأشاح عنه بوجهه، بل بجسده كله، ومدَّ له يده، من وراء ظهره، يودِّعه! صافح النَّحيف ثلاثة أصابع فقط، وهو يحني جزعه حتى كاد يلامس الأرض بجبينه، ويموء بالتَّضاحك مثل رجل صينى «هئ .. هئ .. هئ»! أما زوجته فقد رسمت على شفتيها ابتسامة لزجة! وأما نافانايل فقد ضرب الأرض بقدمه حتَّى أسقط قبُّعته! وكان ثلاثتهم مأخوذين بالنَّشوة والرَّهبة معاً!
الجُّمعة
الصادق عبد الرحمن سمل والد الشهيد عبدالرحمن
السَّيِّد الصَّادق عبد الرحمن سمل، والد الشَّهيد عبد الرحمن، إنسان استثنائي، تنضح نفسه بفيض من الخير، ويرفرف قلبه بجناحين من المحبَّة. قال قولاً في «التَّسامح» تفوَّق به حتَّى على نلسون مانديلا وجاك دريدا، لا لأن أحداً يملك أن يزايد عليهما، لكن لأن أحداً منهما لم يذق، شخصيَّاً، ما ذاق هو من احتراق فلذة الكبد، أو اختناق حُشاشة الرُّوح، مِمَّا لا يعرفه إلا من مشى على الجَّمر بقدمين حافيتين، ومع ذلك داس على أوجاع القلب، وارتقى ضريح الابن الشَّهيد، ومن حوله ما يفتأ يتصاعد الهتاف: «الدَّم قصاد الدَّم ما بنقبل الدِّيَّة»، ليرتفع صوته الجَّهير قائلاً، في تعظيم «العدالة الانتقاليَّة»، ما لم تقله أيَّة بلاغة، مهما سمت أو تعالت، وبأيَّة لغة، بالغاً ما بلغت من النَّصاعة والإفصاح، قال: «مَن يختار السَّلام لا يَقتُل، بل يدفع حياته لتصير حياة الآخرين أفضل، والذي يختار هذا الطريق يرى القاتل، في قمَّة ما عليه من جبروت وقسوة، أكثر منه ضعفاً وبؤساً؛ ولو خيَّروني فإنه لا ضير عندي في أن أذهب إلى القاتل في تمام حزني ووجعي، لأضمن أن يتوقَّف القتل في هذه البلاد من أقصاها إلى أقصاها! وهنا أتمنَّى ألا يزايد عليَّ أحدٌ أيَّاً كان. وإن فعل، فأنا لا أنظر إليه، قدر ما أضع نصب عينيَّ أن ما بداخلي من وجع وألم لفقدان ابني هو شيء لا يجب أن يمرَّ به أحدٌ في هذه البلاد. لا ضير إن فعلت الحركة السِّياسيَّة ذلك، ولا خيانة، هنا، لدماء الشُّهداء، بل الخيانة، إن لم تفعل، لِحقِّ الآخرين في الحياة! أخلاقيَّاً، يلزم الحركة السِّياسيَّة أن تقبل أيَّة مبادرة توقف قتل إنسان هذه البلاد، أولاً، وتحرص، من ثمَّ، على بناء كلِّ المؤسَّسات العدليَّة التي تضمن للناس حقَّهم في الحياة، فمؤسَّسات العدل هي الضامن الوحيد لحقوق النَّاس، سياسيَّة، أو اقتصاديَّة، أو اجتماعيَّة»!
السَّبت
سبق أن اقتضتنا الموضوعيَّة الإقرار الجَّهير بأن «إعلان المبادئ» الذي أبرمه البرهان والحلو بجوبا في 28 مارس 2021م هو، بكلِّ المعايير، خطوة في الاتِّجاه الصَّحيح، مِمَّا كانت تحتاجه بلادنا منذ أزمان. ولو كانت هذه الخطوة قد افترعت «سلام جوبا» الذي كان من أهمِّ نواقصه غياب حركتي الحلو وعبد الواحد عنه، لكان مضى في الاتِّجاه الصَّحيح، ولاختلف تقييمنا له تماماً! مع ذلك ينبغي، أيضاً، ولذات المقتضى الموضوعي، ألا نغفل ملاحظات أساسيَّة، أهمُّهنَّ ثلاثٌ: الأولى أن في توقيع البرهان باسم «الحكومة» انتحال لإحدى أهمِّ صلاحيَّاتها، وذلك أمر لا يجوز؛ والثَّانية أن «مباركة» مجلس الشُّركاء لهذا «الإعلان» توعز بقيُّوميَّة غير مستحقَّة لهذا المجلس على «الجِّهاز التَّنفيذي»، وذلك أمر غير مقبول؛ أمَّا الثَّالثة فهي أن مواصلة حمدوك الصَّمت على هذه التَّجاوزات، والكثير غيرها، قد تُدرجه، هو أيضاً، في دائرة المشاركة في تدبيرها، والمسؤوليَّة عنها، في حين أن «الفيه يكفيه».. ما مصلحته؟! ربُّك يعلم!
الأحد
سُمِعَ أحد الحُجَّاج المصريِّين يتمتم، عند الجَّمرات، قائلاً: «بُص يا إبليس، أنا لا جاي أضربك، ولا جاي أشتمك، بسِّ همَّا كِلمِتين حطُّهم حلقة في ودانك: سيبني فْ حالِي، وحاسيبك في حالك»!
[email protected]

الوسوم
رزنامة الأسبوع كمال الجزولي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.