في العام 1996 إعتمد صندوق النقد والبنك الدوليين، مبادرة تهدف الي إعفاء أو تخفيف أعباء الدين الخارجي للدول الفقيرة المثقلة بالديون:- -Highly Indebted Poor Countries HIPCs جائت هذة المبادرة نتيجة لضغوط العديد من المنظمات الدولية وغير الحكومية، ونتيجة لمعاناة العديد من الدول الفقيرة من ثقل الديون الخارجية، التي تسببت في مزيد من الفقر وصعوبات في مجال التنمية الإقتصادية والإجتماعية. حددت المبادرة سلسلة من الشروط التي يجب ان تلتزم بها الدول التي تسعي لإعفاء ديونها، حسب الخطوات التالية:- – الخطوة الأولي (الوصول إلي نقطة القرار)، وذلك يتطلب الشروط الأربعة التالية: 1- أن يكون البلد، مستحقاً للإستفادة من القروض والمنح المقدمة من البنك الدولي بواسطة المؤسسة العالمية للتنمية International Development Agency (IDA). ومن صندوق النقد الدولي عن طريق، "محفظة التنمية وخفض الفقر"، التي تقدم قروضاً للدول منخفضة الدخل، بمستوي مدعوم. 2- أن يكون البلد، يعاني من دين ثقيل، غير محتمل، ولا يمكن معالجته بالطرق التقليدية . 3- أن يكون البلد قد حقق، مستوي إصلاح "معتدل" و سياسات "فعالة وجيدة" (حسب تقدير أصحاب المبادرة)، عن طريق البرنامج المدعوم من قبل صندوق النقد والبنك الدوليين IMF, WB, Supported Program. (ومعلوم أن هذا البرنامج يشمل رفع الدعم عن السلع الإستهلاكية، بهدف خفض عجز الموازنة الداخلية، تخفيض سعر صرف العملة الوطنية، بغرض تقليل عجز الموازنة الخارجية، وخصخصة المؤسسات المملوكة للدولة وتشجيع دور القطاع الخاص. – أن يكون البلد قد قام بإعداد ورقة إستراتيجية لخفض مستوي الفقر: Poverty Reduction Strategic Paper بمجرد ان يكون البلد قد أحرز تقدماً في النقاط الأربعة المذكورة أعلاه، بطريقة مقبولة للمجالس التنفيذية لصندوق النقد والبنك الدوليين، يكون البلد قد وصل الي نقطة القرار: ( Decision point). (وهذا ما تم إعلانه بشأن السودان في إجتماع هذين المجلسين, مؤخر، في مارس 2021اً). وبذلك يكون البلد قد استحق تخفيف ثقل الدين، إلي مستوي "مستدام"، يمكنه من الحصول علي "خفض مرحلي" لخدمة ديونه المستحقة. بالطبع هذة ليست خاتمة المطاف، في عملية التخلص من ثقل الدين الخارجي! الجدير بالذكر أن السودان، قد جاء في ذيل الدول التي وصلت مرحلة القرار، رغم الخصخصة الواسعة التي تمت في ظل النظام البائد، ورغم الخفض الكبير والمتكرر لسعر صرف العملة الوطنية خلال فترة الثلاثين سنة الماضية، ورفع الدعم عن السلع الاستهلاكية الاستراتيجية. لكن بلا شك، جاء رضاء مؤسسات التمويل الدولية بعد التسهيلات "القرض الجسري " التي قدمتها الولاياتالمتحدةالامريكية، لفتح باب التمويل، من هذة المؤسسات "الشرط الأول أعلاه"، وما سبقه من قرارات سياسية، كرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب, وبعد التوقيع علي "إتفاق أبراهام"، الذي تزامن مع زيارة وزير الخزانة الامريكي السابق للسودان، في آخر أيام ترامب. ومن المؤكد ان تلك الزيارة، كانت زيارة "الجزرة والعصا" بإمتياز, مما عجل بالوصول إلي نقطة القرار، بعد إبتلاع حكومتنا الإنتقالية لجزرة "أبراهام"! – الخطوة الثانية (نقطة الإكمال) Cmpletion Point: للحصول علي حق الخفض الكامل للديون الخارجية، يجب الوصول إلي نقطة الإكمال عبر الخطوات الثلاثة التالية: 1- أن يحقق أداء الدولة، سيراً حسناً، أكثر (حسب تقدير اصحاب المبادرة)، تحت البرنامج المدعوم بقروض من صندوق النقد والبنك الدوليين. 2- أن يتم احراز تقدم أكثر في الإصلاحات المتفق عليها في الخطوة الأولي (إتخاذ القرار). 3- أن يتم تنفيذ البرنامج المتفق عليه في الورقة الإستراتيجية لخفض مستوي الفقر ، "علي الأقل لمدة عام". عندما ينفذ البلد هذة الشروط الثلاثة، يكون قد بلغ "نقطة الإكمال"، التي تؤهله للحصول علي حق الخفض الكامل لديونه المستحقة، لصندوق النقد ومدينين آخرين. بالنظر إلي آلية عمل مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون، يبدو أن الطريق أمام السودان للإستفادة الكاملة منها، ما زال طويلاً. وتجدر الإشارة هنا إلي ان مبادرة الهيبك لا تشمل الديون الخاصة الفردية والثنائية. وخلافاً لما يروج له البعض، لن يكون مؤتمر الشركاء القادم، المزمع عقده في مايو القادم في باريس، محطة ينعتق فيها السودان من ثقل ديونه، خاصة وانه لم يبلغ مرحلة الإكمال الضرورية في إطار المبادرة. يبقي دائماً السؤال المشروع ما زال مطروحاً: الي أي مدي تستطيع حكومتنا الإنتقالية إحراز تقدم في تنفيذ برنامج خفض مستوي الفقر، المنصوص عليه في مبادرة هيبك، تحت ما يسمي "الورقة الإستراتيجية لخفض الفقر"، في ظل سياسات رفع الدعم عن السلع الإستهلاكية الضرورية، وانهيار قيمة العملة الوطنية مما أوصل معدل التضخم إلي مستوى خرافي (330% في مارس 2021 ). لقد أدي ذلك إلي هبوط أعداد متزايدة من شعب السودان إلي تحت خط الفقر؟. حقيقة، العين لا تخطئ التناقض البين بين هذة السياسات، والبرنامج الذي يهدف لخفض مستوي الفقر، في المرحلة الثانية لمبادرة هيبك. ويبدو أن تحمل التبعات المؤلمة لمتطلبات إعفاء الديون علي منوال هذة المبادرة، علي شعب يرزح أكثر من 80% منه تحت خط الفقر، يبدو ذلك أمراً في غاية الصعوبة. في تقديرنا، هذا الوضع، يتطلب "جولة جديدة" من المفاوضات مع أصحاب المبادرة، قبل ان تتدحرج النسبة المتبقية من السكان، ال 20% الي تحت خط الفقر! وبلا شك، هذا الأمر، لا يخفي علي أصحاب المبادرة، وعلي شركاء السودان، وخاصة الأوربيين منهم. وهذا ما تؤكده المنح الإضافية التي أقرها الإتحاد الأوربي، مؤخراً، لبعض الدول الأفريقية ومن بينها السودان، لتخفيف حدة الفقر المتزايد ونقص الغذاء. إذا توفرت الإرادة السياسية للحكومة الإنتقالية في السودان، وأبدت رغبة جادة في مراجعة "وتائر" خطوات تنفيذ شروط مبادرة هيبك، لتخفيف حدة أثرها علي تدهور مستوي معيشة معظم السودانيين، وظروفهم الإستثنائية، كشعب خارج لتوه، أو يكاد، من أطول نزاعات مسلحة في تاريخ القارة، لربما لقي ذلك تفهماً من أصحب المبادرة. هل تنصت حكومتنا الإنتقالية، لمقترح "المراجعة" المبررة، أم تظل أكثر ملكية من الملك، وتتبع خطوات المبادرة القاسية حرفياً كأنها منزلة من السماء لكل ظروف الدول الفقيرة المثقلة بالديون؟ في تقديرنا، وعلي الأقل، ربما توفر القبول من قبل أصحاب المبادرة، لمراجعة مظلة الأمان "المثقوبة" والتوصل لعلاج أكثر واقعية وإنسانية من مذلة الخمسة دولارات/شهر للفرد الذي يعيش تحت خط الفقر في السودان. بطبيعة الحال، ليس هنالك مهانة أكثر من القبول بهذا المبلغ المتدني، في الظرف المؤلم الذي يعيش فيه معظم السودانيين الآن. والله أعلم إن كانت نسبة ال80% للذين يصنفون تحت خط الفقر، نسبةً صحيحةً؟ في الواقع، وللأسف، لا توجد لدينا مسوحات حديثة، لتقديرات موثوق بها! والمدهش، أن الشركاء الأوربيون يطالبون بتحديث البيانات المتعلقة بمستوي الفقر، أكثر من أصحاب الشأن أنفسهم. وليطمئن قلب "الملكيين"، نحن نؤكد علي ضرورة السعي وراء التخلص من الديون التي أثقلت كاهل البلاد، وأقعدت بها من القدرة علي النماء والنهضة. نؤمن أيضاً، علي ضرورة التعاون مع مؤسسات التمويل الدولية، التي نتمتع بعضويتها ومع المجتمع الدولي بأسره، مع مراعاة الظروف "الإستثنائية " لبلادنا المثقلة، ليس فقط بالديون، بل بما خلفته النزاعات المسلحة الطويلة والحكم الإستبدادي الفاسد خلال ثلاثة عقود، هي نصف فترة ما بعد إستقلال البلاد! إن خفض عجز الموازنة الداخلية، لا يتم فقط برفع الدعم المفاجئ والمتعجل، عن السلع الإستراتيجية، فهنالك العديد من المقترحات في هذا الصدد، قدمت ووجدت قبولاً في المؤتمر الإقتصادي الأول، "المجني عليه". هنالك الأموال والأصول المستردة، الإصلاح الضريبي، والإصلاح المؤسسي، بما في ذلك، إصلاح النظام المصرفي، وولاية السلطة التنفيذية علي المال العام ودعم الإنتاج الخ… وكل ذلك غير معترض عليه من أصحاب مبادرة الهيبك، لكن من المؤسف أن القائمين علي شأننا الإقتصادي لا يبصرون إلا بمنظار "آل بريتون وودز"، كأن غيرهم قد جاوا من كوكب آخر! اللهم ألهم القائمين علي شأننا الإقتصادي والسياسي، القدرة علي تلمس وتفهم المعاناة "القاسية جداً" التي تعيشها الأغلبية العظمي من جماهير الشعب السوداني المغلوبة علي أمرها. وألهمهم القدرة علي الترفع عن "الخمسة دولارات" الشهرية، للإنسان السوداني الذي لا يملك قوت يومه. وليعلم الجميع، بأننا أعضاء أصيلين في منظمات التمويل الدولية والأمم المتحدة، وأكثر إلماماً بشأننا الإقتصادي، الإجتماعي والسياسي، ولسنا بمتسولين نستجدي الفتات! [email protected]