عبد الله الشيخ كسلا مدينة تحكي قصة الإيثار، إيثار البجاوي للضيف على نفسه، وايثار الخليفة لحوارييه، وايثار الحيران للعوالم من حجر ومدر.. الارض في أصلها كانت للبجا، لكن طلاقة الفلوات حفرت عميقاً في وجدانهم، فاصبحوا هائمين وعشّاقاً للمضارب تحت سفوح التلال. كانت السواقي ذات الخضرة الداكنة ترتبط بترقُّب الخليفة بابكر ود المتعارض، لنجم سيّده الحسن ابو جلّابية في سماء السودان ..عندما تبدّى ذاك النجم، تعرّى ود المتعارض من كل الدّنيا.. نفض يديه من كل شيء وضرب أروع الامثال في محبة المريد لشيخه. من أجل المحبة هجر حشمه وصولجانه، وأناخ بعير سيده فوق تيلاده الموروث عن جده الشيخ حمد ود ام مريوم، وجده من أمه الشيخ خوجلي، فكانت بحري دائرة للميرغنية. ومن أجل المحبة استجلب ود المتعارض كل ديار الشايقية، في "حُوا " أبو جلابية. كل من ساقته خطى المحبة زائراً، أٌعِطّي فسحة للزرع في البراح التي كانت يباباً، أما المُحب – ود المتعارض – فقد رضي بالصحبة جاثياً عند قدمي شيخه تحت جبل التاكا، بعد أن أسكن الحيران فوق أرض مثل كبدة الإبل. هكذا ترعرع المانجو والبرتقال والليمون، راضياً في جوف السواقي شبيهاً بشتيلات القرير في كافة التفاصيل، حتى نبات السِّعدة، التي تحف الشواطي على طول الجروف تناثرت في الحقول مثل نقرات دفوف ود حليب في الليل .. ولكن.. تبدلت العصور وبقي من نهمات ود المتعارض"شيئ لله يا حسن".. في المدى القريب، جاء بعض اهل الدنيا يطلبون تأراً من الماضي، لولا أن حيران أبو جلابية تقاطروا الى كسلا من كافة الارجاء، و القموهم حجراً ضخماً.. بعض أهل الدنيا، في زمن الكيزان شقّ على نفوسهم، أن يروا ذلك المجد لا تطوله عوادي الزمن إلا بمقدار ما يأخذ العصفور من ماء البحر، فعرضوا سواقي الميرغنية وما حولها في مزاد الايام الفانية، فرُدت إليهم بضاعتهم عندما أرسى حفدة العهد المزاد، على ما كان عليه من أهله، ومضوا الى حال سبيلهم، كأن شيئاً لم يكن! هذه نفحات من سواقي كسلا، حيث "المُنى بين خَصرها ويديها، والسنى في ابتسامها البرّاق.. كَسَلا أشرقتْ بها شمس وَجْدي فَهْيَ بالحقّ جنّةُ الإشراق.. ظلّت الغِيدُ والقواريرُ صرعى، والأباريقُ بِتْنَ في إطراق.. هكذا غنى لكسلا توفيق صالح جبريل.. تلك دفقات من القاش تأتي في الخريف، على مجرى واسع مثل سهل جاهلية إمرئ القيس، الذي كان بين "الدخول فحوملِ".. هذا النهر الموسمي يقسو أحياناً، لكنه يرسم في كسلا واحة تتعطر حوافها بالندى الليلي ورزار العتول.. يفيض القاش من وهاد وتلال عند حدود الدنيا، ويحيض غير مبالٍ برحلته اليائسة فوق رمل خشن يسقي جذور أعذب الموالح.. كانت كسلا جنة تشرب من النواعير، كما وصفها توفيق في النصف الاول من القرن الماضي : نغمُ الساقيات حرّك أشجاني وأهاج الهوى أنين السواقي. المواكب