خرج السيد رئيس الوزراء الموقر، الدكتور عبد الله حمدوك ليخاطب الأمة السودانية في واحد من أهم الخطابات التي ألقاها علي مسامعنا منذ تسنمه دفة قيادة الفترة الإنتقالية .. السيد الرئيس في العادة يميل إلي العمل في صمت و لا يتحدث إلا عند الضرورة.. و يبدو أن خروجه للحديث الي الأمة مؤخرا جاء نتيجة ما " يعلمه " باليقين و إحساسه و معرفته عن قرب بما آل إليه حال البلاد نتيجة " التشظي " كما أسماه أو المشاكسة السياسية و الكيد الأرعن الذي تنكبت به بلادنا منذ إستقلالها.. إنها صرخة في واد غير ذي زرع، موجهة لأشباه ساسة يهيمون علي غير هدي.. يقولون ما لا يفعلون… ماتت ضمائرهم و صغرت أحلامهم و خابت مشاريعهم و تقزمت رؤاهم.. لا يحلمون بوطن و لا يحملون الوطن في دواخلهم المتيبسة… حالهم كمن كان داخل سفينة تمخر في بحر لجاج، فبدلآ من الإصطفاف خلف الربان حتي يصلوا الي بر الأمان. فإذا بأحدهم يكسر الشراع، و آخر يخلع الدفة و منهم من يخرق السفينة ليغرق الجميع في مشهد أشبه بالملهاة.. فكأنما الثورة قد اتت ببلهاء المدينة بعد أن تخلصت من أرازلها ! قالها حمدوك عالية، واضحة و مدوية.. الوطن في خطر .. و وصلنا الي مرحلة أن يكون هناك وطن او لا يكون.. لغة جسده و نظرة عينيه تنذر بشر آت لن يبقي و لن يذر… كلماته أسمعت حتي من به صمم و لمن ألقي السمع و هو شهيد.. قالها دون مواربة او مداراة أن علي قوي الثورة أن تأتي الي كلمة سواء.. و أن تلتف و تلتقي حول مشروع وطني، أسماه المبادرة.. هتف في انصاف الموتي و المعتلين ممن يدعون بأنهم القادة السياسيين بأن يتركوا السفسطة و الهرجلة و الإرتجال حتي تعبر البلاد فترة الانتقال موحدة و معافاة.. بعث السيد حمدوك رسائل واضحة في خطابه.. الرسالة الأولي نحو ما يسمي بالحاضنة السياسية التي تفرقت أيدي سبأ.. كل يغني علي ليلاه و الكل يبحث عن محاصصة بغيضة حتي قبل أن تنجز أي من شعارات الثورة المجيدة.. و كان واضحا و مباشرآ في تحميلهم مسؤولياتهم ووتذكيرهم بها و أرجو أن يستبينوا النصح قبل فوات الأوان.. و أن يتخلوا عن ممارسة الكيد و الإنتحار السياسي الذي لا يجيدون غيره. الرسالة الثانية كانت في بريد العسكر…. و لم يجمل أو يجامل، بل كان شجاعآ في مواجهتهم بالحقيقة عارية، بأنهم يعيقون " عمدآ" تحقيق غايات الثورة و أحلامها و أن وهم الشراكة كما سوقناه للعالم قد خمد بريقه و لم يعد فكرة جذابة كما كنا نظن… و نحن نعلم و العسكر يعلمون بأن العالم يطالب بأن تكون قيادة البلاد " مدنية" صرفة … و أن هذا الإنفلات العسكري غير مقبول و لن تستقر بلاد بها عشرات الشرازم و العصابات "المعسكرة" بعضها تقوده عائلة في سابقة لم تحدث في أي بقعة يسكنها بشر ! . رسالته الثالثة كانت نحو الحركات المسلحة، التي ركبت موجة الثورة بعد نجاحها مدعية أنها أرهقت النظام المقبور مما أدي إلي سقوطه.. و تلك فرية لم تنطلي علي أحد .. فجميعهم ،عدا قلة، قد شاركوا النظام السابق في كل موبقاته و سوءاته.. و قد عرت الثورة بسلميتها و نجاحها في إقتلاع نظام الشر، كل إدعاءاتهم الخائبة.. فما كان منهم إلا أن هرولوا نحو الثورة كل يدعي لها نسبآ.. و لأن الثورة كانت مهرها دماء يفع، شباب نقي نضر، فإنها لن تقبل بهؤلاء المرتزقة الأفاكين بين صفوفها، لذلك ما زالوا يمسكون ببنادقهم التي لم توجه أبدا نحو صدر عدو، و لم تدافع عن عرض وطن. الرسالة الأخيرة و الأهم كانت نحو شباب و شابات البلاد الذين كان لهم القدح المعلي في القضاء علي نظام الأفك و الفجور.. أن حي علي الفلاح، فتلك هي ثورتكم و انجازكم الذي ابهر العالم و شحذ همم العالم الحر للوقوف الي جانبنا مثمنا التضحيات و شجاعة شابات و شباب بلادنا في التصدي لنظام القهر و العهر السياسي.. و أعتقد بأن هذه هي الرسالة الأهم لأن في هذا الشباب يقطن الأمل في سودان أفضل، اما غثاء السيل من مدعيي السياسة و ازلامها فلا أمل فيهم.. أقول إن هذا هو الخطاب الأخير الذي سيلقيه السيد رئيس الوزراء الموقر بصفته الإعتبارية قائدا للفترة الانتقالية، و قد أعطي القوي السياسية شهرآ حتي تستجيب و " تعدل" حالها المائل.. و أعتقد جازمآ أن خطابه القادم إذا لم تستقيم الأمور و ترتفع الهمم، سيكون خطاب التنحي و عندها سيعلم الجميع " أي فتي أضاعوا" ، و لن يفيد عندها الندم..