القوة المشتركة تكشف عن مشاركة مرتزقة من عدة دول في هجوم الفاشر    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. حسناء أثيوبية تشعل حفل غنائي بأحد النوادي الليلية بفواصل من الرقص و"الزغاريد" السودانية    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    اللجنة العليا لطوارئ الخريف بكسلا تؤكد أهمية الاستعداد لمواجهة الطوارئ    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تونس فوق صفيح ساخن «3-3»

9 /الرسائل المرسلة من السفارة الامريكية في تونس الى واشنطن ، كانت تلمح وتشير احيانا الى تحجر وتصلب النظام وانه لا يعمل بالنصائح الامريكية حتى يكون مستقرا، وان هنالك شعوراًعاماً بالكراهية وانه لا يوجد بديل حاضر (لبن علي) وتخشى مع هذه الحالة ان تضيع من قضيتها تونس في حالة قيام اي ثورة او حركة تغيير، بمعنى ان الدبلوماسية الامريكية في تونس قد اشارت الى لحظات التغيير القادمة، وبدأت تتلمس طريقها داخل تونس لاقامة علاقات مع بعض النخب والشباب المعتدل والجماعات السياسية المعتدلة حتى يكون لها رصيد سياسي واجتماعي وموقع قدم في حالة حدوث تغييرات سياسية في تونس والتي اوشكت على الحدوث، وهذه الحالة التونسية شبيهة بالحالة الايرانية ايام الشاه.
فقد كان شاه ايران صديقا وحليفا استراتيجيا لامريكا في منطقة الشرق الاوسط، وكان شرطي المنطقة، اعطى امريكا كل ما تريد لتحقيق مصالحها في المنطقة ومن ثم حماية هذه المصالح الامريكية، وبالمقابل اعطته امريكا كل ما يريد من دعم ومكنته من حكم ايران، وانفرد شاه ايران بحكم الداخل ويعتقد ان هذا حقه، ما دامت امريكا اخذت ما تريد استراتيجيا...!
ولكن بدأت المشاكل تنشأ في الداخل ، ما اقلق الادارة الامريكية، وحاولت تقديم النصح له حتى يضمن ضمان الاستقرار في المنطقة، وهذا الاستقرار يؤمن مصالحها في الشرق الاوسط، ولكن شاه ايران كان دائما لا يأخذ بهذه النصائح بدعوى الاستقلالية واستقلال الارادة والخصوصية الايرانية الثقافية. وفي آخر الامر خرجت الامور من يد شاه ايران ولم تتمكن طهران ولا واشنطن ايقاف قطار الثورة الايرانية، وذهب الشاه الى مزبلة التاريخ ومعه كل الاحلام الامريكية.
هذا ما حدث بالضبط في تونس، وعندما شعرت امريكا ان نظام (بن علي) بدأ يتهادى وانه اسرف في الطغيان والاستبداد، تخلت عنه، وحتى عندما حاول الاستنجاد بالسفارة الامريكية بتونس - كان كل شئ قد انتهى، وعلى الفور اشاد الرئيس (باراك اوباما) (بشجاعة وكرامة الشعب التونسي)، ودعا الى اجراء انتخابات نزيهة وحرة قائلا (ان الولايات المتحدة تقف الى جانب المجتمع الدولي للشهادة على هذا النضال الشجاع من اجل الحصول على الحقوق العالمية التي يجب ان تحافظ عليها، ونستذكر على الدوام صور الشعب التونسي الذي يسعى لاسماع صوته)..
وفي خطابه الاخير في يوم 2011/1/25م، اشاد اوباما بثورة شعب تونس واعلن دعمه الكامل لهذه الثورة وحق الشعب التونسي في الحرية والتغيير، وتمنى لهم التوفيق..! وتم ارسال مسؤول كبير الى تونس كأول مسئول سياسي عالمي يحضر الى تونس بعد ذهاب (بن علي) .
10/ لا صداقة مع احد تدوم.. ولا وفاء لأحد يستمر.. هذا هو المنطق السياسي الامريكي في التعامل مع الانظمة الحاكمة في كل زمان ومكان .. منطق القدر هذا لا يستثني احدا ليس فيه مكان لحليف او صديق.. الجميع سواسية ، المعيار الوحيد هو المصلحة فقط.. ليس للاخلاق مكان.. ليس لحقوق الصداقة مكان.. ولا معافاة نهاية خدمة لصديق او حليف الذي افنى نفسه في خدمة العم سام.. ولا مكان لحقوق الانسان... او اية مصطلحات او مفاهيم اخرى تحمل شبه اي شئ يتعلق بالانسانية.. الغريب انه رغم تاريخ الولايات المتحدة الطويل في الغدر بأصدقائها وحلفائها من الحكام، وتخليها عنهم بعد استنفاد قدراتهم على القيام بأدوارهم، او تراجع قوتهم ونفوذهم امام قوى المعارضة.. او ظهور بديل يمكنه ان يقدم خدمات اكبر، او في حال كان البديل يتقدم عليهم شعبيا (انتخابيا) فتخلى عنهم لصالح بديل آخر. ورغم ان الولايات المتحدة قد تخصصت عبر عقود طويلة في بيع حلفائها واصدقائها، بمجرد ان تجد البديل الافضل، او ان تراهم آيلين للسقوط - وغالبا ما تكون هي السبب الرئيسي في هذا السقوط - مثل الحالة التونسية وذهاب بن علي - إلا ان الحكام لا يتعظون، وما ان تغدر امريكا بحاكم، حتى يتطوع آخر ويقدم نفسه لها، على امل ان تكون رأس الحربة التي يستخدمها هو المنتصر على كرسي الحاكم، وتدور الايام ليجد في النهاية الغدر بانتظاره، والتاريخ يذكر ان هنالك الكثير من الحكام والزعماء والقادة من حلفاء واشنطن الذين حاولوا الاستقواء بها ، او التقرب على حساب شعوبهم، ولكن واشنطن غدرت بهم وتخلت عنهم... وباعتهم.. وهم على سبيل المثال:
الرئيس الباكستاني (برويز مشرف)، (شاه ايران (محمد رضا بهلوي) - والرئيس الفلبيني (فرديناند ماركوس)، وتجربة (مانويل نورتيجا) رئيس بنما - ومن الذين بعاتهم امريكا الرئيس العراقي (صدام حسين)، (وادوارد شيفارونادزه) - رئيس جورجيا - (وسوهارتو) رئيس اندونيسيا (وبيونشيه) ديكتاتور شيلي - (وباتيستا) ديكتاتور كوبا - (وموبوتو) رئيس الكنغو (وبي نظير بوتو) رئيسة وزراء باكستان - (رجان اريستيد) - رئيس هايتي - (وعسكر أكاييف) حاكم قرقيستان وغيرهم وغيرهم - واخيرا (زين العابدين بن علي) الرئيس الاسبق لتونس.. وهنالك آخرون في طريق الغدر والبيع.
11- بعد طول انتظار وطول صبر على القمع والذل والمهانة ومصادرة الحريات... وبعد أن عم الفساد وساد الظلم، وبعد أن تقطت أنفاس الشعب التونسي، خرج المارد التونسي من قمقمه... مفجراً ثورته التي تختلف عن كل الثورات، وعن كل المألوف عن الثورات التي عرفها العالم العربي، لم تكن ثورة تقليدية، وجرت بالطريقة التقليدية، الثورات في العالم العربي، ولم تخرج الدبابات ولم تخرج المدافع، انما خرجت كتل من الجماهير المتلاحقة، وهي جماهير من نوع مختلف... جماهير ليست هائجة ولا عصبية ولا شريرة ولا انتقامية، ولكنها خرجت بروح العصر وتطلب متطلبات العصر... وتستخدم في ثورتها تكنولوجيا العصر.. مطالبها لم تكن تقليدية فقد كانت عصرية... تطالب بالحرية ومقاومة الفساد ومقاومة التعبية، ومطالب الحرية المقدرة... والحرية العصرية التي تبدو متجاوزة المطالب التقليدية الاجتماعية ولقمة العيش... وكانت مطالب تنظر إلى القرن الحادي والعشرين... ومطالب التقدم وهي القريبة من الشواطئ الاوروبية. وجرت الاحداث بطريقة وسرعة خاطفة لا تكاد الانظار تلحق بها ولا تكاد الافكار تستجمع بالكامل لكي تكلم بما تدل عليه وما تعنيه... كان حدثاً في منتهى الأهمية في ذاته له دلالاته ومعانيه وتداعياته. فالذين خرجوا كان معظمهم من الشباب والشابات في مظهر حديث، شباب متعلم متحضر، نسبة استعمال الانترنت 25% من بلد يبلغ عدد سكانه (10.5) مليون نسمة، وهذه نسبة مهولة، ونسبة التعليم هي ايضاً الاكبر في العالم العربي، ونسبة النمو اسرع بكثير من بعضها في العالم العربي، ونسبة البطالة اقل من غيرها في العالم العربي.. نحن أمام ثوار جدد ليسوا تقليديين عكسوا حيوية الشعب التونسي وهو القريب من اوربا المطل على البحر الابيض المتوسط، والمتمكن من التكنولوجيا والمتعرف عليها والجاهز لاستعمال وسائلها والجاهز لاستعمال أدواتها (من الانترنت إلى الفيس بوك والتويتر). هذا الشعب وهؤلاء الشباب وهم في ثورتهم، هم الذين قاموا بدور الاعلام عن ثورتهم برغم القهر، وذلك باستعمالهم الوسائل الحديثة عن طريق (التويتر)، (الفيس بوك)، (اليوتيوب)، وبهذه الوسائل هم الذين صوروا وهم الذين كتبوا وهم الذين بعثوا رسائلهم إلى العالم كله، وهم الذين جعلوا كل العالم يتابع معهم ما يجري لحظة بلحظة، ويعيش معهم كأنه شريك تماماً في كل الاحداث. وبالرغم من عدم وجود الصحافة والاعلام التقليدي، استطاع الشباب التنفس باستيعابهم للتكنولوجيا الحديثة وأن يوصلوا قضيتهم إلى كل العالم رغم الحصار. فكتل الجماهير التي خرجت إلى الشوارع في كل مكان في تونس، كانت غاضبة، ولكن كانت غاضبة بطريقة تعكس روح العصر، كانت غاضبة بطريقة تنادي وتلح في طلب ما تريد، ولم تكن جاهزة لاستعمال العنف، وهم يدركون الموقع التونسي المطل على البحر الابيض والقريب من أوربا، وان القوى الطامعة موجودة في البحر أمامهم وعلى الشاطئ الآخر، وعندها رؤى باستمرار في المغرب العربي وبالتحديد هي (فرنسا)، ويدركون ايضاً أن الاسطول الامريكي أمامهم في البحر الابيض، وبناءً على هذه المعطيات والحسابات كانوا يثورون على اوضاع معينة داخلية وبدون عنف وبشجاعة وروح العصر. فاستطاع الثوار بهذه التصرفات الذكية والعقلانية من قبل شعب متعلم ومتحضر ويملك وسائل أدوات العصر الحديثة، استطاع ان يحيد هذه القوى الطامعة، بل ينتزع منهم الاعجاب والمساندة. وكانت فرنسا أول الرافضين لقبول (بن علي) على أراضيها، وانها تأمل في التهدئة وعدم اللجوء إلى العنف، وشددت على ان الحوار وحده يمكن ان يؤمن حلاً ديمقراطياً. وتعمل الآن وبالتنسيق مع السلطات التونسية على حصر كل الاموال والممتلكات الخاصة بأسرة (بن علي) لارجاعها إلى الشعب التونسي.
12- وثائق ويكيليكس التي خرجت على العالم، كانت تتضمن يوميات ما يحدث في تونس، باعتبارها رسائل متبادلة بين السفير الامريكي في تونس ووزارة الخارجية الامريكية، والآن الرسائل كانت تخرج من تونس وتعكس احوال الفساد والقمع وانعدام الحريات وتصلب وتحجر النظام، وان النظام بدأ يترنح وهو لا يدرك، كل هذه المعلومات كانت قد وصلت إلى كل التونسيين كغيرهم من شعوب العالم. وبالتأكيد أن هذه الوثائق والمعلومات لم تصنع الثروة، ولكن اعطت وقوداً أو على الاقل اعطت اطلالة مكنت من الاطلاع على الواقع الموجود في تونس، وانها أيضاً أكدت المعلومات التي كانت تدور في الشارع التونسي وازالة الشك عن بعض الحقائق، واعطت الامل في امكانية خلع النظام، وازالة الخوف، وشجعت على روح الثورة والتقدم إلى الامام، وانه يمكنه مفاجأة النظام واحداث صدمة استراتيجية ومن ثم الانفصال من النظام وازالته.
13- فوجئ نظام (بن علي) في تونس بتلاحق وسرعة وتدافع الاحداث، وانها كانت سريعة وخاطفة لا تكاد الانظار تلحق بها... كتل من البشر انفجرت فجأة في كل تونس تملك كل الارادة وكسرت حاجز الخوف بالرغم من قوة القمع الذي قامت به قوات الأمن وسقط جراءه الشهداء والجرحى، إلا ان شباب الثورة واصل الاندفاع يستهدف خلع النظام مهما كان الثمن. وفوجئ النظام لأنه أعد نفسه للبقاء مدى الحياة وإلى الابد، وسعى وخطط لهذاالهدف، وعلى ان تبقى السلطة دائماً في حوزة نفس الافكار والقيم والرؤى التي كانت تحكمه، ويضمن ان تكون مستمرة ومستقرة. وفي سبيل ذلك فعل كل ما يمكن لكي يؤكد استمراره، ولكنه فوجئ بما لم يكن في حسبانه. وبسبب هذه المفاجأة أصيب الرجل المسؤول عن هذا النظام (زين العابدين بن علي) بحالة من الذعر والخوف. وظهر امام شعبه وهو أقل ثقة بنفسه من اثر هول المفاجأة التي كانت واضحة عليه، وفي اليوم الثالث والأخير يوم (الخميس) الأخير، ظهر الرجل امام شعبه وكأن الامر قد انتهى، وكأنه رجل يبحث عن مخرج، وحاول ان يقول فهمت - والآن فهمت - ولكن ظهر انه لم يفهم، ولكن جماهيره وجماهير الشعب التونسي كانت فاهمة للعصر وكانت فاهمة مستوعبة لأساليبه، واستطاعت أن تأتي بالدنيا كلها معها ووراءها.
14- قوات الأمن والشرطة لم تعد قادرة على وقف تدافع جماهير الشباب وكتله المندفعة وبالقوة والارادة إلى اهدافها النهائية وهي زوال النظام، وذلك بالرغم من سقوط الشهداء والجرحى، فلقوة الامن والشرطة حدود استنزفت، وانها عاجزة عن مواجهة الموقف المتفجر، وارتكب (بن علي) خطأً فادحاً حينما ازاح وزير الداخلية في هذا التوقيت الحرج، لأنه عندما ازاح وزير داخليته كشف درع حمايته، وكشف اهم درع في التصفيع الذي صفعه بيده، ولعله كان يريد بازاحة وزير الداخلية امتصاص غضب الشباب المتفجر، وان يرمي اللوم كله على الداخلية وانها هي التي قتلت وجرحت وروعت، ولم يكن هو فاهماً لما يجري. ثم اعلان حالة الطوارئ، واتصل قصر الرئاسة بقائد الجيش الفريق (رشيد بن عمار) ووزير الدفاع. ورفض الجيش التدخل في الامر، وفضل الحياد وحماية الممتلكات والمواقع الحيوية، دون الاصطدام بالجماهير الثائرة. وقوات الجيش كانت تشعر بالمهانة، لانه أهمل في عهد (بن علي) لصالح قوات الشرطة والامن، ولأن اعتمادات البوليس كانت اكثر بكثير من اعتمادات الجيش. ولأن قوات الشرطة والامن هي القوة الحقيقية التي تحمي النظام وتنفذ سياساته الامنية والقمعية وهي الدرع الواقي والسميك لنظام (بن علي). وتفيد الرسائل الخارجة من السفارة الامريكية في تونس إلى وزارة الخارجية الامريكية (انه من مصلحة امريكا ان يبقى الجيش التونسي محترفاً ومتسماً بالحياد وبعيداً عن السياسية). وفي هذه الرسالة كانت واشنطون تعتقد ان التغيير في تونس ان تم فإنه سوف يكون بواسطة القوات المسلحة، إذن فهي وبالتنسيق مع النظام التونسي عمدوا إلى ابعاد الجيش عن الدائرة القريبة، وأبقوه بعيداً وعلى الحدود لمحاربة الارهاب، ولكن تونس وواشنطن فات عليهما ان عصر التغيير التقليدي قد ولى، وان التغيير والثورة ستكون بواسطة شباب العصر وبروح العصر وبمتطلبات العصر، ثورة حديثة تملك وسائل وآليات وأدوات تكنولوجيا العصر، شباب الشبكة العنكبوتية، وهنا يمتنع الوسطاء.
15- امتنع الجيش عن التدخل، والسفارة الامريكية لا تبدو متحمسة لأي فعل، فقد كانت هي الاخرى لم تفق من هول المفاجأة وما حدث، وأخيراً الرئيس الامريكي اوباما يصرح بأنه معجب بالشعب التونسي وبكبريائه وبشجاعته، وهذا يعني تخلي واشنطون عن رجلها في تونس، وانها الآن مع الثوار. وهكذا فقد (بن علي) كل شيء لم يبق أمامهم من خيار، إلا الفرار خارج تونس، وخاصة ان وزيره الأول قد نصحه بأن يذهب بعيداً عن تونس ولو مؤقتاً، وبمساعدة (ليبية) وتنكر (فرنسي) و(مالطي) و(عربي)، قبلته (السعودية) على أراضيها لظروف انسانية.
16- ونجحت الثورة، وجرت الاحداث بأسرع مما يمكن يتصوره أحد، ولكن الحقيقة ان واحداً من أهم النظم المصفحة في سياسة السيطرة الجديدة قد وقع. وان الشعب قام بالعمل الثوري الرئيسي، واجرى العملية الجراحية وبالمنظار، وخلع نظاماً مصفحاً كان متصوراً انه ضمن مجموعة أخرى من الأنظمة العربية يصعب النيل منها، ولكن بشباب العصر وروح العصر وتكنولوجيا العصر امكن احداث الثورة والتغيير، وكسرت الجماهير حاجز الخوف ولم تفلح حالة الطوارئ خاصة بعد ان رفض الجيش التدخل وفضل الحياة. والعالم العربي خرج يؤيد بحماس شعبياً وبخجل رسمياً من البعض، والعالم الخارجي خرج كله معجب، والساحة التونسية انفسحت لتغييرات تدافعت فيها كل التيارات السياسية التي كانت موجودة في الداخل والخارج، والتي كانت موجودة في المنافي والسجون. وبدأ الكل يتصارع. فالشعب التونسي أدى دوره تماماً وقام بالثورة وخلع النظام، وأفسح المجال واسعاً أمام مرحلة أخرى في تاريخ تونس، وحتى لا يكون هنالك فراغ في الحكم وادارة البلد، كان على السياسة والاحزاب السياسية ملء هذا الفراغ، والسياسة حائرة والاحزاب حائرة ربما لعدم الاستعداد ولأن نظام (بن علي) قد فرق هذه الاحزاب وشرد قادتها وكوادرها ربما لم تستوعب الحدث الجديد والسرعة التي انهى بها نظام (بن علي). ولكن الثوار مازالوا موجودين في أماكنهم وفي قلب الاحداث، ومازال الإصرار واضحاً على اكمال المهمة والقضاء على كل مظاهر الحكم البائد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً وثقافياً. وبناء مرحلة جديدة بدستور جديد وروح جديدة هي روح العصر، وديمقراطية تكفل العدالة الاجتماعية وتكفل الحريات وحقوق الانسان.
17- ان امريكا تخلت عن الرئيس المخلوع (بن علي) وفق استراتيجية الغدر الامريكي وانه لا صداقة تدوم ولاخاء يستمر، وعليه كان أول المهتمين بالثورة التونسية هي امريكا، أول الواصلين بالفعل إلى تونس هو المسؤول الامريكي. وأمريكا كما تقول الوثائق الصادرة عن السفارة الامريكية في تونس، انها لا يمكن ولا تستطيع بأية حال من الاحوال شطب تونس من الحسابات الامريكية، لأن المصالح في الميزان كبيرة جداً بالدرجة التي لا يمكن التخلي عنها، لأن امريكا تحتاج إلى تونس في معلجة تعاظم خطر القاعدة في المغرب الاسلامي، كما تخشى ايضاً ان تضع بعض الجماعات والمجموعات المتطرفة الاسلامية ساقها في تونس، ولذا من مصلحة امريكا الحفاظ على الجيش التونسي محترفاً ومتسماً بالحياد، كما انها ترغب في بناء انفتاح سياسي كبير، مع التوسع في دوائر حقوق الانسان - والمساعدة في البناء الاقتصادي والاجتماعي وتقوية الطبقة المتوسطة في تونس لانها تمثل ركزية الاستقرار على المدى البعيد للدولة التونسية. وان امريكا تحتاج تونس لتحسين صورتها في المنطقة، وان تتعاون معها تعاونا اكبر تجاه الكثير من التحديات الاقليمية.
18- ما حدث في تونس، يمثل حدثاً جديداً وثورة جديدة، خرجت عن كل المألوف من الثورات التي عرفناها حتى الآن، لم يكن تقليدياً وانما كان عصرياً، عصرياً في روحه ومطالبه، عصرياً في وسائله وآلياته وادواته ومستخدماً تكنولوجيا العصر من وسائل الاتصال الحديثة، ثورة قوامها الشباب والشابات من جيل الشبكة العنكبوتية والفيس بوك، التويتر، اليوتيوب، ثورة كلها جرت وبسرعة بروح العصر وبالقرن (21). هذه الثورة فاجأت النظام التونسي والنظام العربي وكل العالم، لأن نظام (بن علي) كان نموذجاً للنظام القهري البوليسي التسلطي، واعجب بالثورة الشباب العربي والشعب العربي، وقابلها باستحياء معظم النظم العربية، بدليل لم يذهب مسؤول عربي أو زعيم إلى تونس لتهنئة الثوار، بينما يوجد المندوب الامريكي. والحدث التونسي بكل جرأته وعصريته وحداثته، كان له تأثيره المباشر في الشارع العربي، فقد سعت بعض النظم العربية بتأثير هذا الحدث إلى مصالحة شعوبها بتقديم بعض (المكرمات) أو إلغاء بعض الزيادات في الاسعار أو العدول عن قرارات سياسية خطيرة كانت سوف تحدث، والبعض من الجماهير العربية خرج إلى الشارع مطالباً بحقه، فالثورة التونسية ازالت حاجز الخوف من الكثير من الشباب العربي، لأنها أثبت وبالفعل والعمل ان النظام الاستبدادي الدكتاتوري مهما تحصن وتصفح، فإنه وبارادة الشباب يمكن اختراقه وبكل السرعة والجرأة والسهولة.
19- من واقع الحدث التونسي الثوري يمكن الاشارة لبعض الملاحظات كالآتي:
أ/ ان هنالك قوى شبابية حديثة عربية، فرضت نفسها في أحداث تونس، ويمكن أن تفرض نفسها سياسياً في احداث عربية أخرى، هذه القوة الحديثة تعمل بروح العصر ومتطلبات العصر وتستخدم تكنولوجيا العصر بكل وسائله وآلياته وأدواته. وهذه القوة تمثل الآن أكثر من 60% من القوى البشرية العربية. وهذه القوة تفكر بروح العصر وروح القرن (21). وعلى النخب الحاكمة في الوطن العربي حساب هذه القوة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وحساب متطلباتها الأخرى، فهي قوة المستقبل شئنا أم أبينا.
ب/ القوة العربية المعارضة والتقليدية، فقدت قوتها وسيطرتها بفعل بعض الحكومات والانظمة العربية التي سعت ونجحت في تفتيتها واحتواء بعضها كديكورات تزين البرلمانات العربية. وقوة الشباب القادمة هو البديل المعارض للأنظمة الحاكمة، ولكن يمكن لهذه القوة والنخب التقليدية الاستفادة من طاقة وافكار هؤلاء الشباب في حالة تغيير ثوبها القديم. وتجربة تونس أوضحت ان الشباب نجح في اقتلاع نظام (بن علي)، ولكن الاحزاب التونسية والقوة التقليدية لم تفلح في مجاراة الاحداث واستغلال النجاح الذي تحقق حتى يمكن اكمال قصة الثورة.
ج/ الاتجاه لاحداث تحول ديمقراطي حقيقي يحقق الحريات والعدالة الاجتماعية ويقبل الآخر ولا يضيق بالحوار، وان يتم انتقال السلطة بدون عمليات البلطجة والتزوير والارهاب وبطريقة سليمة وليس بالوراثة ولا بحجم القبيلة. وان هذا هو الوسيلة الوحيدة والقادرة على تحقيق الاستقرار والازدهار للاوطان العربية.
د/ علينا السعي في بناء القيم السليمة والناضجة وتعزيز مفاهيم المواطنة وحقوق الانسان، وتحقيق حق الاختلاف في الرأي والموقف وصيانة التنوع الاجتماعي والسياسي.. نريد للأمة العربية لوج عصر الحداثة والتنوير وبناء الدولة الوطنية الحديثة وفق معتقداتنا وقيمنا الأخلاقية والدينية.
وبالله التوفيق والنجاح.
* خبير وباحث في الشؤون العسكرية والسياسة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.