السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تونس فوق صفيح ساخن «3-3»

9 /الرسائل المرسلة من السفارة الامريكية في تونس الى واشنطن ، كانت تلمح وتشير احيانا الى تحجر وتصلب النظام وانه لا يعمل بالنصائح الامريكية حتى يكون مستقرا، وان هنالك شعوراًعاماً بالكراهية وانه لا يوجد بديل حاضر (لبن علي) وتخشى مع هذه الحالة ان تضيع من قضيتها تونس في حالة قيام اي ثورة او حركة تغيير، بمعنى ان الدبلوماسية الامريكية في تونس قد اشارت الى لحظات التغيير القادمة، وبدأت تتلمس طريقها داخل تونس لاقامة علاقات مع بعض النخب والشباب المعتدل والجماعات السياسية المعتدلة حتى يكون لها رصيد سياسي واجتماعي وموقع قدم في حالة حدوث تغييرات سياسية في تونس والتي اوشكت على الحدوث، وهذه الحالة التونسية شبيهة بالحالة الايرانية ايام الشاه.
فقد كان شاه ايران صديقا وحليفا استراتيجيا لامريكا في منطقة الشرق الاوسط، وكان شرطي المنطقة، اعطى امريكا كل ما تريد لتحقيق مصالحها في المنطقة ومن ثم حماية هذه المصالح الامريكية، وبالمقابل اعطته امريكا كل ما يريد من دعم ومكنته من حكم ايران، وانفرد شاه ايران بحكم الداخل ويعتقد ان هذا حقه، ما دامت امريكا اخذت ما تريد استراتيجيا...!
ولكن بدأت المشاكل تنشأ في الداخل ، ما اقلق الادارة الامريكية، وحاولت تقديم النصح له حتى يضمن ضمان الاستقرار في المنطقة، وهذا الاستقرار يؤمن مصالحها في الشرق الاوسط، ولكن شاه ايران كان دائما لا يأخذ بهذه النصائح بدعوى الاستقلالية واستقلال الارادة والخصوصية الايرانية الثقافية. وفي آخر الامر خرجت الامور من يد شاه ايران ولم تتمكن طهران ولا واشنطن ايقاف قطار الثورة الايرانية، وذهب الشاه الى مزبلة التاريخ ومعه كل الاحلام الامريكية.
هذا ما حدث بالضبط في تونس، وعندما شعرت امريكا ان نظام (بن علي) بدأ يتهادى وانه اسرف في الطغيان والاستبداد، تخلت عنه، وحتى عندما حاول الاستنجاد بالسفارة الامريكية بتونس - كان كل شئ قد انتهى، وعلى الفور اشاد الرئيس (باراك اوباما) (بشجاعة وكرامة الشعب التونسي)، ودعا الى اجراء انتخابات نزيهة وحرة قائلا (ان الولايات المتحدة تقف الى جانب المجتمع الدولي للشهادة على هذا النضال الشجاع من اجل الحصول على الحقوق العالمية التي يجب ان تحافظ عليها، ونستذكر على الدوام صور الشعب التونسي الذي يسعى لاسماع صوته)..
وفي خطابه الاخير في يوم 2011/1/25م، اشاد اوباما بثورة شعب تونس واعلن دعمه الكامل لهذه الثورة وحق الشعب التونسي في الحرية والتغيير، وتمنى لهم التوفيق..! وتم ارسال مسؤول كبير الى تونس كأول مسئول سياسي عالمي يحضر الى تونس بعد ذهاب (بن علي) .
10/ لا صداقة مع احد تدوم.. ولا وفاء لأحد يستمر.. هذا هو المنطق السياسي الامريكي في التعامل مع الانظمة الحاكمة في كل زمان ومكان .. منطق القدر هذا لا يستثني احدا ليس فيه مكان لحليف او صديق.. الجميع سواسية ، المعيار الوحيد هو المصلحة فقط.. ليس للاخلاق مكان.. ليس لحقوق الصداقة مكان.. ولا معافاة نهاية خدمة لصديق او حليف الذي افنى نفسه في خدمة العم سام.. ولا مكان لحقوق الانسان... او اية مصطلحات او مفاهيم اخرى تحمل شبه اي شئ يتعلق بالانسانية.. الغريب انه رغم تاريخ الولايات المتحدة الطويل في الغدر بأصدقائها وحلفائها من الحكام، وتخليها عنهم بعد استنفاد قدراتهم على القيام بأدوارهم، او تراجع قوتهم ونفوذهم امام قوى المعارضة.. او ظهور بديل يمكنه ان يقدم خدمات اكبر، او في حال كان البديل يتقدم عليهم شعبيا (انتخابيا) فتخلى عنهم لصالح بديل آخر. ورغم ان الولايات المتحدة قد تخصصت عبر عقود طويلة في بيع حلفائها واصدقائها، بمجرد ان تجد البديل الافضل، او ان تراهم آيلين للسقوط - وغالبا ما تكون هي السبب الرئيسي في هذا السقوط - مثل الحالة التونسية وذهاب بن علي - إلا ان الحكام لا يتعظون، وما ان تغدر امريكا بحاكم، حتى يتطوع آخر ويقدم نفسه لها، على امل ان تكون رأس الحربة التي يستخدمها هو المنتصر على كرسي الحاكم، وتدور الايام ليجد في النهاية الغدر بانتظاره، والتاريخ يذكر ان هنالك الكثير من الحكام والزعماء والقادة من حلفاء واشنطن الذين حاولوا الاستقواء بها ، او التقرب على حساب شعوبهم، ولكن واشنطن غدرت بهم وتخلت عنهم... وباعتهم.. وهم على سبيل المثال:
الرئيس الباكستاني (برويز مشرف)، (شاه ايران (محمد رضا بهلوي) - والرئيس الفلبيني (فرديناند ماركوس)، وتجربة (مانويل نورتيجا) رئيس بنما - ومن الذين بعاتهم امريكا الرئيس العراقي (صدام حسين)، (وادوارد شيفارونادزه) - رئيس جورجيا - (وسوهارتو) رئيس اندونيسيا (وبيونشيه) ديكتاتور شيلي - (وباتيستا) ديكتاتور كوبا - (وموبوتو) رئيس الكنغو (وبي نظير بوتو) رئيسة وزراء باكستان - (رجان اريستيد) - رئيس هايتي - (وعسكر أكاييف) حاكم قرقيستان وغيرهم وغيرهم - واخيرا (زين العابدين بن علي) الرئيس الاسبق لتونس.. وهنالك آخرون في طريق الغدر والبيع.
11- بعد طول انتظار وطول صبر على القمع والذل والمهانة ومصادرة الحريات... وبعد أن عم الفساد وساد الظلم، وبعد أن تقطت أنفاس الشعب التونسي، خرج المارد التونسي من قمقمه... مفجراً ثورته التي تختلف عن كل الثورات، وعن كل المألوف عن الثورات التي عرفها العالم العربي، لم تكن ثورة تقليدية، وجرت بالطريقة التقليدية، الثورات في العالم العربي، ولم تخرج الدبابات ولم تخرج المدافع، انما خرجت كتل من الجماهير المتلاحقة، وهي جماهير من نوع مختلف... جماهير ليست هائجة ولا عصبية ولا شريرة ولا انتقامية، ولكنها خرجت بروح العصر وتطلب متطلبات العصر... وتستخدم في ثورتها تكنولوجيا العصر.. مطالبها لم تكن تقليدية فقد كانت عصرية... تطالب بالحرية ومقاومة الفساد ومقاومة التعبية، ومطالب الحرية المقدرة... والحرية العصرية التي تبدو متجاوزة المطالب التقليدية الاجتماعية ولقمة العيش... وكانت مطالب تنظر إلى القرن الحادي والعشرين... ومطالب التقدم وهي القريبة من الشواطئ الاوروبية. وجرت الاحداث بطريقة وسرعة خاطفة لا تكاد الانظار تلحق بها ولا تكاد الافكار تستجمع بالكامل لكي تكلم بما تدل عليه وما تعنيه... كان حدثاً في منتهى الأهمية في ذاته له دلالاته ومعانيه وتداعياته. فالذين خرجوا كان معظمهم من الشباب والشابات في مظهر حديث، شباب متعلم متحضر، نسبة استعمال الانترنت 25% من بلد يبلغ عدد سكانه (10.5) مليون نسمة، وهذه نسبة مهولة، ونسبة التعليم هي ايضاً الاكبر في العالم العربي، ونسبة النمو اسرع بكثير من بعضها في العالم العربي، ونسبة البطالة اقل من غيرها في العالم العربي.. نحن أمام ثوار جدد ليسوا تقليديين عكسوا حيوية الشعب التونسي وهو القريب من اوربا المطل على البحر الابيض المتوسط، والمتمكن من التكنولوجيا والمتعرف عليها والجاهز لاستعمال وسائلها والجاهز لاستعمال أدواتها (من الانترنت إلى الفيس بوك والتويتر). هذا الشعب وهؤلاء الشباب وهم في ثورتهم، هم الذين قاموا بدور الاعلام عن ثورتهم برغم القهر، وذلك باستعمالهم الوسائل الحديثة عن طريق (التويتر)، (الفيس بوك)، (اليوتيوب)، وبهذه الوسائل هم الذين صوروا وهم الذين كتبوا وهم الذين بعثوا رسائلهم إلى العالم كله، وهم الذين جعلوا كل العالم يتابع معهم ما يجري لحظة بلحظة، ويعيش معهم كأنه شريك تماماً في كل الاحداث. وبالرغم من عدم وجود الصحافة والاعلام التقليدي، استطاع الشباب التنفس باستيعابهم للتكنولوجيا الحديثة وأن يوصلوا قضيتهم إلى كل العالم رغم الحصار. فكتل الجماهير التي خرجت إلى الشوارع في كل مكان في تونس، كانت غاضبة، ولكن كانت غاضبة بطريقة تعكس روح العصر، كانت غاضبة بطريقة تنادي وتلح في طلب ما تريد، ولم تكن جاهزة لاستعمال العنف، وهم يدركون الموقع التونسي المطل على البحر الابيض والقريب من أوربا، وان القوى الطامعة موجودة في البحر أمامهم وعلى الشاطئ الآخر، وعندها رؤى باستمرار في المغرب العربي وبالتحديد هي (فرنسا)، ويدركون ايضاً أن الاسطول الامريكي أمامهم في البحر الابيض، وبناءً على هذه المعطيات والحسابات كانوا يثورون على اوضاع معينة داخلية وبدون عنف وبشجاعة وروح العصر. فاستطاع الثوار بهذه التصرفات الذكية والعقلانية من قبل شعب متعلم ومتحضر ويملك وسائل أدوات العصر الحديثة، استطاع ان يحيد هذه القوى الطامعة، بل ينتزع منهم الاعجاب والمساندة. وكانت فرنسا أول الرافضين لقبول (بن علي) على أراضيها، وانها تأمل في التهدئة وعدم اللجوء إلى العنف، وشددت على ان الحوار وحده يمكن ان يؤمن حلاً ديمقراطياً. وتعمل الآن وبالتنسيق مع السلطات التونسية على حصر كل الاموال والممتلكات الخاصة بأسرة (بن علي) لارجاعها إلى الشعب التونسي.
12- وثائق ويكيليكس التي خرجت على العالم، كانت تتضمن يوميات ما يحدث في تونس، باعتبارها رسائل متبادلة بين السفير الامريكي في تونس ووزارة الخارجية الامريكية، والآن الرسائل كانت تخرج من تونس وتعكس احوال الفساد والقمع وانعدام الحريات وتصلب وتحجر النظام، وان النظام بدأ يترنح وهو لا يدرك، كل هذه المعلومات كانت قد وصلت إلى كل التونسيين كغيرهم من شعوب العالم. وبالتأكيد أن هذه الوثائق والمعلومات لم تصنع الثروة، ولكن اعطت وقوداً أو على الاقل اعطت اطلالة مكنت من الاطلاع على الواقع الموجود في تونس، وانها أيضاً أكدت المعلومات التي كانت تدور في الشارع التونسي وازالة الشك عن بعض الحقائق، واعطت الامل في امكانية خلع النظام، وازالة الخوف، وشجعت على روح الثورة والتقدم إلى الامام، وانه يمكنه مفاجأة النظام واحداث صدمة استراتيجية ومن ثم الانفصال من النظام وازالته.
13- فوجئ نظام (بن علي) في تونس بتلاحق وسرعة وتدافع الاحداث، وانها كانت سريعة وخاطفة لا تكاد الانظار تلحق بها... كتل من البشر انفجرت فجأة في كل تونس تملك كل الارادة وكسرت حاجز الخوف بالرغم من قوة القمع الذي قامت به قوات الأمن وسقط جراءه الشهداء والجرحى، إلا ان شباب الثورة واصل الاندفاع يستهدف خلع النظام مهما كان الثمن. وفوجئ النظام لأنه أعد نفسه للبقاء مدى الحياة وإلى الابد، وسعى وخطط لهذاالهدف، وعلى ان تبقى السلطة دائماً في حوزة نفس الافكار والقيم والرؤى التي كانت تحكمه، ويضمن ان تكون مستمرة ومستقرة. وفي سبيل ذلك فعل كل ما يمكن لكي يؤكد استمراره، ولكنه فوجئ بما لم يكن في حسبانه. وبسبب هذه المفاجأة أصيب الرجل المسؤول عن هذا النظام (زين العابدين بن علي) بحالة من الذعر والخوف. وظهر امام شعبه وهو أقل ثقة بنفسه من اثر هول المفاجأة التي كانت واضحة عليه، وفي اليوم الثالث والأخير يوم (الخميس) الأخير، ظهر الرجل امام شعبه وكأن الامر قد انتهى، وكأنه رجل يبحث عن مخرج، وحاول ان يقول فهمت - والآن فهمت - ولكن ظهر انه لم يفهم، ولكن جماهيره وجماهير الشعب التونسي كانت فاهمة للعصر وكانت فاهمة مستوعبة لأساليبه، واستطاعت أن تأتي بالدنيا كلها معها ووراءها.
14- قوات الأمن والشرطة لم تعد قادرة على وقف تدافع جماهير الشباب وكتله المندفعة وبالقوة والارادة إلى اهدافها النهائية وهي زوال النظام، وذلك بالرغم من سقوط الشهداء والجرحى، فلقوة الامن والشرطة حدود استنزفت، وانها عاجزة عن مواجهة الموقف المتفجر، وارتكب (بن علي) خطأً فادحاً حينما ازاح وزير الداخلية في هذا التوقيت الحرج، لأنه عندما ازاح وزير داخليته كشف درع حمايته، وكشف اهم درع في التصفيع الذي صفعه بيده، ولعله كان يريد بازاحة وزير الداخلية امتصاص غضب الشباب المتفجر، وان يرمي اللوم كله على الداخلية وانها هي التي قتلت وجرحت وروعت، ولم يكن هو فاهماً لما يجري. ثم اعلان حالة الطوارئ، واتصل قصر الرئاسة بقائد الجيش الفريق (رشيد بن عمار) ووزير الدفاع. ورفض الجيش التدخل في الامر، وفضل الحياد وحماية الممتلكات والمواقع الحيوية، دون الاصطدام بالجماهير الثائرة. وقوات الجيش كانت تشعر بالمهانة، لانه أهمل في عهد (بن علي) لصالح قوات الشرطة والامن، ولأن اعتمادات البوليس كانت اكثر بكثير من اعتمادات الجيش. ولأن قوات الشرطة والامن هي القوة الحقيقية التي تحمي النظام وتنفذ سياساته الامنية والقمعية وهي الدرع الواقي والسميك لنظام (بن علي). وتفيد الرسائل الخارجة من السفارة الامريكية في تونس إلى وزارة الخارجية الامريكية (انه من مصلحة امريكا ان يبقى الجيش التونسي محترفاً ومتسماً بالحياد وبعيداً عن السياسية). وفي هذه الرسالة كانت واشنطون تعتقد ان التغيير في تونس ان تم فإنه سوف يكون بواسطة القوات المسلحة، إذن فهي وبالتنسيق مع النظام التونسي عمدوا إلى ابعاد الجيش عن الدائرة القريبة، وأبقوه بعيداً وعلى الحدود لمحاربة الارهاب، ولكن تونس وواشنطن فات عليهما ان عصر التغيير التقليدي قد ولى، وان التغيير والثورة ستكون بواسطة شباب العصر وبروح العصر وبمتطلبات العصر، ثورة حديثة تملك وسائل وآليات وأدوات تكنولوجيا العصر، شباب الشبكة العنكبوتية، وهنا يمتنع الوسطاء.
15- امتنع الجيش عن التدخل، والسفارة الامريكية لا تبدو متحمسة لأي فعل، فقد كانت هي الاخرى لم تفق من هول المفاجأة وما حدث، وأخيراً الرئيس الامريكي اوباما يصرح بأنه معجب بالشعب التونسي وبكبريائه وبشجاعته، وهذا يعني تخلي واشنطون عن رجلها في تونس، وانها الآن مع الثوار. وهكذا فقد (بن علي) كل شيء لم يبق أمامهم من خيار، إلا الفرار خارج تونس، وخاصة ان وزيره الأول قد نصحه بأن يذهب بعيداً عن تونس ولو مؤقتاً، وبمساعدة (ليبية) وتنكر (فرنسي) و(مالطي) و(عربي)، قبلته (السعودية) على أراضيها لظروف انسانية.
16- ونجحت الثورة، وجرت الاحداث بأسرع مما يمكن يتصوره أحد، ولكن الحقيقة ان واحداً من أهم النظم المصفحة في سياسة السيطرة الجديدة قد وقع. وان الشعب قام بالعمل الثوري الرئيسي، واجرى العملية الجراحية وبالمنظار، وخلع نظاماً مصفحاً كان متصوراً انه ضمن مجموعة أخرى من الأنظمة العربية يصعب النيل منها، ولكن بشباب العصر وروح العصر وتكنولوجيا العصر امكن احداث الثورة والتغيير، وكسرت الجماهير حاجز الخوف ولم تفلح حالة الطوارئ خاصة بعد ان رفض الجيش التدخل وفضل الحياة. والعالم العربي خرج يؤيد بحماس شعبياً وبخجل رسمياً من البعض، والعالم الخارجي خرج كله معجب، والساحة التونسية انفسحت لتغييرات تدافعت فيها كل التيارات السياسية التي كانت موجودة في الداخل والخارج، والتي كانت موجودة في المنافي والسجون. وبدأ الكل يتصارع. فالشعب التونسي أدى دوره تماماً وقام بالثورة وخلع النظام، وأفسح المجال واسعاً أمام مرحلة أخرى في تاريخ تونس، وحتى لا يكون هنالك فراغ في الحكم وادارة البلد، كان على السياسة والاحزاب السياسية ملء هذا الفراغ، والسياسة حائرة والاحزاب حائرة ربما لعدم الاستعداد ولأن نظام (بن علي) قد فرق هذه الاحزاب وشرد قادتها وكوادرها ربما لم تستوعب الحدث الجديد والسرعة التي انهى بها نظام (بن علي). ولكن الثوار مازالوا موجودين في أماكنهم وفي قلب الاحداث، ومازال الإصرار واضحاً على اكمال المهمة والقضاء على كل مظاهر الحكم البائد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً وثقافياً. وبناء مرحلة جديدة بدستور جديد وروح جديدة هي روح العصر، وديمقراطية تكفل العدالة الاجتماعية وتكفل الحريات وحقوق الانسان.
17- ان امريكا تخلت عن الرئيس المخلوع (بن علي) وفق استراتيجية الغدر الامريكي وانه لا صداقة تدوم ولاخاء يستمر، وعليه كان أول المهتمين بالثورة التونسية هي امريكا، أول الواصلين بالفعل إلى تونس هو المسؤول الامريكي. وأمريكا كما تقول الوثائق الصادرة عن السفارة الامريكية في تونس، انها لا يمكن ولا تستطيع بأية حال من الاحوال شطب تونس من الحسابات الامريكية، لأن المصالح في الميزان كبيرة جداً بالدرجة التي لا يمكن التخلي عنها، لأن امريكا تحتاج إلى تونس في معلجة تعاظم خطر القاعدة في المغرب الاسلامي، كما تخشى ايضاً ان تضع بعض الجماعات والمجموعات المتطرفة الاسلامية ساقها في تونس، ولذا من مصلحة امريكا الحفاظ على الجيش التونسي محترفاً ومتسماً بالحياد، كما انها ترغب في بناء انفتاح سياسي كبير، مع التوسع في دوائر حقوق الانسان - والمساعدة في البناء الاقتصادي والاجتماعي وتقوية الطبقة المتوسطة في تونس لانها تمثل ركزية الاستقرار على المدى البعيد للدولة التونسية. وان امريكا تحتاج تونس لتحسين صورتها في المنطقة، وان تتعاون معها تعاونا اكبر تجاه الكثير من التحديات الاقليمية.
18- ما حدث في تونس، يمثل حدثاً جديداً وثورة جديدة، خرجت عن كل المألوف من الثورات التي عرفناها حتى الآن، لم يكن تقليدياً وانما كان عصرياً، عصرياً في روحه ومطالبه، عصرياً في وسائله وآلياته وادواته ومستخدماً تكنولوجيا العصر من وسائل الاتصال الحديثة، ثورة قوامها الشباب والشابات من جيل الشبكة العنكبوتية والفيس بوك، التويتر، اليوتيوب، ثورة كلها جرت وبسرعة بروح العصر وبالقرن (21). هذه الثورة فاجأت النظام التونسي والنظام العربي وكل العالم، لأن نظام (بن علي) كان نموذجاً للنظام القهري البوليسي التسلطي، واعجب بالثورة الشباب العربي والشعب العربي، وقابلها باستحياء معظم النظم العربية، بدليل لم يذهب مسؤول عربي أو زعيم إلى تونس لتهنئة الثوار، بينما يوجد المندوب الامريكي. والحدث التونسي بكل جرأته وعصريته وحداثته، كان له تأثيره المباشر في الشارع العربي، فقد سعت بعض النظم العربية بتأثير هذا الحدث إلى مصالحة شعوبها بتقديم بعض (المكرمات) أو إلغاء بعض الزيادات في الاسعار أو العدول عن قرارات سياسية خطيرة كانت سوف تحدث، والبعض من الجماهير العربية خرج إلى الشارع مطالباً بحقه، فالثورة التونسية ازالت حاجز الخوف من الكثير من الشباب العربي، لأنها أثبت وبالفعل والعمل ان النظام الاستبدادي الدكتاتوري مهما تحصن وتصفح، فإنه وبارادة الشباب يمكن اختراقه وبكل السرعة والجرأة والسهولة.
19- من واقع الحدث التونسي الثوري يمكن الاشارة لبعض الملاحظات كالآتي:
أ/ ان هنالك قوى شبابية حديثة عربية، فرضت نفسها في أحداث تونس، ويمكن أن تفرض نفسها سياسياً في احداث عربية أخرى، هذه القوة الحديثة تعمل بروح العصر ومتطلبات العصر وتستخدم تكنولوجيا العصر بكل وسائله وآلياته وأدواته. وهذه القوة تمثل الآن أكثر من 60% من القوى البشرية العربية. وهذه القوة تفكر بروح العصر وروح القرن (21). وعلى النخب الحاكمة في الوطن العربي حساب هذه القوة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وحساب متطلباتها الأخرى، فهي قوة المستقبل شئنا أم أبينا.
ب/ القوة العربية المعارضة والتقليدية، فقدت قوتها وسيطرتها بفعل بعض الحكومات والانظمة العربية التي سعت ونجحت في تفتيتها واحتواء بعضها كديكورات تزين البرلمانات العربية. وقوة الشباب القادمة هو البديل المعارض للأنظمة الحاكمة، ولكن يمكن لهذه القوة والنخب التقليدية الاستفادة من طاقة وافكار هؤلاء الشباب في حالة تغيير ثوبها القديم. وتجربة تونس أوضحت ان الشباب نجح في اقتلاع نظام (بن علي)، ولكن الاحزاب التونسية والقوة التقليدية لم تفلح في مجاراة الاحداث واستغلال النجاح الذي تحقق حتى يمكن اكمال قصة الثورة.
ج/ الاتجاه لاحداث تحول ديمقراطي حقيقي يحقق الحريات والعدالة الاجتماعية ويقبل الآخر ولا يضيق بالحوار، وان يتم انتقال السلطة بدون عمليات البلطجة والتزوير والارهاب وبطريقة سليمة وليس بالوراثة ولا بحجم القبيلة. وان هذا هو الوسيلة الوحيدة والقادرة على تحقيق الاستقرار والازدهار للاوطان العربية.
د/ علينا السعي في بناء القيم السليمة والناضجة وتعزيز مفاهيم المواطنة وحقوق الانسان، وتحقيق حق الاختلاف في الرأي والموقف وصيانة التنوع الاجتماعي والسياسي.. نريد للأمة العربية لوج عصر الحداثة والتنوير وبناء الدولة الوطنية الحديثة وفق معتقداتنا وقيمنا الأخلاقية والدينية.
وبالله التوفيق والنجاح.
* خبير وباحث في الشؤون العسكرية والسياسة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.