شاهد العالم الرئيس الامريكى جو بايدن فى البيت الابيض وهو يجثو بركبته لتحية سيدة تسعينية من الامريكيين الافارقة تدعى اوبال لى كانت قد كرست جهدها للتعبئة من اجل اعلان 19 يونيو المعروف باسم (جونتينث) يوما للاستقلال الثانى للولايات المتحدة ، وبدا بايدن مبتهجا اثناء التوقيع على قرار جونتينس فى اجواء عكست صحوة امريكا للتعلم من تاريخها والاعتراف بخطيئتها الاصلية ، ما حدا به للقول بأن تصديقه على القرار " سيحقق لى احد اعظم التكريمات التى حصلت عليها كرئيس " في اول يناير 1863 اعلن الرئيس الامريكى ابراهام لينكولن تحرير العبيد ، لكن ذلك القرار المصيرى بقى مجرد حبر على الورق بالنسبة لمائتى وخمسين الف مستعبد من اصول افريقية فى غالفستون فى تكساس ، كتب عليهم ان يعيشوا الجحيم لمدة عامين ونصف انتهت فى يوم 19 يونيو 1865 ، وهو اليوم الذى علم فيه اولئك التعساء انهم اصبحوا احرارا للابد عندما تلى عليهم جنرال جيش الاتحاد غوردون غرانغر الامر العام الثالث وابلغهم بانتهاء الحرب الاهلية والغاء العبودية فى الولاياتالمتحدة رسميا، وقد اثارت مسألة تاخير اخطار العبيد بالقرار جدلا واسعا فى صفوف الامريكيين تمتد ذيوله الى اليوم . وكان قد قيل ان ضعف الاتصالات فى ذلك الوقت ومزاعم مقتل موفد لينكولن فى الطريق وعدم وجود قوات للاتحاد فى تكساس كانت وراء التاخير ... بيد ان بعض المؤرخين عزوا طول الوقت من صدور القرار الى علم المستعبدين به الى رغبة ملاك العبيد حجب هذه المعلومة المهمة عن عبيدهم عن قصد ، بينما اتهم اخرون لينكولن نفسه بالتواطؤ وابطاء توصيل الانباء ريثما يفرغ العبيد من حصاد المحصولات الزراعية ، فى وقت كانت العبودية المحرك الاقتصادى للجنوب علاوة على ان المستعبدين كانوا يمثلون الاستثمار الاكثر اهمية لاصحاب المزارع فى الولايات الجنوبية والجزء الاكبر من ثروتهم ، وكان الجنوب وحده ينتج ما يعادل 75% من قطن العالم انذاك ، فيما رجح اخرون ان يكون الامر متعلقا فى الاساس بعجز الاتحاد عن اقرار سياسات جديدة فى الولاياتالمتحدة حتى انتهاء الحرب الاهلية ، و معروف انه بعد بضعة اشهر من اطلاق سراح عبيد غالفستون تمت المصادقة على التعديل الثالث عشر لالغاء العبودية رسميا وذلك فى ديسمبر 1865. منذ اواخر القران التاسع عشر درج السود على الاحتفال بنهاية العبودية فى 19 يونيو . حيث يقيمون مهرجانات سنوية يوزعون فيها الطعام والمشروبات وينشدون فيها الاغانى التى كانت توفر لهم السند المعنوى فى مواجهة الفظائع التى كابدوها على ايدى اسيادهم فى الماضى ومن الامريكيين اليوم !! ويرى معظم السود ان يوم الرابع من يوليو 1776 الذى نالت فيه امريكا استقلالها لم يكن مصمما للاعتراف بالحرية للجميع ، ورفض كثير من السود الاعتراف بالرابع من يوليو وداوموا عوضا على الاحتفال بيوم استقلالهم الذى شهد اطلاق سراح اخر العبيد واسموه : اقدم يوم للحرية تميز بالحرية للجميع . واكثر من ذلك رات الغالبية منهم استقلال امريكا عن بريطانيا محض تحرير بيض لبيض اخرين ، فيما بقوا هم يعيشون الى اليوم فى عبودية قاسية بلغت ذروتها بشكل خاص فى العام الماضى متمثلة فى وحشية الشرطة التى قتلت اعدادا كبيرة من ابنائهم مثل بريونا تايلور فى كنتاكى واحمود اربورى فى جورجيا وجورج فلويد فى منيابوليس ، والاخير دفعت الطريقة الوحشية التى ازهقت بها روحه الامريكيين نحو حافة الهاوية – كانت حادثة فلويد التى هزت العالم جريمة قتل مروعة وجد المجتمع الامريكى نفسه ازاءها مجبرا على مواجهة التاريخ الطويل والعنيف للعنصرية فى بلدهم والمتمثل فى تجريد السود من انسانيتهم . ويعد فرديريك دوغلاس احد القادة التاريخيين لكفاح السود اول من اثار تلك المسالة فى خطبة له فى عام 1852 حيث تساءل ماقيمة الرابع من يوليو للعبد الافريقى اكثر من كل ايام السنة الاخرى التى يكون فيها الضحية الدائمة للظلم الجسيم والقسوة ؟! بمجرد وضع بايدن توقيعه على المرسوم اصبح 19 يونيو عطلة فيدرالية وسيسجل العام 2021 بانه العالم الذى شهد اول عطلة لجونتينس وفور اقراره امتدح الساسة والمثقفون والمعلقون فى اجهزة الاعلام من مختلف التيارات تصويت الكونغرس بكثافة لاجازته حيث مر القرار باجماع مجلس الشيوخ ، حتى فى مجلس النواب لم يصوت ضده سوى 14 عضوا جمهوريا معظمهم يمثلون ولايات الجنوب التى حاربت بشراسة لابقاء الرق . معتبرين الحدث خطوة نحو المصالحة ويوما للاحتفال والتعليم والتواصل . ومن اجمل ما قيل عن الاحتفال بجونتينس : انه يشبه الى حد كبير عزف البلوز !! وكانت قد جرت محاولات جريئة فى العام الماضى لتمرير القرار فى الكونغرس غير انها تحطمت على صخرة الحظر الذى كان يلوح بها عضو من ويسكنسن . لكنه قطعا فى هذه المرة وجد ان الزمن قد ترك ندوبه بصورة لافتة ، مثلما كان الحراك الثورى العام الماضى لافتا بصورة ادت للاعتراف بحياة السود . بعد مقتل فلويد والاحتجاجات التى تطالب بالعدالة ازداد الاهتمام بتاريخ السود وقضاياهم .. !! اغلب الذين اعترضوا على محاولات اختيار جونتينث ضمن تقويم العطلات الفيدرالية قالوا انه سيكون مكلفا لدافعي الضرائب و مثيرا للانقسام ، وهؤلاء اصلا يرفضون فكرة اجراء اية مراجعات فى سياق رفضهم التاريخى للدعوات التى تطالب بدراسة المنظار الذى لون العرق من خلاله الحياة العامة ، وحجتهم ذلك يسيء للبيض بشكل غير منصف ويعطى حجما اكبر لموضوع العنصرية التى لا تعد فى نظرهم عنصرا اساسيا فى المجتمع الامريكى . اعلان جونتينس والذى يعن19 يونيو بالانجليزية ، لحظة تاريخية مهمة للسود وهو يكتسب اهمية اكبر لانه يذكر الامريكيين بان حياة السود مهمة بخاصة وانهم اى السود لم يكونوا جزءا من الاسرة البشرية فى عيون العنصريين البيض لفترة طويلة بل كانوا مجرد ممتلكات يتم بيعها وشراؤها كالحيوانات. وهى لحظة رمزية حقيقية ستدفع السود لكى يحددوا من هم وشكل المستقبل الذى يبتغون صنعه خاصة اذا ما حقق تعزيزا لمجتمعات السود ، ما يساعد افرادها على التعرف على هويتهم العرقية عن طريق تتبع نسب العائلة الى العبودية وربطها بكفاحهم الناجح للانعتاق من الرق. ومع تعزيز وتقوية الهوية العرقية سيصبح الناس اكثر ادراكا لتقاليد وثقافة السود . ان اقرار جونتينث ثمرة للنهوض الكبير الذى جسد ارادة السود والملونين ومعهم الاطياف الحية فى المجتمع الامريكى والذين ملاوا شوارع عشرات المدن فى العام الماضى بهتفون بملء الحناجر ( لا عدالة .. لا سلام ) ، وقد ترافق ذلك المد الجماهيرى مع صعود حركة ( ارواح السود مهمة ) التى قادت بنجاح فائق الاحتجاجات الشعبية على نطاق واسع فى العام الماضى . ياتى الاعتراف بجونتينث فى وقت لا يزال الخلاف محتدما حول كيفية معالجة التشريعات التى اقرتها المجالس التشريعية لتقييد عملية التصويت . ويدور داخل المجتمع الامريكى حاليا نقاش حاد حول عدد من القضايا المرتبطة بالعرق ، من بينها مشروعات قوانيين فى مختلف الولايات من شانها تحديد ما يمكن وما لايمكن ان يدرسه الطلاب فيما يتعلق بدور العبودية فى تاريخ الولاياتالمتحدة والاثار المدمرة للعنصرية فيها ، وهى محاولات الهدف منها فيما يبدو هو عدم تدريس الوقائع الحقيقية للتاريخ ،. وتجاهل موضوع العنصرية الذى سيشجع حتما على الجهل المتعمد والترويج للتاريخ المزيف الذى سيؤدى بدوره لتعمية وتضليل الاجيال الحالية والمستقبلية . ان استيعاب السود وفهمهم لمكتسبات الماضي والاحتفال بها على اوسع نطاق امر حيوى و ضرورى للسير قدما فى طريق تحقيق المساواة العرقية الشاق . فى بلد فقد الامل فى سد فجوة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية التى تراكمت خلال عقود والتى نشأ من خلالها ونما عدم المساواة . ومن جانب اخر يخشى البعض ان تتحول جونتينث لعطلة تجارية تفقد تدريجيا اهميتها فى تاريخ وثقافة السود ، فيما يطالب قلة من الناس بالغاء احتفال الرابع من يوليو رغم علمهم بانه شىء غير عملى ، فى حين ان الاولى هو الاحتفال بالعيدين . وقد اقترح البعض ان يستمر الاحتفال بالاستقلال من 19 يونيو الى الرابع من يوليو . الاحتفال بالرابع من يوليو ضرورى لتسليط الضوء على ان السود لم يكونوا احرارا ما يجعل الاستقلال يكتسب معنى دقيقا ، ويوفر فرصة للاطراف كلها للاقتراب من بعضها البعض . ويتيح للامريكيين التعرف على انجازات السود والتفكير فى المظالم الممنهجة التى لا تزال تحدث لهم الى اليوم ، هذا على الرغم من القناعة المتزايدة بان جونتينس ليس بديلا عن الاصلاح السياسى . وان كان خطوة لضمان العدالة المتساوية !! كلما زاد الاهتمام بجونتينس كلما زاد سطوعه وزاد تاثيره . والاعتراف به كرمز للاستقلال على الصعيد الوطنى سيزيد من سطوعه وتاثيره كوسيلة للاعتراف بالقيمة الجوهرية للسود وتاريخهم لاثراء امريكا ، وان كان جونتينث رثاء للالام واحتفالا بالتغلب على الالام او استكمالا لحرية امريكا فسوف يواجه بالتحديات المستمرة كالصدامات العنصرية التى تحتاج لتقوية المجتمع وزيادة الوعى والامل والتفاؤل ونفاذ البصيرة . تستمد الناشطة المسنة لى قوتها من قوة المجتمع التى التى اعانتها ورفدت شرايين حركتها بالدماء الجديدة ودفعت بها الى الامام . لقد جمعوا لها مليونا ونصف توقيعا من اجل حث الكونغرس لاجازة جونتينس . نشات لى فى وقت قريب للفظائع العرقية مثل الصيف الاحمر 1919 ومذبحة تولسا 1921 ، وفى 1939 حرق متطرفون من دعاة تفوق العرق الابيض يبلغ عددهم 500 شخصا امنزل عائلتها فى تكساس وهى فى عمر 12 ولم تقبض عليهم ولمتقدمهم للمحاكمة لكن عندما ظهر والدها حاملا مسدسا هددته الشرطة بانهم سيسمحون للغوغاء بتسلمه فى حال خرق قبعة واحدة . مثل هذه المواجهة العنصرية الظالمة كانت مثالا صارخا لما سيصبح لاحقا شعار لى ( لا احد منا حر حتى نتحرر جميعا ) !! الهمت لى الشباب فاقام مساعدوها جدارية مساحتها 50 الف قدم مربع بعنوان المساواة المطلقة فى نفس الموقع الذى قرأ فيه الجنرال غوردون اعلان انهاء العبودية فى غالفستون .. وطافت المدن والولايات برفقة شباب يؤمنون بان الحركات الحقيقية للتغيير تمتد الى ماهو ابعد من شاشات الكومبيوتر وتصل الى قلوب الناس فى كل مكان. الاحتفال جونتينث فى العام القادم لن يكون مكتملا ما لم يتم اصدار تشريعات حيوية وجوهرية لحماية حق التصويت وخلق الشفافية والمساءلة فى العمل الشرطى . جونتينث تذكير بان معركة الحرية مستمرة !!! محمد يوسف وردى