كان نصيبهم في الحياة، مقبرة جماعية مجهولة، لم يتركهم رُصاص الفجيعة والغدر ، طاردهم حتى اللحظات الأخيرة قُبيل فجر عيد الأضحى في أبريل 1998م، كانت بنادق النظام البائد تستبق "فرحتهم" بالعيد مع أهلهم، وكانت غرف "الفاشيست" تُعد لهم في الظلام حفل شواء آخر، إنهم أكثر من 100 شاب من مجندي الخدمة الوطنية الإلزامية، قتلوا أثناء محاولة الهرب من معسكر للتدريب، على أمل حضور عيد الأضحى مع أهلهم. وقبل عام مضى، وبعد أن تفجرت الثورة السودانية التي جرفت نظام الإنقاذ إلى مثواه الأخير، قالت السلطات السودانية، إنها نبشت مقبرة جماعية دفن فيها عدد من ضحايا المجزرة، في إطار عملية تحقيق واسعة النطاق، تمهيدا لإجراء محاكمات قد تطال العشرات من رموز وقادة نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، حسب مواد قانونية تتعلق بالقتل العمد، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وهاهي عقارب الزمن تدور ، وبعد مرور نحو 23 عاماً ، أعلنت لجنة أحداث معسكر العيلفون عن دفن جثامين شهداء مجزرة العيلفون، السبت، بمقابر فاروق بالخرطوم. وقالت اللجنة في تعميمٍ صحفي، الخميس، إنّه من المقرّر أنّ يتحرّك موكب الدفن من أمام مشرحة بشائر بمنطقة مايو جنوبيالخرطوم في الرابعة عصرًا حتى مقابر فاروق. (1) أضواء على المجزرة.. نبش ركام العبث الجاثم على صدر الزمن لم يعد مخفياً على أهل السودان تفاصيل تلك الحادثة المأساوية التي أفزعت كل القلوب الرحيمة، ولم يعد مستوراً التعرف على فظائع النظام البائد الذي لا زال يتشدق مواليه ومنسوبيه بمزايا الفضيلة وقيم الدين، بل لا زالوا في غيهم القديم يتوعدون الثوار بالعودة إلى الحكم – مثلما تحكي عنهم صفحات الميديا ومنصات التواصل الاجتماعي، وتشهد عليهم عدد من المواكب التي سيروها باسم "الزحف الأخضر" خلال الفترة الماضية. لكن بالمقابل تعج صفحات "الانترنت" بتفاصيل تلك المجزرة البشعة التي إرتكبوها في معسكر العيلفون، وتقول عدد من هذه الصفحات المبذولة في الفضاء الإسفيري: كان معسكر العيلفون واحدا من أكثر من 10 معسكرات تجنيد رئيسية تنتشر في مختلف أنحاء السودان لتدريب الآلاف من الصبية بينهم من أكملوا لتوهم امتحانات الدخول إلى الجامعة وبعضهم يعمل في مهن هامشية، ليتم إلحاقهم بوحدات القتال في مناطق الحروب بالجنوب والنيل الأزرق. ولم يكن معظم أولئك المجندين يلتحقون بمعسكرات التدريب برغبتهم أو إرادتهم إنما كان يتم اصطيادهم من الطرقات في حملات منظمة تجوب شوارع الخرطوم والمدن الأخرى في وضح النهار، ويتم أخذهم عنوة للمعسكرات، وكان من الطبيعي أن يخرج الشاب أو الصبي في تلك الأيام لشراء خبز أو أغراض لأسرته ولا يعود، ولا تعرف أسرته عن مكانه إلا بعد أيام من البحث المضني. وعلى الرغم من قصص الإهانات المفرطة التي يرويها من وقعوا في قبضة معسكرات الخدمة الإلزامية في تلك الأيام، إلا أن ما حدث في معسكر العيلفون في ليلة الثاني من أبريل 1998 ظلّ جزءا من الذاكرة السودانية الحزينة، وهو ما دفع بعدد من الناشطين للمطالبة بوضع الملف في مقدمة أولويات العدالة في المرحلة الانتقالية. وتعود القصة الحزينة إلى الحادي والثلاثين من مارس 1998 أي قبل ثلاثة أيام من الحادثة، عندما طلب المجندون من قادة المعسكر إجازة للاحتفال مع أهاليهم بعيد الأضحى الذي كان يصادف اليوم التالي من الحادثة، لكن إدارة المعسكر رفضت طلبهم واتهمتهم بالتمرد على القوانين العسكرية، وحاول البعض النجاة قافزين إلى النهر القريب من سور المعسكر، فقضى الكثير منهم غرقا، وتمكنّ البعض من النجاة. وفي يونيو من العام الماضي، كان النائب العام السابق، تاج السر الحبر، أعلن عن اكتشاف مقبرة جماعية لعشرات المجندين قرب الخرطوم، تعود إلى عام 1998. وقال النائب العام وقتها في مؤتمر صحفي إن "لجنة تحقيق من عدة جهات" عثرت على المقبرة الجماعية، من دون أن يذكر عدد الجثث التي يتوقع وجودها فيها. واتهمت المعارضة السودانية بالخارج حينها النظام السوداني بتدبير ما سمته "مجزرة" ارتكبتها قيادة المعسكر ضد المجندين الشبان، الذين كانوا يريدون أخذ عطلة رسمية بمناسبة عيد الأضحى. وسجلت قيادة معسكر العيلفون آنذاك غياب 260 مجندا آخرين من أصل 2100 شاب يتدربون في المعسكر، بعد تجنيدهم للمشاركة في القتال ضد الجنوبيين، وفقما ذكرت وسائل إعلام سودانية. وقالت المعارضة السودانية إن الجنود رفضوا أوامر قيادة المعسكر فأمرت الحراس بفتح نيرانها في اتجاههم، مما أدى إلى مصرع العشرات منهم، وطالبت مجلس الأمن الدولي آنذاك ب"التحقيق في هذه المجزرة"، كما دعت منظمات حقوق الإنسان إلى التنديد بها. (2) الصحافة السودانية تطارد الأشباح.. روايات موثقة تقف مثل شاهد قبر !! في 30 يوليو من العام 2018 قدمت صحيفة "التغيير الإلكترونية" تحقيقاً مطولاً عن الحادثة المؤلمة، حيث استندت على روايات قدمها صحافيون وكُتاب مميزون، وقتها قالت الصحيفة، وفقاً لبكري الصايغ، الكاتب السوداني المقيم في ألمانيا، والذي يداوم الكتابة سنوياً في ذكرى أحداث المجزرة، فإن المعسكر اُقيم لتدريب الشباب المجندين قسراً بهدف تأهيلهم للقتال قبل إرسالهم إلى مناطق العمليات العسكرية في جنوب السودان وشرقه آنذاك. كان المجندون يتعرضون داخل هذا المعسكر وسواه، إلى "أسوأ أنواع القهر والإذلال"، وجرت العادة المتبعة في المعسكر أن يتعرض من يحاول الهرب إلى عقوبات شديدة، بحسب المصدر ذاته. ولم يُنقل المجندون المرضى إلى المستشفى، وكل من عاني من حالة مرضية تستوجب الرعاية الطبية، كان يُتهم بتدبير حيلة للهرب من المعسكر. وروى الصايغ روايته الموثقة، قبل قدوم عيد الأضحي المبارك في أبريل عام 1998، طلب المجندون من إدارة المعسكر السماح لهم بعطلة الثلاثة أيام خلال مناسبة عيد الأضحى، التي تعتبر عطلة رسمية في كل مرافق الدولة، بما في ذلك عطلة عند ضباط وجنود القوات النظامية. إلا أن إدارة المعسكر رفضت طلب المجندين، وهددتهم بإطلاق النار إذا حاولوا عصيان الأوامر بالبقاء في المعسكر خلال أيام العيد. بدأ الشباب المجندون في التجمع سرآ في طرف المعسكر المقابل للنيل في محاولة منهم للفرار. عندها، شعر الضابط المسؤول بمحاولات الهرب، فأصدر تعليماته بإطلاق الرصاص الحي. جمعت السلطات الأمنية سرآ الجثث من المعسكر، وتلك التي طفت على مياه النهر، ثم دفنتها في مقابر الصحافة وفاروق والبكري واُم بدة، تحت إشراف وزير الداخلية ومدير شرطة العاصمة بالإنابة وعدد من قيادات النظام. قُدر عدد الجثث التي دفنت بشكل جماعي 117 جثة، فيما سُلّمت 12 جثة إلى ذوي القتلى. أما فيصل محمد صالح الذي كان مديراً لتحرير صحيفة الخرطوم، ومقر صدورها القاهرة، والذي يشغل حالياً منصب المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء عبدالله حمدوك، روى ل"التغيير" قصة ناج من المعسكر إلتقى به: "نقلنا في جريدة الخرطوم حينها خبر المجزرة حسب التفاصيل المحدودة التي وصلتنا في القاهرة. كان مصدرنا روايات من الخرطوم وبيانات المعارضة التي أصدرتها متزامنة مع الحادثة. بعد أيام، زارني شخص في الجريدة وقال لي إن هناك ناجياً وصل القاهرة وحالته النفسية سيئة. وأحضر لي الشاب واسمه ابراهيم، وفعلاً كانت حالته النفسية سيئة ومضطربة، وكان يتكلم بصعوبة بالغة وبدأ في سرد قصته قائلاً إنه يعمل حلاق متجول ويعول أسرته المكونة من أخته وشقيقه العسكري الذي أُصيب بمرض نفسي أثناء حرب الجنوب ... وهو يدرس في مدارس كمبوني بالمساء. وجاءت كشة خدمة إلزامية. كان يعمل تحت ظل شجرة ببحري، ولم يقتنعوا ببطاقة كمبوني واقتادوه للمعسكر. المجموعة كلها لم يكن فيها طلاب مدارس، بل كانوا حلاقين وباعة متجولين وكماسرى وصبية ورنيش. وكان ابراهيم قرر مغادرة السودان قبل الحادثة والذهاب إلى مصر وفعلاً أخذ تأشيرة إليها، وأعطى قريبه ثمن التذكرة ليقطعها لكنه قبض عليه قبل استلامها. أخذوا حوالى أسبوعين في المعسكر وبدأوا تدريبهم على استخدام السلاح. وكان معهم مجند أخبره قريبه الذي يعمل بالمعسكر بأنهم سيرحلون للقتال في الجنوب بعد تدريبهم على السلاح. وانتشر الخبر في المعسكر وحصلت حالة رفض عام. ومنذ النهار، اتفق الجميع على الهرب مساء ذات اليوم. كما اتفقوا على قلع السلك الشائك. تفاجأ العساكر داخل المعسكر بالتصرف الذي لم يكن في حسبانهم. بمجرد أن بدأوا باقتلاع السلك، بدأ العساكر بضرب الرصاص هناك من اصيب بطلقة ووقع أرضاً، اقتلعوا السلك الشائك وأصيبوا اصابات متفاوتة. (3) الثورة السودانية تنتصر.. الثوار يعيدون ل"الشهداء" كرامتهم الانسانية وبعد مرور 23 عاماً على هذه المجزرة المأساوية ، وبعد أن تم الإعلان عن العثور على مقبرة جماعية لشهداء معسكر العيلفون بفضل المتغيرات التي أحدثتها ثورة ديسمبر المجيدة، هاهم الثوار يتأهبون لتشييع "رفات" شهداء معسكر العيلفون، عنواناً لوفاء واحتراماً لكرامة الإنسان التي أهدرتها السلطة البائدة عمداً ودون حياء. إن عودة شهداء العيلفون إلى مرقدهم الأخير عبر مواكب الثوار وصفها ناشطون بأنها تعني انتصار للقيم التي فجرتها ثورة ديسمبر المجيدة، وتعني انتصار للعدالة مهما شابها من قصور خلال الفترة الانتقالية. واستدل عدد من النشطاء على منصات التواصل الاجتماعي بأن تشييع شهداء معكسر العيلفون بعد كل هذه السنوات الطويلة سيفتح الجرح الغائر ، لكنه في ذات الأثناء سيعيد لذوي الضحايا الأمل ويفتح نوافذ للضوء في صدورهم التي غرقت في ظلام الفاجعة لعشرات السنين دون مواساة ودون أمل في العدالة.