في لقاء خاص جمعني بسيدة دمشقية محافظة، خطر في بالي أن أسألها إن كانت إحدى الممثلات الشهيرات التي تحمل اسم العائلة ذاته على صلة قرابة معها. أجابت باقتضاب وقد اكتسى صوتها بعض الحزن المفاجئ بأنها قريبتها. ويبدو أنها شعرت بارتباكها، فتداركت الأمر وأردفت موضحة أنها كانت مقدمة على الزواج قبل سنتين من شاب ينتمي لأسرة ثرية محافظة، وحين تقدم أهله لخطبتها واكتشفوا أن هذه الممثلة هي ابنة عمها، تراجعوا ومنعوا إتمام هذا الزواج تحسباً ل"شبهة" ما قد تصيب سمعتهم في المستقبل. لا تحقد السيدة على قريبتها، ولا تحمّلها وزر ما حدث، بل على العكس أشادت بموهبتها ونجوميتها وأخلاقها واحترام عائلتها لها، لكنها لم تخف أسفها الشديد بسبب ما حدث في زمن مازالت فيه فئة واسعة من المجتمع تمارس تناقضاً صارخاً، ترحب بالدراما من جهة وتنتظر مواسمها بشوق، شرط أن يكون هذا الترحيب عن بعد وعلى "ألا يتورط أحد الأبناء أو المقربون بشكل مباشر بها" كما أضافت. هذه الحقيقة المؤسفة ليست طارئة أو مفاجئة، بل رافقت مسيرة فنون التمثيل العربية منذ بداياتها قبل قرن من الزمن تقريباً، إذ حورب فن التشخيص بكافة الوسائل القمعية ونظر إليه اجتماعياً ودينياً على أنه "رجس من أعمال الشيطان"، دفع بعض الرواد لأجله أثماناً باهظة من التكفير والنبذ الاجتماعي، واضطرهم أحياناً إلى الهجرة وابتكار بعض الحيل مثل تنكر الرجال بزي النساء في أعمالهم. ورغم ما بدا لاحقاً أنه تقدم في مسيرة الفنون، إلا أنه بقي تقدماً سطحياً واستمرت في العمق النظرة الاجتماعية الأخلاقية غير المريحة لأصحاب الفن، ومازالت العديد من الأسر المحافظة في المدن الكبرى تعارض أو تمنع أبناءها وبناتها بشدة من الانخراط في هذا المجال، الذي ساهم في إنجاحه بشكل عام أولئك الوافدون من الأرياف وبعض البلدات، وهم النسبة الأكبر حتى اليوم. أستحضر هذه الحادثة في سياق الصخب المستمر المتعلق في تحليل أو تحريم الفنون، والذي يعود إلى واجهة الجدل كل حين، وآخر ارهاصاته قضية الفنانة المصرية حلا شيحا. حيث يبدو أن ما يحدث لا يتعلق مباشرة بفنانة تعترض على مشاهد سبق أن وافقت على تصويرها وعرضها، ولا برحلتها المتأرجحة بين الحجاب أو السفور. بل يرتبط ارتباطاً وثيقاً كمشكلة عميقة بالترهيب الديني الاجتماعي العام الذي يدفع ببعض الفنانات والفنانين إما إلى تصريحات وتناقضات ومغالطات وذبذبات كما فعلت الفنانة شيحا، أو يقود بعضهن/م إلى الاعتزال والتحجب والتدين الشديد والتحول إلى دعاة في بعض الأحيان، مع التنكر المستمر والتبرؤ الحثيث من ماضيهم الفني، واعتباره وصمة عار وسيل من الخطايا القديمة، التي سيقضون ما تبقى من أعمارهم في محاولة التكفير عنها. ترهيب ديني اجتماعي راسخ مستمر في استخدام كافة أدوات العصر الحديثة وأذرعه العنفية الطويلة، لا يمكن التغافل عن الازدياد الملفت والمقلق لتنامي نشاطه، والمسؤول المباشر عن كل ما يحدث باستمرار تغوله وهيمنته مثل "بعبع" أو ظل ثقيل فوق رؤوس الجميع، ملوحاً بساطوره التحريمي على المجتمعات كما يشاء، ومترصداً كل الجماليات ومحاولات التحرر من نيره، مخيفاً أصحاب الفنون من مهنهم ومشوهاً لجوهرها، يأتيهم مثل كابوس يؤرق نومهم ويعكر استقرارهم، ليقرّعهم قبل أن يهددهم بالتوجه نحو التوبة وطلب المغفرة . من المؤسف حقاً أننا مازلنا نتحدث في مثل هذه البديهيات لتفسير المفسَّر وشرح الثوابت، حيث لا يقينُ سائدُ حتى اليوم في العديد من المجتمعات العربية بشكل خاص حول أهمية دور الفنون في حياة البشرية، وينسحب الأمر على بعض أصحاب فن التمثيل بذاتهم بسبب زعزعة ثقتهم بهذا اليقين المتعلق في جوهر الفن ومعناه، وأهميته في نشر الوعي المجتمعي والقيم السامية التي تساهم في البناء ونهضة الأمم، وليس العكس. الفنانة الراقية التي عطلّت عن دون قصد زواج قريبتها، وحلا شيحا، وما قبلها، وكل ما سيحدث لاحقاً للعشرات من الفنانات، هن ضحايا العنف المجتمعي والترهيب المزدوج الذي يمارس على المرأة بشكل عام، وعلى مهنة الفن بشكل خاص. وإذ يتحمل بعض الفنانين والفنانات جزءاً من المسؤولية بسبب عدم رسوخ قناعاتهم وترددهم النفسي وذبذباتهم إزاء مفهوم الفن، وترك ثغرات مشوشة في لاوعيهم اتجاهه، يقع الجزء الأكبر من هذه المسؤولية على دعاة التجهيل والترهيب والظلامية التي تتطاول عليهم وعلى مفهوم الفنون اليوم، وتزداد سطوتها مثل أي سلطة شمولية، مع تراجع مؤسف وملفت من المعنيين بالأمر سببهما الرئيسان الخوف والتردد. في بدايات القرن العشرين الماضي، درجت أغنية من ألحان وغناء سيد درويش انتشرت عربياً وكانت تُردد في جلسات الطرب الشعبي الحلبي. تقول: "حرّج عليّ بابا ما روحش السينما، وأقابلك فين؟"، ورغم أن الأغنية بريئة وواضحة المعنى، إلا أن التفسيرات طالتها بما قد تعنيه هذه الكلمات ظاهرياً من احتمالية لشبهات أخلاقية قد تحدث داخل صالات السينما، أو ما قد يحمله الفيلم من أفكار أو خلاعة تتسبب في فسق أخلاق الأجيال، وهو تفسير بني عليه وألقي بحمله على الممثلين من أصحاب فن التشخيص "الخطائين"، لينتج ذلك تراجعاً في السينما، والمسرح، والدور اليوم على الدراما.