* مدينتنا تلك؛ المليئة بقشر البطيخ والتسالي وبقايا قصب السكر والحيوانات النافقة؛ هي مدينة ولودة.. أنجب رحمها عباقرة حقيقيين وأهل ورع؛ بجانب مجرمين (مكتملي الصفات) ظل وجود الله في حياتهم مجرد اسم متداول..! من بين سكان الحي كانت "زوزو" جارتي الفاضلة؛ لا أعرف اسمها الحقيقي طوال شهور قضيتها بجوارها.. فقد صارت العلاقة مع هذه المرأة ذات السبعين عاماً تتجاوز أطر الأسماء إلى شيء أعمق بكثير؛ شعور ينسيك التفاصيل الميتة ويدخلك إلى حيث جمال الروح النقية التي تؤمن أن الجيران لبعضها؛ أو بعبارة أخرى (الدين المعاملة) ولو شئت أن تعدد كافة المآثر الطيبة في الأحاديث والتراث البشري؛ لوجدت أن "زوزو" هذه إنسانة لا علاقة لها بلقبها الموحي (بأشياء) عكس صفاتها الكريمة..! * في الجهة المقابلة سور منخفض، مبعثر فوق سنامه الطوب الأحمر والبقايا؛ يعج فناؤه بالبنات والأولاد الذين يتشاجرون طوال النهار.. هم أسرة واحدة كما عرفت وأقارب تكدسوا داخل منزل ورِثة كبير.. لطالما اشتكت "زوزو" منهم ورفعت أياديها إلى السماء؛ لعل الأقدار تكرمها بمغادرة هذا المكان لتجاور أناساً تشعر معهم بوجود مغاير تشتهيه..! كانت تتشجع بي وكنت أتشجع بها في مقاومة الطقس الكئيب القادم من البيت المقابل..! ولم يكن غريباً أن تنبت الجذور (الوسخة) لذلك البيت كل تلك القمامة التي يلقونها قريباً من بابنا ب(افتضاح) يصدم وجه الصباح؛ وينعكس على جبين زوزو الذي يتقطّب فيكاد يسقط.. حتى متعلقات البنات الشخصية القديمة تصفع وجهك بلا هوادة..! * ذات نهار خرجت جارتي الطيبة من طورها وطردت مجموعة شباب عرب من دولة جارة؛ كانوا قد استأجروا جزءاً من منزلها؛ عقب هجرة ولديها إلى أمريكا.. والسبب أن هؤلاء العرب حوّلوا بيتها إلى (مهرجان مسامير) على امتداد الحيطان.. بين كل مسمار والآخر بضعة سنتمترات؛ ينشرون عليها ملابسهم القذرة.. تفاجأت جارتي الطيبة في آخر زيارة للفوضويين العرب بتغيّر رائحة المنزل.. ووجود الأوساخ والملابس القذرة في جميع الأركان.. فضلاً عن تعطّن الحوش بالمياه الآسنة؛ معلومة المصدر..! * بين كرهها لجيرانها المزعجين ذوي الشبهات؛ والمستأجرين ثقيلي الدم؛ مضت حياة جارتي التي كانت تناولني الطبيخ من فوق الحائط..! حياة تفتقد للسكينة.. أما (أنا) فبخلاف هذه المرأة السبعينية و(سِيد البقالة) لم أعرف أحداً في ذلك الركن من المدينة.. كنت أقول لجارتي حكمة قديمة كلما التقيتها في الشارع أو جالستها أيام الجمع لشرب القهوة بصحبة بعض زوارها من الأهل.. تضحك وتستذكر: (عليك الله يا ولدي ذكِّرني حكمة الفراعنة).. فأذكّرها بقول بعضهم: (لا تثرثر مع جيرانك فالناس يحترمون الصامت).. حينئذ ينبسط محياها وتنطق بكلمتين: (أي والله).. ثم تضيف: (أوعاك ترد عليهم السلام!) كانت تقصد جيراننا ذوي الحائط الذي يعلو سنامه الطوب المبعثر؛ وبقايا المِزق النتنة..! * في لجة مساء ممطر طرق العساكر بابي بالخطأ؛ يسألون عن منزل "واحدة" حملت سفاحاً..! فاعتذروا حينما أشرت إلى المنزل المقابل.. وقلت في سري: (أي شذوذ في هذا البيت) رضينا بالشِجار و(الكوارِيك) التي تشق عنان السماء يومياً؛ فلم يتركنا سِفاحهم..! * حين عدت من السفر مرة؛ تفاجأت بأن المنزل المقابل صامت (صمت التوابيت) سألت جارتي متعجباً؛ فردت بأن أفراد الأسرة جميعهم ذهبوا لزيارة ابنهم في السجن الكبير؛ فهو يقضي عقوبة (مخدرات)..! * لما غابت الشمس كان الصراخ يعلو؛ فلم أهتم.. قرأت آية الكرسي، ونمت سريعاً جراء التعب. * حين صحوت فجراً؛ انتظرت حتى أشرقت الشمس.. قابلت صاحب البقالة؛ تبدو عليه (صرّة وجه) وهو يلعن الجيران..! أخبرني أن البنت الصغرى عادت خلسة أمس قبل حضور (الكتيبة الأسرية) من السجن؛ ومعها الداية (أم الخير) والحمد لله (وِلدت)..! قلت في سري (الله يلعن أولاد الحرام)..! * من فوق الحائط الذي كان يعلوه (صحن القراصة) كانت جارتي الطيبة تودعني؛ بينما كنت أحزم أغراضي.. وتوصيني: (أوعاك تسكن قريب من بيت رقاص)..! * شدت العبارة انتباهي.. و.. أخبَرتني: (الله يرحمه.. كان أبوهم رقاصاً مشهوراً؛ يضرب على "الدلُّوكة" و.."خمُرجِي" ماجِن.. وكان جدهم كذلك.. أورثوا العائلة الخيانة والخيابة.. وحب الفتن.. والإزعاج... كل من يجاورهم يرحل سريعاً)..! * حملت حقيبتي؛ بعد أن ودّعتها.. وظلّت العبارة طوال المسافة دائرة في خاطري: (ابن الرقاص.. ابن الرقاص.. ابن ال…)..! أعوذ بالله المواكب