منذ سقوط نظام الثلاثين من يونيو 1989، انكشف صراعٌ مكتومٌ بين مجموعات صحفية حول تكوين نقابة الصحفيين، ولازمت ذلك انقسامات متلاحقة، ألقت بظلالها على وضع الصحفيين المأزوم بالأساس. وفي الوقت الذي يصر فيه اتحاد الصحفيين المحلول على اختطاف اسم الصحفيين إقليمياً، ومع تأخر قانون النقابات الذي لم تبن ملامحه إلا مؤخراً بعد عرضه للنقاش في مجلس الوزراء، توالت الانقسامات ومن ثم المبادرات في الوسط الصحفي، وآخرها مبادرة توحيد الوسط الصحفي برعاية الأستاذ فيصل الباقر، في السابع عشر من الشهر الجاري، والتي بشّرت بانبلاج "فجر جديد بالوصول للنهاية المنطقية لنضالات الصحفيين والصحفيات السودانيين في سبيل حقوقهم"، دون تفاصيل، وعلى الرغم من عدم مشاركة أحد الفصائل الصحفية "منصة التأسيس"، ووعدت المبادرة بإعلامها بما تم التوصل إليه بعد مشاركة أعضاء المنصة في الاجتماع الثاني المقرر عقده بعد عطلة عيد الأضحى المبارك! وظل الصحفيون طوال فترة النظام المباد بين مطرقة وسندان: ضعف الأجور وضياع الحقوق من جهة، ثم القيد الأمني الذي كانت تفرضه سلطات الإنقاذ وزبانيتها على الحريات الصحفية من جهة أخرى. في العام 2008 أنشئت شبكة الصحفيين السودانيين بوصفها كياناً نقابياً موازياً للاتحاد العام للصحفيين السودانيين، بمبادرة من عدد من الصحفيين للدفاع عن الحريات الصحفية. وكما يذكر تعريفها – على ويكيبيديا – فإن الشبكة تعتبر أول جسم نقابي صحفي أعلن مناهضته ومحاربته لحكومة البشير، وهي جماعة غير مسجلة رسمياً، وتعتمد في تمويلها على اشتراكات عضويتها. وبعد ظهور تجمع المهنيين في المشهد السياسي مع اندلاع ثورة ديسمبر في 2018 كانت الشبكة جزءاً فاعلاً في التجمع والحراك الثوري، كجسم ممثل للصحفيين. إلا أن الشبكة ظلت تُواجه بما يصفه الصحفي ياسر جبارة – أحد أعضاء منصة التأسيس ولجنة استعادة النقابة سابقاً – باعتمادها على الشللية والأجندة السياسية لا المهنية وممارسة التمييز في فرص التدريب – بحسب قوله. ونتيجة لذلك – يقول جبارة ل(مداميك) – انبرت جماعة من الصحفيين لتأسيس للعمل النقابي الصحفي بعد السقوط، وتكونت إثر ذلك الجمعية العمومية لاستعادة نقابة الصحفيين التي انعقدت بصحيفة المشاهد في الرابع من مايو 2019 والاعتصام على أشده في القيادة. ياسر جبارة أكدت شبكة الصحفيين السودانيين، في بيان حينها، أنها لا علاقة لها بتلك الدعوة، وتأكيداً لرفضها للخطوة قالت إن الخطوات نحو نقابة الصحفيين السودانيين تمضي بالتنسيق مع تجمع المهنيين السودانيين. تسارعت عجلة الانقسامات الصحفية، وتكونت في مقابل لجنة استعادة النقابة، اللجنة التمهيدية لنقابة الصحفيين بمركز الأيام بمشاركة شبكة الصحفيين السودانيية والنقابة الشرعية 1989، وكيان الصحفيات، وجهر، وشبكة الإعلاميات، ومن ثم خرج جزء من تلك الأجسام من اللجنة في دلالة ساخرة على روح الانقسام المرير. ومع تسارع الانقسامات تسارعت المبادرات من هنا وهناك، لوحدة الوسط الصحفي من أجل تكوين النقابة، وكان أولها مبادرة الأستاذ محجوب محمد صالح، العام الماضي، بين اللجنتين (التمهيدية واستعادة النقابة) التي انخرطت في العديد من اللقاءات والاجتماعات لفترة تقارب السبعة أشهر وبلورت نقاشاتها حول المعايير الخاصة بتأسيس لجنة تمهيدية لنقابة الصحفيين السودانيين متوافق عليها، وتكللت جهودها بالتوافق على قائمة اللجنة التمهيدية لنقابة الصحفيين السودانيين مكونة من 23 عضواً و6 أعضاء احتياطيين. الأستاذ محجوب محمد صالح لكن سرعان ما انقسمت لجنة استعادة النقابة على نفسها أيضاً، لينشأ نتيجة لهذا الانقسام جسم بمسمى "منصة التأسيس" ليضاف إلى قائمة المجموعات الصحفية. شعبان: ثلاثة أسباب للانقسام يلخص الصحفي عمرو شعبان – من اللجنة التمهيدية لنقابة الصحفيين – في حديثه ل(مداميك) أسباب الصراع في الوسط الصحفي في ثلاثة: أولها ضلوع فلول النظام المباد ومخابرات أجنبية في ضعضعة الوسط الصحفي؛ وثانيها تقديم الأجندة السياسية على الأجندة النقابية والمهنية من قبل الصحفيين المنسوبين لأحزاب سلطة ما بعد الثورة، محدداً إياها (التجمع الاتحادي، المؤتمر السوداني، البعث، الأمة)؛ وثالثها الاختلاف الحاد بين رؤيتين للنقابة: إحداهما – وهي رؤية اللجنة التسييرية لاستعادة النقابة بحسب شعبان – تقبل بدخول صحفيين محسوبين على النظام المباد في العمل النقابي؛ والأخرى تتسق مع الوثيقة الدستورية – بحسب وجهة نظره – وتمنع دخول صحفيي النظام المباد إلى ساحة العمل النقابي باعتبار أن حزب المؤتمر الوطني محلول. وأضاف شعبان: "نحن في اللجنة التمهيدية، نمتثل لشعار الثورة الذي أنتجه الشارع في ديسمبر: الثورة نقابة ولجنة حي". عمرو شعبان المثير في الأمر، تشابه بعض الأسباب من وجهة نظر جميع الأطراف، إذ يقول الصحفي ياسر جبارة – من منصة التأسيس المنقسمة من استعادة النقابة – إن أجندة سياسية وحزبية وشخصية هي التي أسهمت في تفكيك الوسط الصحفي، ويضيف: "الأحزاب المهترئة التي تجلس على السلطة الآن تستغل سيطرتها على لجنة التفكيك، فأوراق كل الكيانات الصحفية موضوعة على منصة مجلس السيادة ممثلاً في عضوه محمد الفكي سليمان، كما أن الشبكة أيضاً أقرب لأن تكون واجهة حزبية". جبارة: مبادرة الباقر (خم) ووصف جبارة المبادرة الأخيرة بأنها جاءت ناقصة مثل سابقاتها، واعتمدت طريقة (الخم) وتوفر فيها سوء القصد – بحسب تعبيره؛ وأضاف: "ما معنى أن ينبلج فجر النقابة دون حل الإشكال الأساسي، بل حتى مع غياب أحد الأطراف؟". وأضاف أن مبادرة الأستاذ محجوب كانت سبباً في تشتت الوسط الصحفي بدلاً عن توحيده؛ لكنه أشاد بإحدى المبادرات التي أطلقها الصحفيان سلوى غالب ومحمد عبد العزيز لكنها لم تكلل بالنجاح بسبب الخلاف حول نقطة واحدة. ووصف جبارة "اللجنة التمهيدية بأنها مكونة من أربعين عضواً بجميع أجسامها متوزعين على مجموعات لا تمثل جميع الصحفيين"، وأضاف: "بعكس منصة التأسيس التي تتأسست على 16 جمعية قاعدية تضم العاملين بسونا والإذاعة والتلفزيون، وبها 650 عضواً"، ووصفها بأنها تشمل أكثر من 90% من الوسط الصحفي. ولفت الصحفي محمد الفاتح نيالا – من شبكة الصحفيين – في حديثه ل(مداميك) إلى أن أصل الصراع بين المكونات الصحفية، يرجع إلى ما قبل السادس من أبريل عندما أحس نفر من الصحفيين ببلوغ الثورة مرحلة إسقاط نظام الإنقاذ فبدأوا يطالبون بتغيير تمثيل سكرتارية الشبكة في تجمع المهنيين. محمد الفاتح نيالا ولا يرى نيالا الصراع معزولاً عن الواقع السياسي المحتدم بالبلاد عامة، ويضيف نيالا: "بالطبع ليس كل الصحفيين مسيسون، لكن الفاعلين فيهم هم أصحاب الاتجاهات السياسية، وميدان النقابة فسيح ويسع كل الاتجاهات والفاعلين والمهنيين غير المحزبين"، ودعا الوسط الصحفي إلى بناء الثقة بين الكيانات الصحفية، طالما كان الهدف واحداً وهو تكوين نقابة مهنية تحمي الحقوق الاقتصادية والمهنية والاجتماعية للصحفيين. ويرى نيالا أن الحل هو وضع الأجندة السياسية والشخصية جانباً والاتفاق على لجنة تحضيرية تقوم بعمل الجمعية العمومية لممارسة العملية الديمقراطية. مداميك