يواجه اليسار في السودان أزمة شاملة تهدد دوره في الحياة السياسية السودانية رغم أننا عولنا كثيراً على دوره في ميلاد ديمقراطية مستدامة –سياسية واجتماعية. وهي أزمة متعددة الأوجه: فكرية وتنظيمية، ويرجع ذلك إلى ظروف النشأة والتطور. ما هو اليسار السوداني؟ المصطلح رغم أنه جاء إلينا من الفكر والتاريخ الغربيين إلا أنه ذو دلالة ومضمون مختلف تماماً. فاليسار ارتبط بشكل الجلوس في الجمعية الوطنية الفرنسية بعد الثورة 1789م فقد تصادف وجود المحافظين على يمين القاعة. أما في السياق السوداني والعالمثالثي عموماً فقد ارتبطت التسمية بالتحديث والحداثة. ويمكن القول بأن المفهوم ارتبط بوصف القوى الحديثة مقابل القوى التقليدية. وقيام أحزاب اليسار على أسس مختلفة عن الأحزاب التقليدية التي ترتكز على قواعد طائفية دينية وقبلية وعلى رأسها زعيم روحي وتعتمد على الولاء الشخصي فلا تحتاج إلى برنامج أو آيديولوجيا. ومن الناحية الأخرى، اليسار يشمل أي قوى سياسية تهتم بالقضية الاجتماعية، أي التنمية والاشتراكية أو العدالة وتخاطب الفئات الاجتماعية المستضعفة مثل المرأة والشباب وفقراء الريف والمهمشين عموماً. ولليسار طابع علماني يكمن في الدعوة لدولة مدنية قائمة على حقوق المواطنة، وليس على الدين أو العقيدة أو العرق. ويفترض أن يتأسس الحزب اليساري على بنية فكرية متماسكة ومتطورة ولكن (مهدي عامل) يرى أن أحزاب اليسار العربي لم يصل فكرها حد النظرية لذلك لم يتجاوز فكره حد الآيديولوجيات الأخلاقية إلا قليلاً، ويقول بأن التأويلات الماركسية المسيطرة في العالم العربي تنوس بين حدين، الأول يأخذ النزعة الاقتصادية، ويرى في التاريخ تقدماً مطلقاً لا مكان للإنسان فيه لأن الاقتصاد هو بداية العلاقات ونهايتها. أما الحد الثاني يأخذ اسم النزعة الإرادوية، فيجعل من إرادة الإنسان محركاً للتاريخ. وهنا يلغي الموقف الأول التاريخ إذ يحوله إلى زمن مجرد ينساب هادئاً إلى مصبه الأخير –الشيوعية. ويبدو التاريخ في النزعة الاقتصادية نهراً يجتاز كل الحدود ينبع من المشاعية البدائية ويعبر أنماط الإنتاج العبودية والاقطاعية والرأسمالية والاشتراكية قبل أن ينتهي إلى نمط الإنتاج الشيوعي. قدرية جديدة يبدو الإنسان فيها خارج التاريخ لا في داخله. ويختم بالقول إن أشكال الماركسية في العالم العربي لم تمثلالماركسية الحقيقية رغم التضحيات النبيلة والمواقف الشجاعة والمعاناة الخارقة فهي ليست أكثر من امتداد معاق لفلسفة عصر التنوير البورجوازية في شكلها الغربي والأوروبي، أي فلسفة تنويرية تدافع عن حرية الإنسان وكرامته وحقه في العيش الكريم. فلسفة أخلاقية تحريضية لم تستطع أن تنتج برنامجها النظري السياسي الصحيح. (ندوة النظرية والممارسة في فكر مهدي عامل، بيروت دار الفارابي 1989م، ص77 – 78). يستهدف هذا التحليل الحزب الشيوعي السوداني باعتباره أكبر وأقدم فصائل اليسار ولكن ينسحب على اليسار القومي وغير الماركسي، باعتبار أن أزمة اليسار السوداني – الشيوعي القومي، الإسلامي (بابكر كرار، محمود محمد طه) جوهرها ضعف الفكر والنظرية في تكوينه، فهي كيانات تابعة لم تتميز بالإبداع والابتكار. تستمد فصائل اليسار فكرها من الخارج الاتحاد السوفيتي "العظيم" عالمياً وإقليمياً من منطقة الشام ومصر أو من أب روحي مثل الأحزاب الطائفية تعيد إنتاج أفكاره دون نقد أو تجديد كما يفعل الإخوة الجمهوريون. يخشى الشيوعيون والبعثيون والناصريون طرح الأسئلة الجديدة والنقد الذاتي. لم أصادف حرفاً واحداً كتبه يساري سوداني عن أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي ولا عن سقوط صدام حسين ولا عن هزيمة 5 يونيو 1967. الخلل الثاني في أزمة اليسار السوداني العجز عن خلق بنية تنظيمية جديدة. فاليسار لم يتجاوز المركزية الديمقراطية، وكانت النتيجة اختزال الحزب في شخص الأمين العام وخضوع التنظيم لشلة أو مجموعة محدودة تسيطر على مصادر القوة: المالية والعلاقات الخارجية (البعثات مثلاً). المطلوب تنظيمياً انفتاح الحزب على الجماهير والتوسع في الأقسام الحزبية قطاعياً وجغرافياً معاً. إتاحة حق الاختلاف والاجتهاد والحوار، وهكذا نتجنب الانقسامات والتشرذم السريع، والأهم من ذلك تجديد شباب القيادة بصورة مستمرة. وأخيراً ضرورة بناء القوة من أسفل من خلال الانتشار في المجتمع المدني الحضري ولكن الانطلاق إلى الريف تجنباً لتحول الحزب إلى تنظيم نخبوي شللي ينحصر في الخرطوم (2) أو حتى في عطبرة. الديمقراطي