عبدالمنعم عثمان انتهينا في مقالنا السابق إلى أننا بهذا لا نعبر عن زهد في العلاقات مع الخارج بشكل عام ولا مع أمريكا بشكل خاص، وذلك لأنه أمر يستحيل في ظروف التواصل الذي لا مفر منه في عالم اليوم. وأكثر من ذلك فأننا نعبر عن امتناننا لما تقوم به أمريكا على وجه الخصوص من دعم للاتجاه نحو الديموقراطية وكذلك تأييد ضرورة تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية محليًا ودوليًا على جماعات الإنقاذ كشرط لازم لتطبيق الديموقراطية وفى غل يد العسكر عن الانقلاب. غير أن ذلك لا يعني بالطبع وبالضرورة فتح الباب على مصراعيه لتدخلها أو غيرها في الشأن الداخلي لبلادنا، مثلما نراه يحدث اليوم من فرض لقرارات، قالت السلطة التي أقرتها ونفذتها، أنها لا تملك الحق في ذلك كسلطة انتقالية غير منتخبة. وهنا لا بد أيضًا من التذكير بما فعلته وتفعله أمريكا في القارة الجارة، أمريكا الجنوبية من تدخلات فظة، بل وما آلت إليه شئون العراق بعد الغزو العسكري وحكم البلاد لمدة ثلاث سنوات وتركها بعد أن وضعت بناءً كاملًا لمن يقوم بالدور نيابة عنها! لذلك رأينا أن نساهم بهذه المقالات، التي تتخذ من آراء اقتصاديين من صلب النظام الأمريكي والرأسمالي، تتخذ منها الدليل على أن أمريكا لم تعد سلة مهترئة فحسب، وإنما في سبيلها للانهيار. لذلك لم تعد ذلك العملاق المخيف، الذي يستطيع فرض ما يريد على من يريد. بل لا بد من الاستفادة من هذا الوضع فيها وفى غيرها من الذين يتهافتون نحو السودان من منافسين، لفرض شروطنا للتعاون! طبعًا سيقول بعض أصحاب المصلحة في استمرار مسرحية ماما أمريكا، التي تقدم ما تقدم من أجل عيون الثورة الظافرة… الخ وماذا يضيرنا إن قبلنا الإعانة والتأييد منها ومن غيرها؟ وبالطبع فأن هؤلاء سيكونون قد نسوا الأسطر السابقة من المقال! شهادة شهود من أهلها: الأقوال التالية التي نستدل بها على ما ذهبنا إليه من أحوال أمريكا بما يجعلنا نحذر من وضع كل البيض في سلتها، ومع ذلك فأننا ننصح بالتعامل معها من موقع الندية على الأقل، بل ونصر على أننا في وضع من يستطيع فرض شروط ذلك التعامل! هذه الأقوال قال بها أحد أنبغ المستشارين الاقتصاديين والماليين للإدارة الأمريكية، وهو مؤلف لأربعة كتب في مجال تخصصه، نالت أفضل المبيعات. فماذا قال؟ يقول: بحسب ال – KEYNESIAN MULTIPLIER- الذي قال به كينز، ويعتبر مقياس لإمكانية الاستمرار في الاستدانة دون الوصول إلى مرحلة سماها شاهدنا -A DEBT DEATH SPIRAL – وشرحها على النحو التالي: في هذه المرحلة يكون الدين الداخلي للبلد قد فات حاجز ال 90% من الناتج الإجمالي الكلى. فحتى هذا الحاجز يكون عائد الدولار المستثمر في حدود 1.25، وعندما يفوت هذا الحاجز قد يكون العائد في حدود 90 سنتًا أو أقل!. ويقول أن أمريكا فاقت هذا الحد من زمن، حيث تبلغ هذه النسبة حاليًا 125% وستواصل الزحف مع ازدياد طباعة الورقة الخضراء)! ويصل إلى النتيجة المذهلة التالية (معنى هذا أننا نستلف 25% أكثر مما نكسب كبلد) واكمالًا للذهول يأتينا بحقيقة (إن من يرافق أمريكا في هذه الحالة هي بلدان مثل اليونان وإيطاليا واليابان ولبنان)!! ويواصل الشاهد من أهلها القول بأن لا أحد من المسئولين يهتم، ولكن دائنونا يهتمون، إذ لا أحد سيشترى سندات الخزانة المقومة بالدولار، وعندها ستصل أمريكا ا إلى نقطة Credit" Revulsion Point" نقطة رفض التمويل من الآخرين، لأنهم بالطبع لن يشتروا دولارا يعود عليهم بالخسارة من أجل عيون أمريكا وهم في واقع الأمر منافسون لها من عينة الصين واليابان وروسيا. ثم ينتهى إلى التهكم: (بأنه مع ذلك فأن لدينا أكبر عملة احتياط دولية وندير أكبر اقتصاد دائن)؟! لمزيد من توضيح رأي الشاهد، نأتي بأقواله الدامغة بلغته، حيث قال: Our creditors wont want our debt and our dollar wont be welcomed anywhere. ويعتبر الشاهد هذا الوضع، أي رفض الشراء للدين الأمريكي، يعتبره القنبلة الأولى القابلة للانفجار في أي وقت – First ticking bomb. وفى شرح أكثر للأمر، يقول شاهدنا: إن هذه الموجة من التمويل من خلال طباعة النقود، قد بدأت منذ عهد كارتر، الذي لجأ إلى الطباعة لحل مشكلة التضخم وصفوف الوقود. وحاولت الخزانة وقتها بيع الدين الناتج عن طريق سندات الخزانة المقومة بالدولار "الضعيف"، ولكن لا أحد كان يريد الشراء. لذلك لجأت الخزانة لتقويم سنداتها بالفرنك السويسري! ذلك لأنه في وقتها كانت الحالة قد وصلت إلى ما أوضحنا في الفقرة أعلاه: أي نقطة رفض التمويل من الآخرين – CRP – وهى النقطة التي يرفض فيها دائنوك تسليفك مليمًا أخرى. وهنا يتساءل شاهدنا: لماذا يظن بايدن أنه، من خلال خطته الانقاذية Rescue Plan" "بمزيد من الطباعة وبيع الديون، يستطيع انقاذ أمريكا، وقد فشلت في وضع أقل خطورة؟! العرض أعلاه يلخص باختصار القنبلتين الموقوتتين في وضع الاقتصاد الأمريكي. واحدة منهما، وهي الطباعة بدون توقف للدولار لحل المشكلة الاقتصادية في كل زمان وفي عهود كل الرؤساء السابقين وفي العهد الحالي، الذي تعتمد فيه خطة بايدن على نفس الحل من الطباعة وبيع الديون. والثانية، التي هي ناتج القنبلة الأولى، وهي أن تراكم الديون قد أدى إلى الوصول إلى نقطة عدم رغبة الدائنين في شراء الدين الأمريكي، مثلما حدث من قبل في وضع أقل خطورة. أما القنبلة الثالثة، والتي اعتبرها أم القنابل، وهي وضع الدولار عالميًا ذلك لأنه هو الذي من بعد التخلي عن التقويم بالذهب، قد مكن أمريكا من العيش على ظهر الآخرين. ويشير شاهدنا إلى هذه القنبلة بما يسميه "التغيير العالمي الكبير للوضع القائم، أو"The Great Global ' Reset'". في شرح هذا يقول: (إن الصفوة المالية الدولية تشاهد ما يحدث للدولار، وهو عملة التعامل والاحتياط الدولية رقم واحد، وترى كمية الدولارات التي نطبعها. لذلك هم قلقون من أن يتركوا ممسكين بالحقيبة "وهي تفرغ"! ولهذا فقد بدأوا بالفعل العمل على تغيير هذا الواقع وذلك بإبعاد ميزان العملات الأجنبية بعيدًا عن الدولار.) وقد تحدثنا في موضوعنا السابق وفى عدة مقالات أسبق عن مصير الدولار وأمريكا من وجهة نظر ماركسية، ولكن شاهدنا يأتينا بأدلة عملية من واقع الاقتصاد الأمريكي والدولي تصل إلى نفس النتائج، ولا أظن أن هناك من يجرؤ على اتهام خبير وكالة المخابرات الأمريكية وغيرها من مؤسسات الدولة، بأنه يعبر عن هذه الأيديولوجيا "المقيتة"! فهو مثلًا يقول: – إن الصفوة المالية العالمية قد وضعت خطة من خلال صندوق النقد الدولي لتبديل عملة التبادل والاحتياط الدولي بعملة أخرى تعبر عن التغييرات التي حدثت في وضع الدولار الأمريكي كما رأينا وكذلك في وضع الاقتصاد الدولي، بحيث لم تعد أمريكا تمثل الاقتصاد الذي لا يهزم ولا القوة العسكرية التي لا تقارن! ولم يعد ذلك في طور التخطيط وإنما انتقل منذ زمن إلى الفعل، حيث أصدر الصندوق عملته العالمية المعروفة باسم حقوق السحب الخاصة. وقد أصدر الصندوق 250 بليونًا منها ويستعد لإصدار 500 بليون أخرى، إلا أن بعض من خبراء الصفوة، والغريب أن منهم مسئولين أمريكيين، دعوا الصندوق إلى إصدار 2.5 تريليون، وهو ما ينسجم مع رغبة الصفوة في الابتعاد عن الدولار في المعاملات الدولية. وفي نفس الاتجاه يقول The World Economic Forum: لقد آن الأوان لتغيير عالمي كبير للوضع القائم. ويقولون أيضًا: على العالم أن يعمل متحدًا وبسرعة لتجديد كل مجالات مجتمعاتنا واقتصاداتنا.. وكل صناعة بدء بالبترول والغاز وحتى التكنولوجيا يجب أن تتغير. باختصار نحتاج إلى "تغيير كبير للرأسمالية"! ويعلق شاهدنا على هذه الأقوال بالتالي: معنى المطلوب لفعل ما تريده الصفوة، هو: – أن ننسي كسب الفلوس بالطريقة التى كنا نفعل دائمًا. – أن ننسى عمل البزنس حول العالم بالدولار. – أن ننسى البترول الرخيص.. الخ ويعلق شاهدنا على هذه النتائج بالقول: (كل هذا قد انتهى إلى غير رجعة. لسنوات كانت الصفوة تدعو إلى احلال "الاشتراكية الديموقراطية" محل الرأسمالية) وهكذا يكون "الكلام قد دخل الحوش"! الحوش الأيديولوجي الماركسي وذلك بملاحظة بعض علماء الاقتصاد الرأسماليين أنفسهم، الذين يصلون إلى استنتاجاتهم من خلال رؤيتهم المباشرة لما يحدث في مجتمعاتهم. ويواصل شاهدنا تحليله للوقائع بالقول إن هذه الأزمة، التي تعبر عنها الصفوة بالرغبة في التعديل، هي التي تعطيهم الفرصة لعمل ذلك. ولمزيد من ايضاح رغبة الصفوة المالية، يأتينا شاهدنا بقول ماكت، مديرة صندوق النقد: (اليوم نواجه لحظة "بريتون وودز" جديدة) وهي، كما نعلم جميعًا اللحظة التي جعلت الدولار العملة العالمية الأولى. والمعنى أنه آن الأوان لتعميم العملة العالمية الجديدة لتحل محل الدولار، مثلما حل الدولار محل الإسترليني لحظة بريتون وودز. وهذه هي العملة التي أصدرها الصندوق فعلًا وتعامل بها عالميًا باسم حقوق السحب الخاصة Special Drawing Rights "SDR". وأخيرًا يلخص شاهدنا الوضع الحالي للدولار بانه لا محالة مؤد إلى موته، إذ أنه لأول مرة تجتمع كل هذه العوامل في هذا الاتجاه الذى لا يرى له بديلا. وينتهى إلى: (إن هناك بديل واحد ربما تبقى لمفكري واشنطن، وهو أفضل ما يعرفون عمله من تجاربهم السابقة، ألا وهو سرقة ما يدينون به عن طريق تخفيض العملة. إنه حساب بسيط: الدولارات الضعيفة اليوم تجعل من السهل سداد الدولارات القوية المستلفة بالأمس، وهكذا تدور الدائرة! ولكن إذا كانت هذه الفكرة سيئة من قبل فأنها ستكون أسوأ اليوم. ذلك لأننا اليوم نحتاج لدائنينا أكثر من ذي قبل). والمعنى الواضح لهذا الحديث، هو أن أمريكا لن تجد اليوم من يشترى ديونها التي ستؤدي بالتأكيد إلى خسارة من يشتريها، كما وضح من استخدام The Keynesian Multiplier. وهكذا لا يبقى غير الترحم على روح الدولار. ومن ثم أليس في هذا التحليل، الذي لم يكن نصيبنا فيه غير النقل الأمين، ما يجعل مسئولينا من المفكرين الاقتصاديين والقانونيين، إن كانوا حقًا يسعون إلى مصلحة السودان، يستفيدون من هذه الفرصة التي تجيئهم على طبق من ذهب، ليفرضوا شروطهم، على المتهافتين من دول العالم ولعابهم يسيل على الموارد الهائلة التي تذخر بها بلادنا؟! نواصل، إن شاء الله، في مقالنا القادم تقديم المزيد من الحجج على الوضع الدولارى البائس، ومن ثم نتحدث عن إمكانية استغلال هذا الوضع تجاه واشنطن وغيرها من العواصم المتنافسة والمتسابقة على خطب ود السودان، في سبيل خدمة مصلحة بلادنا. الميدان