الحكومات الانتقالية وحكومات تصريف الاعمال المؤقتة لا يجب ان تقحم نفسها في القضايا المصيرية للشعوب، كصناعة الدستور وعقد المؤتمرات المفضية الى تحديد شكل الحكم والهوية الوطنية، لقد احدث اتفاق جوبا للسلام ربكة كبيرة في المشهد الدستوري، باخضاع الوثيقة الدستورية للجرح والتعديل فخلق ازدواج في نظام الحكم القائم بابتداع نظام الحكم الاقليمي، ومنح اقليمين من اقاليم البلاد حكماً ذاتياً الامر الذي دفع اقليماً ثالثاً للسير على ذات الطريق المؤدية للحصول على الحكم الذاتي، وبحسب خبراء في القانون الدستوري أن الذي يحدث في بلادنا على المستوى التشريعي في فترة الحكم الانتقالي، اقل ما يوصف به انه فوضى تشريعية معقّدة بدأت مع استصدار الوثيقة الدستورية المستعجلة وحدوث ميلادها المبكر قبل حسم قضايا المعزولين عن الشراكة الانتقالية، مما وضع الحكومة في حرج اجراء التعديلات المستمرة لهذا الدستور المؤقت، فتضاربت المراسيم الدستورية الصادرة من الجهازين السيادي والتنفيذي، فعلى الرغم من التوصيف الدستوري للدور التشريفي للجهاز السيادي، الا ان المراقب يلاحظ تمركز السلطة التنفيذية بيد الجهاز السيادي. روتين عمل الفترة الانتقالية يشبه لحد بعيد سلوك منظومة الدكتاتور، باختلاف طفيف يكمن في وجود برلمان صوري في عهد الطاغية يمرر اليه تعليماته عبر الفاكس المرسل لعضوية البرلمان، حال انهم تجاوزوا الخطوط الحمراء (الجلسة التي عقدت بخصوص قوات الدعم السريع)، اما فترة الانتقال التي مضى عليها عامان لايوجد فيها حتى مجلس تشريعي، بسبب وجود ثلاثة مجالس اختلطت فيها شؤون التشريع والتنفيذ وغلبت عليها الاطماع الحزبية والاجندة السياسية، في ظل هذا الوضع الكارثي من البديهي أن يولد جنين نظام الحكم المزعوم مشوهاً باعتبار أن المؤتمر الذي سوف ينعقد بشأنه، جاء في اجواء غير صحيّة، بالاضافة لازدواج مهام الجهات المنوط بها انجاز الترتيبات الدستورية، المنوط بها اتمام مهمة الانتقال من الوضع المؤقت الى الحكومة المنتخبة، نلحظ السيد وزير العدل يعمل وراء كواليس وزارته بعيداً عن الاضواء يصيغ ويستصدر القوانين والتشريعات، في الوقت الذي لا يوجد فيه جهاز تشريعي من اساسه، كل هذا اللغط لا يمكن أن يؤسس لمرحلة مستقرة دستورياً. تصريحات القائمين على فعاليات مؤتمر نظام الحكم لا تنبيء عن الوعي الدستوري المطلوب في حده الادنى، خاصة عندما يقللون من خطورة استحداث مستويات للحكم غير متوازنة بين اقاليم وولايات البلاد العديدة، وحينما يدلون بالتصريحات غير المتواءمة مع مباديء الاعراف الدستورية، فلا يمكن بأي حال من الاحوال تقبل الحديث الذي يهمل تاثير نتائج ومخرجات أي اجتهاد تشريعي في المرحلة المؤقتة القائمة، عندما يحين موعد اكتمال الانتقال وتسلم طاقم الحكومة المنتخبة مهامه القضائية والتشريعية والتنفيذية، حتماً سيصطدم الفريق الحكومي القادم على صهوات جياد اصوات الناخبين بأزمة دستورية اخرى مستحكمة، اساسها القاعدة الهشّة التي بنيت عليها القوانين والتشريعات غير الحاصلة على الاجماع السكاني الكافي، صناعة الدستور وحسم الكيفية التي يجب أن يحكم بها الناس انفسهم بانفسهم ليست بالأمور الهيّنة، ولنا في التجربتين المايوية والاسلاموية خير واعظ، لقد صرفت مبالغ طائلة يمكنها سد ثغرات الماء والكهرباء والدواء في حشد المؤتمرات الباذخة، دون الوصول الى دستور ونظام للحكم يتجاوز فترة حكم ذات الحكومة الحاشدة لهذه المؤتمرات. نتائج التخبط الدستوري وفوضى تداخل السلطات الثلاث انتجت بدعة الحكم الاقليمي التي جاءت بها اتفاقية سلام جوبا، وهي أولى المؤشرات الدالة على القادم الأكثر سوءاً، لخطل (الترزية) و(المطرزاتية) و(المرقعاتية) للدساتير والقوانين، اتفاقية جوبا خلّفت ثلاث ازمات بسبب منحها بعض الاقليات الحق الدستوري العام، في تقرير مصير اغلبيات سكانية ذات جذور ضاربة في قدم المناطق التي تقطنها، في الشرق ودارفور والمنطقتين، ففرضت على المجتمعات ذات الغالبية السكانية العظمى ارادة الاقليات النخبوية والملائشية والعشائرية الصغيرة، فارتفعت الاصوات المطالبة بالحكم الذاتي في ولاية جنوب اقليم دارفور، وصرخ سكان ولاية غرب كردفان وطالبوا بمنحهم حكماً اقليمياً على غرار جارهم الغربي، والحبل على الجرار، وغداً ستخبرنا الايام ما كان خافياً بولاية غرب دارفور صاحبة السبق التاريخي في امتلاكها للوثيقة الأممية المخولة لها تحديد مصيرها، ولا تندهش لو رأيت الشمال الأقصى قد رفع مذكرته المطالبة بالانضمام للجار الشمالي، كل الاحتمالات متوقعة مع تفاقم اعداد الجرّاحين الدستوريين الفوضويين وتجمهرهم حول جسد الوطن الجريح واجهازهم عليه بلا رحمة. [email protected]