اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    الخطوة التالية    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صناعة الدساتير في السودان: المؤتمر القومي الدستوري .. تأليف: ابراهيم علي ابراهيم المحامي
نشر في سودانيل يوم 16 - 08 - 2016

ظل السودان في حالة بحث مستمرة عن دستور دائم لأكثر من قرن من الزمان. ودخل السودان في العديد من المحاولات الفاشلة لتبني دستور دائم يساعد على بناء المؤسسات السياسية والديمقراطية التي ظلت تسيطر عليها قوى سياسية واجتماعية معينة لسنوات طويلة وتعمل على تشويهها. ترتبط الأزمة السياسة الحالية التي يعيشها السودان ارتباطاً محكماً بفشل السودانيين في تبني الدستور الدائم. إن انفصال الجنوب في يوليو 2011، وانتشار الحروب الأهلية في اقليم دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، والانتهاكات الواسعة لحقوق الانسان هي من أهم أعراض الفشل الدستوري.
تتناول هذه الورقة مشكلة صناعة الدستور في السودان، وتقدم آفاقاً للمستقبل. لتقديم مقاربة جديدة لصناعة الدستور في السودان، علينا أن نفهم التاريخ السياسي والدستوري في السودان. لذلك ستقوم الورقة أولاً بسرد التاريخ السياسي- الدستوري للسودان منذ الاستقلال في مطلع يناير 1956. ستنظر الورقة في هذا الماضي كوسيلة للحصول على مفاهيم واجابات حول لماذا فشلت جميع المجهودات التي بذلت لتبني دستور دائم للبلاد. ثانياً: ستفصل الورقة الفشل الدستوري وتقوم بتحليل العيوب الاساسية في عملية واجراءات صياغة الدستور التي اتبعت في الماضي. في هذا السياق، ستعمل الورقة على تسليط الضوء على العيوب الموروثة في عملية صناعة الدساتير التي استمرت لسنوات طويلة في السودان. ثالثاً: توضح الورقة ان المنهج المتبع مسألة حيوية بالنسبة للدستور المنتج. لذلك، تقترح الورقة مغادرة تامة للتجارب الماضية الفاشلة في صناعة الدساتير، وبصفة خاصة تقترح الورقة منهجاً وطريقة أكثر شمولاً لصناعة وتبني الدستور الدائم الذي يضمن مشاركة واسعة ويمنع التلاعب بالعملية من قبل قوى سياسية معينة. أكثر من هذا، تعمل الورقة على تقديم "المؤتمر القومي الدستوري" كآلية قابلة للتطبيق لصياغة وتبني الدستور الدائم، ولحل قضايا السودان المصيرية. ستعمل الورقة على تفصيل الخطوات المختلفة التي يجب على السودانيين اتباعها لتنظيم وعقد المؤتمر القومي الدستوري المرتقب.
خلفية سياسية:
في المأزق الحالي للخلافات ولغياب الحوار الجاد بين الحكومة وقوى المعارضة المتعددة حول موضوع صياغة الدستور الدائم للبلاد، تتشابك الرؤى وتثور المخاوف والهموم إلي ما يمكن أن تؤول إليه الحالة الراهنة. إن مستقبل السودان يمر بمنعطف حرج وخطير للغاية، وهنا تكمن الحاجة إلى سبر أغوار تجربة الماضي القريب لاستخلاص العبر والدروس منها.
السودان بلد موبوء بالحروب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي. في فجر الاستقلال فشل السودانيون في استيعاب الجنوب في دولة موحدة ضمن ترتيبات دستورية تضمن نظاماً فيدرالياً، مما قاد الى حرب أهلية دموية وعدم استقرار سياسي استمرت أكثر من نصف قرن. وبعد سنتين من إعلان الاستقلال تمرد البجا في شرق السودان، وفي بداية الستينات حمل تنظيم نهضة دارفور السلاح في وجه الحكومة المركزية، كما بدأت المليشيات الحكومة في محاربة قبائل النوبة في جنوب كردفان.
ورغم ان السودان نال استقلاله الا أنه لم يشهد ثورة سياسية أو اصلاحات دستورية تتناسب مع بناء الدولة الوليدة الجديدة. وبدلاً من ذلك، فضلت النخب السياسية أن يستمر حكم السودان بنفس الدستور البريطاني الاستعماري لسنوات طويلة قادمة. ورثت النخب الرائدة من الاستعمار دولة استعمارية مركزية عملت على تهميش الأقاليم المكونة لها، وعلى التمييز بين شعوبها لدرجة إعلان الجهاد ضد بعضها. ولم يكن قصد النخب السياسية التي ورثت الدولة والسلطة معاً الاستقلال التام عن السلطة الاستعمارية حيث يجب أن يكون الاستقلال. فلم نشهد لهم رفضاً صريحاً للتقاليد السياسية والاجتماعية البريطانية، كما عجزوا عن إجراء أي تغييرات جوهرية في مبادئهم وآرائهم التي تتماهى مع المستعمر لدرجة كبيرة. كذلك لم يهتموا بحقائق أساسية تتعلق بحجم الدولة المستقلة وتعدد اقاليمها وتنوع سكانها وما يتطلبه ذلك من حكومة عقد اجتماعي، ونظام سياسي فدرالي يفصل بين السلطات، ويضمن حقوق الانسان. لم تكن لهم أي خطط لاطار حكومي مختلف عما ورثوه.
وبحكم تعليمهم وتأثرهم بالقيم السياسية والثقافة الغربية، فضلت النخب "ورثة الاستعمار" الحفاظ على نظام الحكم الاستعماري الذي ورثوه وأجادوه. ونسبة لولاء هذه النخب الطائفية وقيودها القبلية، فقد رأوا في حركتهم الوطنية دفاعاً أساسياً عن مصالحهم الخاصة. ولم يتحرروا من الفساد الأرستقراطي البريطاني للدخول في عهد جديد من الحرية والديمقراطية والاستقامة.
بعد معركة الاستقلال كسب السودانيون معركتين ضد الدكتاتورية الفاسدة خلال ثورة 21 اكتوبر 1964 وانتفاضة 6 أبريل 1985، الا أنهم لم يكسبوا الحرية والديمقراطية والعدالة. وتكرر فشل النخب السياسية مرة أخرى في التعامل مع دولة متعددة الأقاليم والسكان، وبدلاً عن بذل أي مجهودات نحو التغيير فضلوا الحفاظ على نفس الوضع الفاشل السائد. للطغيان أوجه عديدة، حيث عانت أقاليم السودان طويلاً من هيمنة المركز السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومن سياسات التهميش التي اتبعتها كافة الحكومات التي تعاقبت على الحكم في الخرطوم حيث تم حرمان الأقاليم من التنمية الاقتصادية والمشاركة السياسية المتساوية، كما تم حرمانها من حقها الطبيعي في حكم نفسها في نظام حكم لا مركزي. وقد أدى استمرار نظام الحكم المركزي الى تعريض وحدة السودان للخطر. ونتيجة لاستمرار سياسات التهميش انغمس السودان في حروب أهلية طويلة مع أقاليمه، وحالة مستمرة من عدم الاستقرار السياسي، والفراغ الدستوري، والأزمات الاقتصادية.
إن فكرة عقد مؤتمر قومي دستوري لحل قضايا السودان المصيرية تم تقديمها لأول مرة في لقاء الحركة الشعبية بقيادات الأحزاب والنقابات في كوكادام بأثيوبيا عام 1986، حيث وقع الطرفان اعلان كوكادام الذي نادى بتكوين سودان جديد يقوم بوضع ملامحه وتعريفه مؤتمر قومي دستوري. وفي نوفمبر 1988 التقى زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي مولانا محمد عثمان الميرغني بزعيم الحركة الشعبية د. جون قرنق في أديس أبابا حيث وقع الزعيمان اتفاقية السلام السودانية أو ما عرف لاحقاً باتفاقية الميرغني-قرنق التي أجرت تعديلاً على اعلان كوكادام باتفاق الطرفين على تجميد قوانين سبتمبر الاسلامية. وقد اعترض رئيس الوزراء الصادق المهدي على الاتفاقية. والجدير بالذكر ان الاتفاقيتين أصبحتا ضحيتين للمكايدات السياسية.
في هذا الوقت الحساس من الجدال الوطني المحتدم حول مفاوضات السلام، نفذت الجبهة القومية الاسلامية التي لم تكن سعيدة بمفاوضات السلام وتجميد القوانين الاسلامية وفكرة عقد المؤتمر القومي الدستوري، نفذت انقلاباً بقيادة العميد عمر حسن البشير لإجهاض مجهودات السلام التي كانت تقوم بها الحكومة وبعض الجهات النقابية والحزبية. إن أول ما قامت به الانقاذ هو حل الأحزاب والنقابات المهنية واعتقال قادتها وجميع المرتبطين بمفاوضات السلام مع الحركة الشعبية، ومطاردة الناشطين، حيث نصبت المعتقلات السرية التي عرفت ببيوت الاشباح لتعذيب المعتقلين في سابقة لم يشهد لها العالم مثيلاً. ونتيجة لتطبيق هذه السياسات الوحشية اضطرت القيادات السياسية والناشطين الى الهجرة الى الدول المجاورة حيث تم تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي، تحالف المعارضة، في كل من القاهرة وأسمرا، الذي رفع شعار اسقاط النظام واستعادة الديمقراطية. وبعد ذلك توالت هجرات السودانيين الهاربين من جحيم الحياة في ظل نظام الانقاذ الاسلامي. كذلك اتبع نظام الانقاذ سياسة عرفت بسياسة التمكين والتي تهدف الى تمكينهم من مفاصل الدولة والسلطة واستباحة مقدراتها وتحويلها كغنيمة لأبناء التنظيم وأهل الولاء. ونتيجة لهذه السياسة تم تشريد مئات الآلاف من موظفي الدولة المدنيين والعسكريين، حيث أستأثر قادة النظام وأسرهم بخيرات الدولة وثرواتها.
واصلت حكومة الانقاذ سياسات التهميش الموروثة، وكثفت من حروبها على الأطراف حيث هدفت الى اخضاع الأقاليم بفوهة البندقية. في نهاية عام 1991 أعلن النظام الحاكم الجهاد الاسلامي في جنوب السودان، وبذلك تم اعادة انتاج الحرب القديمة في صورة حرب دينية مقدسة ضد الكفار، حتى يتم حشد الدعم الشعبي اللازم لها، وبالفعل فتحت معسكرات الجهاد وتم تجنيد آلاف الشباب المجاهدين. كذلك شن النظام حروبه الجهادية في جبال النوبة في بداية التسعينات، وفي جنوب النيل الأزرق وشرق السودان في منتصف التسعينات.
وقبل توقيع اتفاقية السلام الشامل مع جنوب السودان، اندلعت الحرب في دارفور كنتيجة حتمية لاستمرار النظام في سياسات التهميش. وصفت الحرب في دارفور على أنها حرب إبادة، ونالت اهتماماً عالمياً لم يسبق له مثيل في العصر الحديث، ووصلت انتهاكات حقوق الانسان اسوأ درجة لما يمكن أن يحدث في بقعة ما. وهكذا دخل السودان في سلسلة من الحروب الأهلية المستمرة بين السلطة والأقاليم التي رفعت السلاح ضد الظلم وانعدام العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وسياسات التهميش المستمرة. ونتيجة لهذه الحروب فقد السودان ملاييناً من الأرواح، كما تم تشريد الملايين داخلياً وخارجياً.
في يونيو 1995 عقد التجمع الوطني الديمقراطي مؤتمر القضايا المصيرية بمدينة أسمرا الذي أكد على ضرورة عقد المؤتمر القومي الدستوري لحل هذه القضايا وتبني الدستور الدائم. كذلك وافق التجمع على المبادئ العامة التي يجب ان يتضمنها الدستور الدائم. ولكن في نهاية المطاف فشل التجمع في تقديم مقترح للدستور. في يناير 2005 وقعت الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية السلام الشامل التي أنهت اطول حرب أهلية في افريقيا، ومنحت جنوب السودان حق تقرير المصير الذي أدى في النهاية الى استقلال الجنوب في يوليو 2011. كذلك نصت اتفاقية السلام الشامل على دستور انتقالي تمت اجازته بواسطة المجلس الوطني في يوليو 2005. إن رحلة السودانيين للبحث عن الاستقرار السياسي والديمقراطية ظلت دائماً مرتبطة ببحثهم عن دستور دائم.
تاريخ الفشل الدستوري:
في تاريخه الحديث شهد السودان عدداً من مختلف أنواع الدساتير، و مشروعات الدساتير المتنافسة، وقائمة طويلة من الأوامر والمراسيم الدستورية المؤقتة، والمواثيق الدستورية، وعدداً لا يستهان به من اللجان القومية الدستورية، مما قاد إلى عدم الاستقرار الدستوري الذي ظلت تعيش فيه البلاد واتسمت به الحياة السياسية. ان مشاكل السودان المعقدة هي نتيجة مباشرة لهذا الفشل الدستوري الذي يعزى الى انعدام الخبرة والمعرفة الدستورية لدى القيادات السياسية والنخب السودانية.
لم يهتم الانجليز في بداية الأمر بسن دستور للسودان. وفي سنة 1948 لجأت الحكومة البريطانية الى تطبيق "قانون المجلس التنفيذي والجمعية التشريعية لسنة 1948"، الذي قاطعته الأحزاب الاتحادية. رغم أن هذا القانون لم يكن القصد منه أن يصبح الدستور النهائي لجمهورية السودان، الا أنه اعتبر خطوة في الطريق الصحيح للحكم الذاتي و وسيلة لتدريب وتأهيل السودانيين للحكم الذاتي.
ونتيجة لزيادة الشعور الوطني والحس السياسي والمطالبات العالية بمشاركة السودانيين في حكم بلادهم لتمهيد الطريق لتقرير المصير، قامت الحكومة في عام 1951 بتشكيل أول لجنة سودانية لمشروع الدستور. ورفعت هذه اللجنة توصيتها بتأسيس دستور للحكم الذاتي من نوع الديمقراطية البرلمانية، مضمناً فيه بالإضافة إلى الحاكم العام مجلس سوداني خالص للوزراء وبرلمان ذي مجلسين، على أن يعمل بهذا الدستور المعدل خلال المدة التي تسبق تقرير المصير، والى أن يتحقق هذا الهدف تكون جمعية تأسيسية قبل نهاية عام 1953م. استمر العمل بدستور السودان المؤقت لسنة 1951 واتفاقية الحكم الذاتي لسنة 1953م حتى مطلع عام 1956، حيث صدر الدستور المؤقت لسنة 1956م بعد أن أجازه مجلسي الشيوخ والنواب في جلسة مشتركة. وكان هذا أول دستور انتقالي تجيزه الهيئة التشريعية لدولة السودان الحديثة باعتبارها جمهورية ديمقراطية ذات سيادة.
بتاريخ 28/2/1956 أصدر مجلس الوزراء المنتخب قراراً بتكوين لجنة وزارية لتقديم توصيات عملية "لوضع دستور مستديم للجمهورية السودانية وقانون الانتخابات وتقسيم الدوائر الانتخابية"، حيث أوصت هذه اللجنة بتشكيل لجنة قومية لوضع "مسودة الدستور" الدائم، كما أوصت بقيام جمعية تأسيسية لإقرار الدستور الدائم. وبالفعل تكونت اللجنة القومية من (46) عضواً واستمر عملها لمدة طويلة، حيث رفعت توصياتها في ابريل 1958. ولكن الصراعات الحزبية لم تشأ لهذا المشروع الذي تناوبت عليه العديد من اللجان الفنية أن يرى النور. وفضل السودانيون أن يحكموا أنفسهم بدستور 1956 المؤقت بدلاً من المضي قدماً في إجازة مشروع الدستور الدائم.
على اثر انقلاب نوفمبر 1958، قامت حكومة الفريق عبود بإصدار بعض الأوامر الدستورية التي سيرت بها عمل الدولة والحكومة، كما قامت بتشكيل لجنة قومية في عام 1961م اشتهرت باسم لجنة أبو رنات لإجازة نظام للحكم المحلي. وفي أعقاب نجاح ثورة 21أكتوبر تم تبني الميثاق الوطني لسنة 1964 الذي تمت صياغته بتعديل بسيط على الدستور المؤقت لسنة 1956، ليصبح دستور السودان المؤقت المعدل لسنة 1964 الذي حكم البلاد أثناء الفترة الانتقالية.
في بداية العهد الديمقراطي الثاني قامت الحكومة بتشكيل العديد من اللجان الفنية الدستورية، اتسمت بعدم الاستقرار، وفي عام 1968 قدمت اللجنة القومية للدستور توصياتها للجمعية التأسيسية. وقد شهدت هذه الفترة صراعات وانقسامات حادة بين الأحزاب والقوى السياسية المختلفة حول الدستور، حيث ظهرت الى السطح مقررات لجنة الاثني عشر الخاصة بالوضع الدستوري والإداري، ثم تقرير مؤتمر الأحزاب حول نظام الحكم، ثم ظهور مشروع الدستور الإسلامي لأول مرة. استمرت هذه الصراعات والمشاريع المتنافسة حتى وقوع انقلاب مايو 1969م. ومعروف أن مايو حكمت بسلسلة من الأوامر الدستورية إلى أن أجازت الدستور الدائم لجمهورية السودان الديمقراطية 1973.
بعد انتفاضة ابريل 1985 التي أطاحت بنظام نميري، قام المجلس العسكري الانتقالي الذي تولى السلطة بإصدار الدستور الانتقالي لسنة 1985، الذي تم على غرار دستور 1956 المؤقت، وأتبع ذلك انتخاب جمعية تأسيسية في عام 1986. ولكن لم تتخذ حكومة الصادق المهدي أي خطوة تجاه تبني الدستور الدائم، وأكتفت بأن يستمر حكم السودان بدستور 1956 المؤقت والذي بني أصلا على أساس دستور ستانلي بيكر الذي صدر عام 1951، الى أن وقع انقلاب الجبهة القومية الاسلامية.
حكم الرئيس البشير البلاد بالمراسيم الدستورية لمدة تسع سنوات. في عام 1998 قامت حكومة الانقاذ الاسلامية بإصدار أول دستور ذو طبيعة اسلامية. أعلن الدستور الجديد السودان دولة اسلامية، كما اعترف بحق تقرير المصير لجنوب السودان. ونتيجة لتوقيع اتفاقية السلام الشامل بين الحكومة والحركة الشعبية تم اصدار الدستور الانتقالي لسنة 2005 الذي عمل على تقسيم السلطة والثروة بين الشمال والجنوب، كما احتوى على وثيقة لحقوق الانسان، وعدد من المفوضيات لحقوق الانسان، ولحماية غير المسلمين وأخرى للأراضي.
وهكذا حُكم السودان بحوالي سبعة دساتير، وسلسلة طويلة من المراسيم والأوامر الرئاسية، ثلاثة من بينها تمت بواسطة حكومات عسكرية، واثنين تم اصدارهم في أعقاب اتفاقيات سلام بين الشمال والجنوب، ولكن لم يتمتع أي منهم بقبول شعبي وشرعية دستورية، مما يعكس فشل السودانيين في تبني دستور شرعي متفق عليه ومقبول من جميع الأقاليم والمجموعات العرقية التي تعيش فيه.
يلاحظ أن الأزمة ارتبطت دوماً بعجز وفشل القوى السياسية الممثلة في الجمعية التأسيسية في إجازة الدستور الدائم للسودان، حيث استمرت الجمعية التأسيسية جمعية دائمة لا تؤسس لشيء، تطل برأسها من جديد كلما ظهرت مؤشرات عهد الانتقال الديمقراطي. وتعكس قصة الجمعية التأسيسية مع الدستور قصة الفشل السياسي الذي لازم النخب الحاكمة حتى أصبحت معلماً بارزاً من معالم تاريخنا الحديث. وهكذا فشلت آخر جمعية تأسيسية في إقرار دستور دائم للبلاد، في واحدة من أغلى الفرص للعهود الديمقراطية، وربما آخرها، لنيل شرف إجازة الدستور الدائم لجمهورية السودان.
عيوب المحاولات السابقة:
يمكن القول إن جميع اجراءات صناعة الدستور في السودان كانت معيبة ومختلة، وأن عملية البحث عن دستور دائم لم تكن ناجحة حتى الآن. يتضح من التاريخ الذي سردناه أعلاه أن محاولات صياغة الدستور كلها قد تم اعدادها بواسطة لجان وكان من المفروض ان تقوم الجمعية التأسيسية بإجازتها. هذا الإجراء لم يقدر له أن يتم ويكتمل نسبة للصراعات والمكايدات السياسية والتنافس والانقسامات والحزبية الضيقة والانقلابات العسكرية. تبرهن تجارب السودان السابقة مع الدستور أن سياسيو المركز قد اختطفوا عملية صياغة الدستور لسنوات طويلة، وحصروها في مجرد تحقيق مكاسب سياسية حزبية. وكان أعضاء لجان وضع الدستور جميعهم من المركز، حيث تم تهميش الأقاليم في عضوية هذه اللجان الهامة، كما لم تكن هذه اللجان ممثلة لجميع شعوب السودان. وبدلاً من ذلك كان أعضاؤها يمثلون طموحاتهم الشخصية الضيقة ومصالحهم الطائفية التي كثيراً ما أشعلت المكايدات الحزبية.
كان أعضاء لجان ومفوضيات الدستور السابقة يفتقرون للمعرفة الدستورية المطلوبة لبناء الدول ذات الطبيعة الخاصة مثل السودان وتأسيس المؤسسات السياسية. لذلك لم يبذلوا أي مجهود، بل فضلوا الحفاظ على الدستور الاستعماري البريطاني الموروث لسنوات قادمة. ويعتبر رفضهم للفيدرالية التي طالب بها الجنوبيون في الخمسينات إثبات لهذا، حيث خلطوا بين مفهوم الفيدرالية والانفصال واعتبروها مهدداً لوحدة الوطن. كما فشلوا في رؤية التعدد الإقليمي والتنوع الاثني لبلد واسع كانوا يحكمونه، ومدى الحاجة الى نظام سياسي وطني قابل للتطبيق، واطار للحكم، ومنهج لبناء الدولة، وديمقراطية مبنية على هذا التنوع والتعدد.
نتيجة لذلك، إما نادت مشروعات الدساتير التي أودعتها تلك اللجان بدستور اسلامي، أو اقترحت الابقاء على النظام البرلماني الموجود، لذلك لم تحصل تلك المشروعات على اجماع وسط القوى الأساسية، كما لم تحظ بموافقة الجمعية التأسيسية. كانت مشروعات تلك الدساتير تهدف الى خدمة مصالح النخب فقط على حساب بناء مؤسسات ديمقراطية قوية واستقرار سياسي طويل المدى. كما صمتت تلك المشرعات عن ذكر مبادئ هامة مثل: اللامركزية، توزيع السلطات، العدالة الاجتماعية، حقوق الانسان، حقوق المواطنة، وسيادة حكم القانون.
يمكن تلخيص أهم عيوب عملية صناعة الدستور في السودان في الآتي: 1) ظلت عملية صياغة الدستور حكراً على النخب ومحصورة عليهم وتفتقر الى التمثيل العادل، 2) ان تصميم العملية الدستورية لا يناسب التنوع الجغرافي والعرقي، 3) لم يكن هناك منهجاً واضحاً لصناعة الدستور كما ان العملية لم تكن تستند على مبادئ دستورية معينة، 4) لم تسترشد العملية الدستورية بأي تجارب عالمية في مجال صناعة الدستور خاصة في الدول ذات الطبيعة التي تشابه السودان مثل الولايات المتحدة واستراليا وكندا، 5) ظاهرة تغيير عضوية لجان ومفوضيات الدستور وعدم ثباتها تبعاً للصراعات السياسية وتغيير الحكومات، 6) لم تؤكد العملية الدستورية على ضرورة تحقيق اجماع القوى الأساسية كما لم يكن هناك مجال للتسويات السياسية، 7) والنزعة المستمرة نحو رفض الاجراءات والقفز الى النتائج.
مقاربة جديدة لدستور السودان: المؤتمر القومي الدستوري:
تعتبر الحاجة الى صياغة وتبني دستور دائم للسودان من أهم القضايا والأجندة الوطنية لكافة القوى السياسية اليوم، حيث تعي الحكومة وجميع الأحزاب المعارضة والحركات المسلحة ومنظمات المجتمع المدني مدى الحاجة الملحة لدستور دائم. إن الانتهاكات الكبيرة لحقوق الانسان ومصادرة الحريات للأفراد والمجتمعات السودانية قد تم التأكيد عليها بمصادرة الديمقراطية وسياسات التهميش المستمرة. كما ان الصراع بين المركز المهيمن والأقاليم قد أصبح قضية مركزية لأزمات السودان منذ الاستقلال. هذا الشعور بالاغتراب قد قاد بعض الأقاليم للتمرد. وقد أدى انتشار الحروب في الأقاليم والفظائع التي ارتكبتها حكومة الانقاذ الحالية الى اثارة اسئلة أساسية حول الهوية الوطنية والوحدة الوطنية. ويسلط انفصال الجنوب عن طريق الاستفتاء في يوليو 2011 الضوء على مدى الخوف والمخاطر من تفكك الدولة السودانية آخذين في الاعتبار الحرب الدموية الحالية في كل من دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. اضافة الى ذلك فإن ضعف النظام البرلماني الإقصائي الموروث وانعدام وجود مؤسسات سياسية شكلا دعوة مفتوحة للانقلابات العسكرية والحكم الديكتاتوري.
يمكن اختصار القضايا المصيرية التي تواجه السودان في الآتي: الحرب والسلام، النزاعات العرقية، قضايا التهميش، الوحدة الطوعية ، نظام الحكم والمؤسسات السياسية، اللامركزية واعادة هيكلة الدولة على أسس جديدة، الديمقراطية، اقتسام الثروة والسلطة، المصالحة الوطنية، بناء الدولة والهوية الوطنية، حماية حقوق الانسان، العدالة الاجتماعية، وحكم القانون. هذه القضايا المصيرية المترابطة والمتداخلة التي لم تحل بعد تعكس الحاجة الملحة الى انعقاد المؤتمر القومي الدستوري لحلها.
الآن تشكلت قناعة واسعة بأن الطرق التي اتبعت في السابق لصياغة وتبني الدستور كانت معيبة بشكل كبير لذلك لم تحقق هذه المحاولات أي اجماع وطني أو دستور دائم متوافق عليه. لدينا نقص كبير في الخبرة والمعرفة الدستورية، كما ينقصنا الدليل العملي للسياسيين والمشرعين ومستشاريهم حول كيفية تصميم واتباع منهاج لصناعة الدستور يمكن ان يضمن تحقيق دستور دائم ويدعم الاستقرار السياسي والعدالة والسلام الدائم.
إن تطوير عملية فعالة لصناعة الدستور تغادر تجارب الماضي الفاشلة وتضمن مشاركة شعبية واسعة وتمنع احتكار العملية بواسطة مجموعات محددة، يعتبر تحدياً جدياً. إن عملية صناعة دستور دائم للسودان يجب ألا تبنى على تجارب الماضي المُرة، وفي نفس الوقت يجب ألا تتقيد بها. لا يمكن للسودانيين أن يعيدوا تكرار فعل نفس الشيء كل مرة و مع ذلك يتوقعوا نتائجاً مختلفة. لذلك، تقترح هذه الورقة مغادرة تامة لطرق صناعة الدستور الفاشلة التي اتبعت خلال تاريخ السودان.
ان طريقة صناعة الدستور مهمة تماماً مثل الدستور نفسه، حيث أن الطريقة تحدد النتيجة. يجب ان تتم صياغة الدستور الدائم عبر عملية تشجع المشاركة الشعبية، والحوار، والمشورة الواسعة، وان تتغلب على الانقسامات، وان تعالج الأزمة من جذورها، وان تؤسس آليات لبناء اجماع وطني، وتسمح بترسيخ المبادئ الديمقراطية، وتمنع السيطرة بواسطة قوى معينة. اضافة الى ذلك، يجب ان تستهدي العملية بحقائق التنوع والشفافية والمحاسبة. يجب ان تعمل صناعة الدستور على تمكين المجتمعات السودانية والأقاليم، حيث أن مشاركة كافة المجموعات في العملية من شأنه أن يزرع فيها الاحساس والشعور بالمسؤولية نحو البناء والمصالحة الوطنية. وقد اثبتت التجربة السودانية أن ابعاد وتهميش بعض المجموعات من شأنه ان يولد الاستياء ويزرع بذور العنف. ان عملية صناعة الدستور تعتبر من اللحظات الحاسمة في دولة اذا تم فيها ابعاد بعض المجموعات الأساسية فإن السلام سينهار.
ان النهج الجديد الذي تعتزم هذه الورقة اقتراحه هو عملية أكثر شمولاً لصناعة الدستور. هذه الاجراءات سيتم تقسيمها على خمس خطوات يمكن تلخيصها فيما يلي: 1) اطار قانوني متفق عليه يسمى "قانون المؤتمر القومي الدستوري" الذي سيحدد العملية، والمبادئ، والآليات، والجدول الزمني، 2) لجنة صياغة الدستور التي ستقود المشاورات مع قطاعات الشعب المختلفة وتعمل على اعداد مسودة الدستور المقترحة، 3) مؤتمرات المحافظات والأقاليم التي سيتم تصميمها وعقدها كضمان لمشاركة كافة الأقاليم السودانية وتعمل على توسيع الحوار والمشاركة الشعبية في اعداد مسودة الدستور، كما تعمل على اختيار ممثليها للمؤتمر القومي الدستوري، 4) المؤتمر القومي الدستوري الذي مهمته التداول حول مسودة الدستور واجازة الدستور الدائم للسودان، ومعالجة كافة القضايا المصيرية.
أولا: قانون المؤتمر:
ان صناعة الدستور الدائم في السودان تتطلب قانوناً متفق عليه من جميع الأطراف، يوضح بجلاء العملية الدستورية ومراحلها، ويفصل الاجراءات والمبادئ، ويحدد الشكل والآليات، والزمن المحدد لكل مرحلة. على الحكومة أن تعلن عن رغبتها الجادة في العملية بإجازة هذا القانون باعتباره الاطار القانوني للإصلاح الدستوري الشامل. وعليها القيام ببعض الخطوات لتهيئة المناخ السياسي والمدني الذي يشجع التوافق والاجماع حول الرغبة في العملية الدستورية الجديدة.
يجب ان يتوفر لقانون المؤتمر قدر من الاجماع حتى يتمكن من قيادة وتوجيه عملية صناعة الدستور بصورة تضمن نجاح المؤتمر القومي الدستوري واجازة الدستور الدائم عن طريق الاستفتاء الشعبي. على القانون أن يحدد الواجبات والأهداف والخطوات والأجسام واللجان التي ستقوم بها، وعضويتها وكيفية اختيارهم، والاجراءات والمبادئ، والوقت المحدد لكل خطوة. من أجل تحقيق هذه الغاية سينص القانون على تشكيل لجنة صياغة الدستور المستقلة باعتبارها الآلية القانونية المنوط بها قيادة عملية صياغة الدستور، كما يحدد كيفية تشكيلها ومهامها، ويضع المبادئ التي تحكم عملية الصياغة، ويحدد منهجها في العمل، ويحدد الزمن المحدد لكل خطوة.
على القانون أن ينص على تأسيس مؤتمرات المحافظات ومؤتمرات الأقاليم باعتبارها الضامن الوحيد للمشاركة الشعبية الواسعة، والتعبير الرسمي لموافقة الأقاليم على مسودة الدستور. ويحدد القانون شكل هذه المؤتمرات وعضويتها، وكيفية اختيارها، كما يحدد مهامها والاجراءات التي تحكم المداولات، والمواعيد الزمنية المحددة لها، حتى نتفادى الاطالة غير المثمرة. كذلك يحدد القانون كيفية اختيار المناديب من هذه المؤتمرات لتصعيدها للمؤتمر القومي الدستوري. كما يحدد القانون بوضوح وصرامة شروط التمثيل الشعبي حتى لا يتم تزييف ارادة البعض.
من المهم أن يضع القانون تصميماً للمؤتمر القومي الدستوري باعتباره الآلية الرئيسية لإجازة الدستور الدائم، قبل ان يعرض على الاستفتاء العام. يحدد القانون شكل المؤتمر القومي الدستوري وعضويته، ورئاسته، والسكرتارية واللجان الفنية، كما يضع الاجراءات والمبادئ، والمداولات، ونظام التصويت، ويحدد آليات التفاوض والمساومات والاجماع. يجب ان يحدد القانون بوضوح اجراءات المؤتمر ويحدد الآليات التي من شأنها ان تمنع السيطرة والاحتكار للعملية الدستورية. من الضرورة أن تحظى هذه الخطوات والاجراءات والمبادئ والآليات بموافقة كافة القوى الاساسية قبل اصدار القانون. إن أي عملية مثيرة للجدل والخلاف لا يمكن ان تنتج دستوراً دائماً.
ثانياً: لجنة صياغة الدستور:
على القانون أن ينص على تأسيس لجنة لصياغة الدستور، واجبها الأساسي تقديم الوعي والتنوير حول العملية الدستورية، والسعي للحصول على مساهمة الجمهور، وتقديم مسودة الدستور الأولى للمؤتمر القومي الدستوري. وتعتبر لجنة وضع الدستور هي القائد الفني لعملية صناعة الدستور. يجب ان تكون عضوية لجنة وضع الدستور من الأشخاص المعروفين بخبراتهم في صناعة الدساتير مثل القانونيين وعلماء السياسة والناشطين. وبحسب التجارب الفاشلة السابقة يجب ألا تكون هذه اللجنة متضخمة. كل ما هو مطلوب هو لجنة لا تتجاوز عضويتها تسعة أعضاء، ستة منهم يمثلون أقاليم السودان الستة. ويجب أن تكون العضوية متنوعة من حيث النوع والخلفية الاجتماعية. ويجب أن يتم ترشيحهم واختيارهم بواسطة لجنة مستقلة، وأن يتم تعيينهم بواسطة رئيس الدولة. وغني عن القول أن اللجنة يجب أن تكون مستقلة تماماً عن السلطة التنفيذية أو أي جهة أخرى.
يكون للجنة صياغة الدستور رئيس ونائب رئيس وسكرتير ومتحدث رسمي، يتم انتخابهم من بين أعضاء اللجنة. ويجب ان تكون اللجنة مستقلة ولها القدرة على تعيين مستشارين لها، وموظفين فنيين للمساعدة في المسائل اللوجستية مثل تجهيز الاجتماعات والمطبوعات والاعلام، وأن تكون لها القدرة على جذب الخبراء الأجانب. وعلى اللجنة أن تتبنى اجراءات داخلية تحكم عملها طبقاً لما نص عليه قانون المؤتمر. من واجبات اللجنة كذلك ان تقوم بإعداد الجلسات التعليمية وتنظيم ورش التدريب لأعضائها والمتطوعين حول العملية الدستورية التي ستتبع والواجبات التي تنتظرهم. وعليها ان تنظم اجتماعات لمجموعات العمل، وجلسات الحوار العامة، وان يتم ذلك في مختلف انحاء السودان للتأكيد على تفهم الجمهور واستيعابه للعملية الدستورية بتفاصيلها.
إن الواجب الأساسي للجنة إعداد الدستور هو صياغة مسودة الدستور في صورتها الأولى وتقديمها للمؤتمر القومي الدستوري. وعلى اللجنة ان تستند في عملها على دستور عام 2005 الانتقالي الذي فرضته اتفاقية السلام الشامل كورقة عمل أساسية لعملها، وذلك لأن الدستور الانتقالي لسنة 2005 يبدو الوثيقة الأكثر تقدماً والتي حظيت بشعبية واسعة. وظل هذا الدستور من الناحية العملية هو المطبق الى الآن في السودان بعد أن ادخلت عليه تعديلات بعد استقلال جنوب السودان. وعلى اللجنة أن تنظر في الدساتير السابقة ولكن يجب ألا تتقيد بها.
على اللجنة أن تعمل على استطلاع الآراء وأن تحدد نقاط الاتفاق والاختلاف، وأن تجري المشورة اللازمة وأن تشجع على الآراء المكتوبة التي تودع لديها من مختلف الأحزاب والحركات المسلحة والتنظيمات الاجتماعية، والمجموعات الدينية، والنساء ومنظمات الشباب، ومنظمات المجتمع المدني الأخرى. في هذا السياق، يجب أن تتمتع اللجنة بالحرية التامة في عملها لاستطلاع الآراء والصياغة. وعليها دراسة تجارب العالم المختلفة خاصة في الدول التي تشبه السودان في افريقيا واستراليا والولايات المتحدة. في ختام عملها يجب أن تعد اللجنة مسودة الدستور في خلال الفترة الزمنية التي حددها قانون المؤتمر. في أثناء هذه الفترة يجب على اللجنة أن تنظم المؤتمرات المتخصصة، وورش العمل واجتماعات المدن والاحياء لضمان استيعاب وتفاعل الجمهور مع العملية الدستورية وزيادة وعيهم بمسودة الدستور قيد المداولات.
ينبغي على لجنة اعداد الدستور ان تعرض مسودة الدستور على مجموعة مختارة من الأحزاب السياسية الرئيسية والحركات المسلحة للتداول وإبداء الرأي، وذلك لضمان مشاركة أصحاب المصلحة الرئيسيين في المراحل الأولية لصناعة الدستور حيث من المهم معرفة آرائهم في هذه المرحلة المبكرة. ويجب على اللجنة تضمين هذه الملاحظات والآراء في مسودة الدستور الثانية. بعد هذه المرحلة تقوم اللجنة بنشر مسودة الدستور من خلال اجهزة الاعلام المختلفة، وتقديم الشروحات حوله للجمهور عبر البرامج التعليمية المختلفة.
ثالثاً: مؤتمرات المحافظات ومؤتمرات الأقاليم:
إن استطلاع آراء الشعب السوداني حول الدستور وضمان مشاركته لا يمكن أن يتم بصورة كافية الا عبر تنظيم المؤتمرات الدستورية للمحافظات والأقاليم. على لجنة اعداد الدستور ايداع مسودة الدستور لمؤتمرات المحافظات والأقاليم بحسب الحال للتداول والتشاور حوله والمشاركة في صياغته. إن المشاركة الشعبية في هذه المرحلة من شأنها أن تساهم في زيادة الوعي بالعملية الدستورية واضفاء الشرعية عليها. ينبغي تصميم مؤتمرات المحافظات والأقاليم بشكل جيد بحيث تضمن أكبر قدر من المشاركة والمشورة. ويحدد قانون المؤتمر طريقة تشكيل هذه المؤتمرات وقواعد التمثيل، وانتخاب واختيار المناديب لها، والمهام الموكولة لها، وسلطاتها، واجراءات المداولات داخلها.
تتكون عضوية مؤتمرات المحافظات من المناديب الذين يتم انتخابهم محلياً على أسس غير حزبية بصفة خاصة لهذا الغرض. ويمكن اختيار أعضاء آخرين لتمثيل المجموعات العرقية والدينية الخاصة في كل محافظة، كما يجب اختيار احتياطي للمناديب. ويجب أن يتمتع العضو بالمعرفة والخبرة وان يكون حسن السيرة والسمعة. إن الغرض الرئيسي من مؤتمرات المحافظات هو ضمان تحقيق المشاركة الشعبية الواسعة في صناعة الدستور. ويجب ان تقوم لجنة صياغة الدستور بالإشراف على قيام هذه المؤتمرات. وينبغي على أعضاء هذه المؤتمرات ان يتحدثوا نيابة عن شعبهم وأن يتداولوا حول مسودة الدستور فقرة فقرة بكل حرية. وينبغي ان تكون هذه المؤتمرات لفترة محدودة، على أن ترسل نتائجها الى مؤتمرات الأقاليم. في النهاية تقوم مؤتمرات المحافظات بانتخاب مناديب المحافظة لمؤتمر الإقليم.
تتكون مؤتمرات الأقاليم من المناديب الذين تم اختيارهم من مؤتمرات المحافظات التابعة للإقليم، بالإضافة الى بعض الأعضاء الذين يمثلون الأحزاب السياسية والحركات المسلحة والنقابات المهنية والمجموعات العرقية والدينية في كل اقليم. إن العلة في تنظيم هذه المؤتمرات هو ضمان مشاركة الاقاليم في العملية الدستورية. تقوم مؤتمرات الاقاليم بالتداول حول مسودة الدستور التي أودعتها لجنة صياغة الدستور. ويجب ان تركز المداولات في هذه المرحلة على عكس رغبات وطموحات شعوب هذه الاقاليم حول الدستور الدائم. ويمثل كل مؤتمر اقليمي ذلك الاقليم حيث يقوم المناديب بمناقشة القضايا التي تهمهم معاً. ويتوقع ان يقوم الاعضاء بالتعبير عما يرغبون رؤيته في الدستور. في هذا الاتجاه تقوم لجنة اعداد الدستور بالتفاوض مع كل مؤتمر اقليمي على حدة حول مسودة الدستور. وبعد استلام وجهة نظر هذه المؤتمرات وآرائها وملاحظاتها تقوم لجنة اعداد الدستور بتضمينها في مسودة الدستور، وأن تعمل على حل أي خلافات، حتى تصل الى مسودة نهائية يتم ايداعها للمؤتمر القومي الدستوري. من الضروري هنا أن يقدم كل اقليم خطته الدستورية باسمه حول نظام الحكم الذي يرغب فيه وتقديمها للمؤتمر القومي الدستوري للتفاوض حولها. في النهاية تقوم مؤتمرات الاقاليم بانتخاب مناديبها الذين سيمثلون الاقليم في المؤتمر القومي الدستوري. ويحدد قانون المؤتمر الدستوري نصيب كل اقليم من المناديب حسب حجم الاقليم السكاني. هنا تنتهي مهمة لجنة اعداد الدستور حيث تتحول الى لجنة استشارية فقط لرئاسة المؤتمر القومي الدستوري.
رابعاً: المؤتمر القومي الدستوري:
كما فصلنا أعلاه، إن المطالبة بعقد مؤتمر قومي دستوري ظهرت كآلية قابلة للتطبيق لحل كافة القضايا المصيرية التي تواجه السودان بما فيها الدستور الدائم. وتتفق جميع القوى السياسية الآن على فكرة عقد مؤتمر قومي دستوري لحل هذه القضايا وتبني الدستور الدائم. وعلى الرغم من هذا الاجماع إلا أن الأحزاب تختلف في الطريقة التي ينظم بها المؤتمر الدستوري وهياكله والاجراءات المتبعة لإجازة الدستور الدائم.
اذا قدر لدولة السودان أن يكون لها دستور دائم، إذن فليكتبه جميع السودانيون. يجب ألا تقوم الحكومة بفرض دستور على الشعب، كما يجب ألا يعتبر الدستور نصراً لفريق أو حزب، وذلك لأن الدستور يتطلب مشاركة شعبية واسعة ورؤية حديثة للدولة. يجب أن تكون عضوية المؤتمر القومي الدستوري للأشخاص الذي يتمتعون بثقة مواطنيهم، الوطنيين الغيورين الذي بذلوا حياتهم من أجل رفعة السودان، الذين يتمتعون بقلوب نظيفة خالية من أي أحقاد و لا تسيطر عليهم أي أفكار مسبقة، رجال ونساء الدولة الأذكياء الذين لهم القدرة على الخلق والابداع، والذين لهم الخبرة والمعرفة الدستورية المطلوبة لبناء الدول. ويجب أن يكون مفهوماً أن عضوية المؤتمر القومي الدستوري هي واجب وطني ومسؤولية تتطلب أناس ذو عقول جادة لهم الرغبة في العطاء والمساهمة في المداولات.
يجب أن تكون عضوية المؤتمر القومي الدستوري مفتوحة للجميع وألا تكون محصورة على الأحزاب والتنافس السياسي. إن الهدف من وراء عقد المؤتمر الدستوري هو ضمان اكبر مشاركة شعبية في العملية الدستورية من القوى الأساسية "أصحاب المصلحة" مثل ممثلو الأقاليم، الأحزاب السياسية، الحركات المسلحة، النقابات المهنية، القوات المسلحة، الفئات الاجتماعية والمجموعات الدينية، النساء والشباب ومنظمات المجتمع المدني. يجب ألا يتم استثناء أو عزل أي مجموعة. إن المشاركة الشاملة من شأنها أن تضمن دستوراً قومياً يرضي جميع الأطراف، ويضمن له الاحترام والديمومة. كما أسلفنا يتكون المؤتمر القومي الدستوري من المناديب الذين يتم انتخابهم خصيصاً لهذا الغرض من خلال المؤتمرات الاقليمية التي تنظم على مستوى السودان، اضافة الى أعضاء يتم اختيارهم كمراقبين.
على المؤتمر أن ينتخب رئيساً ونائباً للرئيس وسكرتير ومتحدث رسمي من بين الأعضاء. ويقوم رئيس المؤتمر بتعيين سكرتارية لتقديم الدعم الاداري للمؤتمر تكون مسؤولة عن ترتيب أعمال المؤتمر اليومية وتنسيق الأوراق والتقارير، وتسجيل الجلسات والمداولات والمحافظة على السجلات، وطباعة ونشر قرارات المؤتمر. ويجب ان يكون لسكرتير المؤتمر نائبين يساعدان في هذه المهام. ومن ناحية أخرى يجب على المؤتمر أن يستعين بخبراء محليين كما له الحق في تعيين خبراء أجانب متخصصين في صناعة الدساتير.
ينظم القانون المؤتمر القومي الدستوري كمنصة لمناقشة مسودة الدستور المقدمة بواسطة لجنة صياغة الدستور والتداول حولها. إن مهمة المؤتمر الأساسية هي التداول حول مواد مسودة الدستور والتقارير المرفقة معها بالتفصيل، وتبني وثيقة الدستور، ثم عرضها على الاستفتاء الشعبي العام. هنالك العديد من القضايا الاساسية التي تنتظر أن يحلها المؤتمر القومي الدستوري. وتتمثل هذه القضايا في نظام الحكم، وقضايا التهميش، هوية الدولة، حقوق الانسان الاساسية والمدنية. إن الهدف من تنظيم المؤتمر القومي الدستوري يكمن في تسهيل الوصول الى اتفاق وتسوية سياسية-دستورية حول هذه القضايا المصيرية. أثبت التاريخ إن عدم الوصول الى اتفاق بين أعضاء المؤتمر حول هذه القضايا يعني استمرار الأزمة السودانية. كذلك على المؤتمر تأسيس عدد من المفوضيات الدستورية المهمة مثل مفوضية حقوق الانسان، مفوضية الانتخابات، ومفوضية الفدرالية وغيرها.
على المؤتمر الاسترشاد بتجارب الدول التي يشبه واقعها السودان مثل استراليا وكندا والولايات المتحدة، حيث تم اتباع المدخل الاقليمي لتبني الدستور. في حالة استراليا تم صياغة مسودة الدستور بواسطة لجان تمثل المستعمرات الستة ونيوزيلاندا، وبعدها تم تبني النسخة النهائية بواسطة مؤتمر ضم ممثلي الولايات الستة الذين تم انتخابهم خصيصاً لهذا الغرض. وفي حالة الولايات المتحدة الامريكية تمت صياغة وتبني مسودة الدستور بواسطة ممثلو الولايات الثلاثة عشر التي كانت تكون الاتحاد الامريكي وقتها. وقد تم الوصول الى الاتفاق على الدستور عن طريق التفاوض والتسوية بين الولايات.
من المتوقع أن يقوم أعضاء المؤتمر بالانخراط بنشاط وحرية في المداولات حول وثيقة الدستور دون أي ضغط من مواطنيهم أو من قبل الحكومة. ويجب ان يعقد المؤتمر جلساته علناً وبشفافية، وأن يتخذ قراراته بالإجماع، وفي حالة غياب الاجماع فإن القرارات التي تخص المبادئ العامة للدستور فيتم حسمها بأغلبية ثلثي أصوات أعضاء المؤتمر. أما القرارات المتعلقة بنظام الحكم وتقسيم السلطة فيجب حسمها بأغلبية ثلثي أصوات أعضاء المؤتمر اضافة الى توفر أغلبية الأقاليم لصالحها. ويجب أن تتم عملية التصويت بسرية تامة. وعلى المؤتمر أن يقوم بنشر مداولاته واتاحة سجلاته للجميع عبر الوسائل المطبوعة أو الالكترونية. في النهاية يقوم المؤتمر بتقديم وثيقة الدستور في شكلها النهائي لرئيس مفوضية الانتخابات لعرضها لاستفتاء شعبي عام من شأنه اجازتها وتبنيها أو رفضها.
يتم تقسيم أعمال المؤتمر القومي الدستوري الى قسمين أو مرحلتين: في المرحلة الأولى تناقش وتتداول حول المبادئ العامة للدستور، قضية هوية الدولة، وثيقة حقوق الانسان، السلطات الثلاث وهياكلها: السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، والفصل بينها عبر نظام للضبط والاتزان الذي يضمن عدم تغوّل أي فرع على الآخر. وتعتبر المرحلة الثانية من أعمال المؤتمر هي أهم مرحلة وأكثرها اثارة للنزاع حيث تركز على نظام الحكم. أهم سؤال يواجه السودانيين هو كيف يحكم السودان؟ وقد عانت الأقاليم السودانية من التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي على مر التاريخ. ويؤكد انتشار الحروب الأهلية في البلاد على أن لا أحد راضي بهذه الوحدة في شكلها الحالي وبالسياسات غير العادلة. نتيجة لذلك انفصل جنوب السودان في عام 2011 ، ودارفور وجبال النوبة غير محصنتا من ذلك.
رغم استمرار الحروب الدموية في السودان، إلا أن القوى الاقليمية لم يتم أخذ موافقتها في شكل ونوع هذه الوحدة والنظام السياسي الذي يفضلونه. هذه المرة، يجب أخذ موافقة هذه الأقاليم للعيش في وحدة طوعية في دولة موحدة قوية. يجب أن تأتي الوحدة من جميع الأقاليم السودانية، وأن الاقتراب من هذه الوحدة يجب ان يكون اقليمياً. يجب أن تتوقف النخب السياسية في الخرطوم عن فرض الوحدة بهذه الطريقة، اذ لا يمكن الحديث عن الوحدة الطوعية دون أخذ موافقة ممثلي الأقاليم التي تشكل السودان. في هذه المرحلة من المؤتمر سيجد ممثلو الاقاليم لأول مرة الفرصة لاختبار الوحدة الحالية ونظام الحكم. إن الوحدة يصنعها الناس الذين يدركون ان مبادئهم ومستقبلهم وبقائهم وآمالهم وتطلعاتهم لا يمكن تحقيقها إلا عبر الاتحاد. على ممثلي الأقاليم في المؤتمر أن يعبروا عن قناعتهم صراحة وعن مقاصدهم وتأكيد رغبتهم للعيش معاً في دولة موحدة قوية، وأن يختاروا نوع الوحدة التي يرغبون فيها. إن الوحدة الوطنية تؤسس على الحق الديمقراطي الأصيل للأقاليم في مناقشة وتقرير مصائرهم.
في هذا السياق، فإن المرحلة الثانية من المؤتمر تمثل منصة الرسم لممثلي الاقاليم للتداول حول مستقبل السودان كدولة موحدة وللاتفاق على نظام الحكم. سيكون نظام جلوس الأعضاء في هذه المرحلة من المؤتمر على أساس إقليمي، حيث يجلس ممثلو كل اقليم في شكل كتلة واحدة، يمثلون تجمع اقليمي Caucus ويكون لهم صوت واحد يمثل صوت الاقليم. لتسهيل هذه العملية يقوم كل تجمع اقليمي بتعيين سكرتير ليكون مسؤولاً عن تنظيم مجموعته ومتحدثاً رسمياً بإسمها في قاعة المؤتمر. يمثل المؤتمر في هذه المرحلة منتدى تمثيلي للنقاش والمداولة حول القضايا الأساسية التي تواجه الدولة مثل الوحدة الطوعية العادلة، قضايا التهميش واعادة هيكلة الدولة على أسس جديدة، نظام الحكم واقتسام السلطة والثروة والعلاقات المالية بين المركز والاقاليم. في هذه المرحلة سيقوم ممثلو الاقاليم بعكس آراء مواطني أقاليمهم الذين يتحدثون بالإنابة عنهم.
تأمل الأقاليم السودانية دائماً في أن تحكم نفسها بنفسها. يتكون سودان اليوم من ستة أقاليم، تم تجميعها مع بعض بواسطة الحكم التركي في نهاية القرن التاسع عشر. و يمثل كل اقليم من هذه الاقاليم وحدة جغرافية وثقافية وسكانية واثنية متميزة. كانت المحاولات السابقة للحكم الاقليمي تمثل نوعاً ضعيفاً من الفيدرالية، التي تم افسادها بالتدخل المستمر من الحكومة المركزية ومحاولاتها لاحتكار السلطة. جرّب السودان نظاماً شبه فيدرالياً في ثمانينات القرن الماضي حيث كان يتم انتخاب حكام الأقاليم ومجالس الشعب الاقليمية. حدد قانون الحكم الاقليمي لسنة 1980 سلطات حكومات الاقاليم وسلطات الحاكم ومجلس الشعب الاقليمي. وطبقاً لهذا القانون، فقد تم تقسيم السودان الى سبعة أقاليم، لكل اقليم حاكم ومجلس شعب منتخبين. لم يقدر لهذه التجربة ان تستمر طويلاً أو تتطور. وفي عام 1994 قام الرئيس البشير بتطبيق ما يسمى "الحكم الاتحادي" الحالي، حيث تم تقسيم السودان الى ست وعشرين ولاية، لكل ولاية مجلس شعب و والي. و يتم تعيين جميع ولاة الولايات بقرار من الرئيس ولم يسمح بإجراء أي انتخابات اقليمية. عموماً، لم يتم وضع هاتين التجربتين في الدستور مطلقاً.
الآن يوجد اتفاق وسط القوى السياسية والاقليمية حول ضرورة أن يحكم السودان كدولة فيدرالية. وتعتبر الاقليمية إحدى أوجه الفيدرالية. على المؤتمر أن يناقش ويتداول حول الفيدرالية باعتبارها الوصفة المفضلة لحكم السودان. من الضروري أن يقر المؤتمر الدستوري السودان كدولة فيدرالية تتكون من ستة أقاليم. ويجب ان يختلف هذا النظام جذرياً من نظام الحكم الاقليمي الذي طبق في الثمانينات ومن نظام الحكم الاتحادي المطبق الآن.
لذلك، على المؤتمر أن يقوم بمهمة اعادة هيكلة الدولة السودانية ونظام الحكم على أسس جديدة. وتعتبر مسألة توزيع السلطات من القضايا المركزية في هذا الموضوع، حيث يجب على المؤتمر أن يحدد العلاقة بين الحكومة المركزية والأقاليم بالتفصيل، وأن يحدد مستويات الحكم في الدولة، والسلطات المحددة لكل مستوى. للوصول لهذا الهدف، على أعضاء المؤتمر التداول والتفاوض وعمل التسويات في جميع المسائل المتعلقة بنظام الحكم وتوزيع السلطات. على مناديب الاقاليم أعضاء المؤتمر أن يحملوا معهم خطة اقليمهم ورؤيتهم لنظام الحكم ليتفاوضوا حولها مع بقية ممثلي الأقاليم الاخرى داخل قاعة المؤتمر للوصول الى نظام متفق عليه من الجميع.
إن النظام الفيدرالي الذي ينشده السودانيون هو نظام يسمح بتوزيع السلطات على مستويات الحكم المختلفة بحيث تسود الحكومة الفيدرالية في المسائل السيادية، في حين تسود حكومات الأقاليم في مجال الخدمات. يجب ألا يكون في مقدور الحكومة الفيدرالية فصل أو تغيير حاكم الاقليم المنتخب أو أن تحل المجلس التشريعي للولاية. ومن جانب آخر يجب ألا يكون في مقدور حكومة الاقليم الغاء أي قانون فيدرالي أو مخالفته.
عند التداول حول الفيدرالية يجب على ممثلي الأقاليم أن يستصحبوا معهم الحقائق التاريخية التي شكلت تكوين السودان، وحقائق التنوع السكاني والجغرافي للأقاليم التي تكون السودان. تثبت جميع المحاولات السابقة أن الديمقراطية الاقليمية هي ضرورة تؤكدها هذه الحقائق. ويجب على ممثلي الاقاليم أن يضعوا في حسبانهم التاريخ الطويل للتهميش وانعدام العدالة التي عانت منها الاقاليم.
في نهاية المداولات بعد الوصول الى التسويات والتنازلات حول جميع القضايا المتعلقة بنظام الحكم، يقوم ممثلو الاقاليم بصياغة وتبني الوثيقة الفيدرالية التي ستخلق حكومة فيدرالية متفق عليها، وتعمل على حل القضايا المصيرية السودانية. على الوثيقة الفيدرالية أن تعكس طموحات وآمال مواطني الأقاليم السودانية حول مستقبل السودان. وعليها أن تؤكد على رغبة الاقاليم في العيش المشترك في ظل دولة سودانية جديدة موحدة قوية وديمقراطية على أسس الفيدرالية، والعدالة والمساواة والكرامة. تمثل الوثيقة الفيدرالية الصيغة النهائية لاتحاد الأقاليم، وتبشر بميلاد سودان فيدرالي جديد. يجب أن تنص الوثيقة الفيدرالية بكل وضوح على السلطات التي يجب أن تتمتع بها الحكومة الفيدرالية، وفي المقابل تحديد الحريات التي تتمتع بها الولايات والأفراد. تعتبر الوثيقة الفيدرالية الوثيقة الأعلى والموجهة لتطبيق الفيدرالية في السودان. كما تؤكد الوثيقة الفيدرالية على أن نظام الحكم والمؤسسات الديمقراطية لا تعمل بشكل مطلق دون تطويرها عبر المراجعة الدورية المستمرة. تشكل الوثيقة الفيدرالية جزءً لا يتجزأ من الدستور الدائم الذي سيقره المؤتمر القومي الدستوري قبل عرضه للاستفتاء العام.
الدستور هو الوثيقة الشعبية الأعلى للدولة التي تعكس القيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية للدولة والشعب، كما تعكس طموحات الشعب وآماله. لذا، يجب أن يؤسس الدستور القادم الوحدة الطوعية العادلة، وأن يضمن حماية الحريات، وأن يعمل على تحقيق التغيير الديمقراطي ونقل الدولة من حالة عدم الاستقرار الدستوري وحالة الدولة المؤقتة الضعيفة التي ورثها السودان الى الدولة الدستورية الديمقراطية حيث يكون الشعب هو المصدر الأول للسلطات. ويجب أن يعمل الدستور الدائم على تكوين المؤسسات الديمقراطية التي تمنع الاحتكار السياسي. كما يجب أن يعمل الدستور على اعادة هيكلة الدولة على أسس جديدة وأن يوفر الحماية اللازمة للسلطات الممنوحة لحكومات الأقاليم.
يجب أن يؤكد الدستور أن المواطنة هي المصدر الأساسي للحقوق المدنية والسياسية المتساوية لجميع السودانيين. كذلك يجب أن يعمل الدستور على الحماية المتساوية للأقليات العرقية. وعلى الدستور أن يعمل على تطوير التنمية والحكم الرشيد ودولة المواطنة تحت سيادة حكم القانون، وأن يؤكد على دور المحكمة العليا الأصيل في حراسة الدستور. ويجب أن يؤسس الدستور على مبادئ الفصل بين السلطات وأن يعمل على منع تركيز السلطات في فرع واحد من فروع الحكومة. وأخيراً، يجب أن ينص الدستور على طريقة واجراءات تعديله.
هناك عدد من المبادئ الدستورية التي يجب توافرها في الدستور مثل وثيقة حقوق الانسان، والعدالة الاجتماعية، الحماية المتساوية، عدم التمييز، التعددية الحزبية، التمييز الايجابي للمناطق المهمشة، حكم القانون، الشفافية، مبدأ المحاسبة، الفيدرالية، الوحدة الطوعية، الحكم الرشيد، التنمية المستدامة، احترام التنوع العرقي والثقافي والديني والاقليمي، اقتسام السلطة والثروة، حماية السلام، حقوق الانتخاب، المساواة بين الجنسين، التأكيد على سيادة الدستور، وعلى دور المحكمة العليا في حماية الدستور.
خامساً: الاستفتاء:
إن المصادقة على الدستور عبر الاستفتاء الشعبي العام هو الطريق الأكثر ديمقراطية. بعد الانتهاء من أعماله يقوم المؤتمر الدستوري بتسليم نسخة الدستور التي اعتمدها لرئيس مفوضية الانتخابات لعرضها على الاستفتاء العام الذي من شأنه المصادقة على الدستور أو رفضه. يقوم رئيس المؤتمر الدستوري بطباعة ونشر نسخ من مسودة الدستور التي اعتمدها المؤتمر الدستوري وتوزيعها في مختلف انحاء السودان. ويجب أن تقود سكرتارية المؤتمر ومفوضية الانتخابات تنظيم الجلسات التعليمية لشرح مواد الدستور في الفترة التي تسبق الاستفتاء. ينص قانون المؤتمر الدستوري على طريقة ووقت الاستفتاء. لكي يصبح الدستور مجازاً بالاستفتاء يجب أن يوافق عليه أغلبية السودانيين وفي نفس الوقت يجب أن توافق عليه أغلبية الأقاليم السودانية. هذه الأغلبية المزدوجة من شأنها أن تضمن موافقة على نطاق أوسع وتحافظ على ديمومة الدستور.
تتولى مفوضية الانتخابات مهمة اجراء عملية الاستفتاء. وعليها أن تقرر في الطريقة المتبعة، واختيار العلامات التي ستستخدم في بطاقة الاستفتاء، وتصميم البطاقات، والاشراف على عملية التصويت، وعد الاصوات. اذا حصل الدستور على الأغلبية المطلوبة في الاستفتاء فانه يصبح الدستور الدائم لجمهورية السودان الذي سيقوم الرئيس بإصداره. واذا لم تحرز مسودة الدستور الأغلبية المطلوبة حسب القانون، في هذه الحالة يجتمع رئيس المؤتمر وسكرتارية المؤتمر ولجنة اعداد الدستور والمستشارين للاتفاق على طريقة أخرى لصناعة الدستور.
خاتمة:
منذ الاستقلال دخل السودان في العديد من المحاولات الفاشلة لتبني دستور دائم، وترتبط الأزمة السودانية الحالية ارتباطاً كبيراً بهذا الفشل. تم حكم السودان بواسطة عدد من الدساتير المؤقتة، ونتيجة لهذا الفشل الدستوري الذي استمر لعقود، دخل السودان في حروب أهلية مع أقاليمه المختلفة. وكان فشل الجمعية التأسيسية المستمر في اصدار دستور دائم للبلاد علامة بارز في تاريخ السودان. وظلت الطرق والاجراءات المتبعة في صناعة الدستور دائماً حكراً على النخب، ولا تمثل التنوع الجغرافي والعرقي في السودان. الآن تشكلت قناعة لدى الحكومة والمعارضة بأهمية الدستور الدائم، لذلك تكتسب عملية صناعة الدستور أهمية قصوى.
تقترح الورقة مغادرة تجارب الماضي الفاشلة في صناعة الدستور مغادرة تامة وعدم تكرارها. لذلك هدفت الورقة الى تقديم عملية دستورية شاملة تضمن مشاركة شعبية واسعة وتمنع احتكار العملية بواسطة قوى معينة. وبشكل محدد، تقترح الورقة عقد المؤتمر الدستوري كآلية قابلة للتطبيق لحل كافة قضايا السودان المصيرية واجازة الدستور الدائم. وبصورة أكثر تحديداً، فصلت الورقة الخطوات التي يجب اتباعها لعقد وتنظيم المؤتمر الدستوري. وتنحصر مهمة المؤتمر الدستوري في مناقشة ومداولة القضايا المصيرية مثل المواطنة وهوية الدولة، قضايا التهميش، الوحدة الطوعية العادلة، هيكلة الدولة على أسس جديد، الفيدرالية، توزيع السلطات بين المركز والاقاليم، اقتسام الثروة، والعلاقات المالية بين الأقاليم والمركز، حماية الأقليات، وثيقة حقوق الانسان، سيادة حكم القانون، وبشكل عام الاجابة على سؤال كيف يحكم السودان.
*حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمؤلف.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.