بعد ستين عاماً من الحكم التركي والمتورك ، كانت المرارات والثارات قد جمّعت في الصدور سحبها واصبحت على حافة الإنهمار .. لم يكن الحكم التركي إستعماراً بمعنى الكلمة – ففي الإستعمار شيء من الإعمار – بل كان نهباً بقوة البارود . لم يكن في ذهن الخديوي مشروعاً لإعمار أوإصلاح فقد كان الباشا نفسه أمياً – حتى سن الأربعين ؛ على قول ألن موورهيد – مبهوراً بزخارف الحضارة الأوربية التي شاهد بعضاً منها فيما تبقى من حملة نابليون ، كان همه المال والرجال ليبني إمبراطورية وهمية . وجد ضالته في السودان الذي كان مجموعة متناحرة من القبائل والممالك المتهاوية ورأي في ذلك صيداً سهلاً ، ولم يكن يدري أن السودان هو السهل الممتنع ، فمن السهل أن تجتمع مجموعة مسلحة من المغامرين وتقوم باستلام زمام الأمر فيه : الغريبب أن هذا الأمر قد غاب عن أذهان الكثير من الأغبياء الذين حكموا والذين يتلهفون لحكمه ، وفاتهم أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل ان تحكم دون أن تحظى بحب أو على الأقل باحترام شعوبه إن لم تكن عادلاً نظيف اليد واللسان . حكم الأتراك وأزلامهم من حثالة أوربا وبعض القبائل السودانية المتفلتة بلاد السودان بالقوة الباطشة وادخلوا وسائل للتعذيب لم يألفها السودانيون – ادخلوا الفرّا والجلد والتشعيب والخازوق . وجعلوا من الخرطوم عاصمة بنوها على أنقاض آثار يعود تاريخها الى اكثر من عشرة آلاف سنة؛ فأصبحت ماخورا كبيراً يقوم مجتمعها على تجارة الرقيق والعاهرات والعاهرون والخمور حتى أصبح الناس يرددون مقولة أبونا العبيد ود بدر"ياقيوم ما أشوف الخرطوم" . في العام 1881 كان فجر الخلاص قد أشرق نوره في الآفاق ؛ فاجتمعت شلة من الرجال المؤمنين بالفوز والنجاة حول شيخهم "الإمام"، واعتصموا في الجزيرة أبا معلنين العصيان والتحدي ؛ أرسل إليهم نائب الحكمدار قيقلر –الساعاتي الألماني- والذي خلف غردون الذي كان قد التقاه في إحدى حانات شيلسي- حملة بقيادة تاجر الرقيق ابو السعود للقضاء عليهم ؛تمكنت الجماعة المؤمنة من مفاجأتهم والقضاء عليهم كان ذلك في أغسطس 1881 . أدرك المهدي أن الترك لن يسكتوا على ذلك فاتخذ طريق هجرته غرباً الى حليف له في جبال النوبة الشرقية .. كانت السفوح الشرقية لجبال النوبة الشامخة موطناً لقومها يرعون فيها بعض انعامهم ويزرعون فيها ما يكفي حاجتهم من عيش ودخن ولوبيا وغيرها . نشأت رابحة في وسط عشيرتها محبوبة لطيبتها وصفاء نفسها:" تعالي يا رابحة ، أمشي يارابحة ، البهايم يا رابحة ، جيبي الحطب ، نزلي العصيدة يارابحة".. كانت مطيعة هميمة، وكان جدها يرى فيها شيئاً من صلاح فطري . ذات ضحى وهي تهش على غنيماها قد رأت من بعيد أسفل الوادي رجالاً يحثون السير غرباً يتحركون ككتلة صماء لا يلتفتون كأنهم لا يرهبون شيئاً ملتفون حول إمام لهم يسيرون نحو هدف واحد . أسرعت رابحة وأخبرت جدها ، فقال لها لابد أن يكون هؤلاء المهدي وأنصاره ؛ فقد كانت أخبار إنتصاره قد طافت الآفاق وبلغت مسامع الناس. في ذلك الوقت كان راشد أيمن مدير فشودة قد جهّز حملة لمباغتة المهدي وجهزها من الجنود والعبيد يحملون بنادقهم ومدافعهم وجنازيرهم يرفلون في أزيائهم العسكرية وهي ملطخة بأبوالهم ودمائهم تحملها الريح العقيم أحست رابحة إحساساً قاطعاً بالخطر ، فأسرعت إلى جدها تخبره ، فقال لها "أجري حصلي الأنصار" . إنطلقت رابحة تجري وتجري ؛ لم تلفت لشوك أو شجر مكسور لم لتفت لسبع أو ضبع أو كدروك؛بل كانت الوحوش تنظر إليها باستغراب : ما هذا الكائن الذي يجري جرياً لم يعهدوه. يقول المؤرخون انها كانت تجري ثلاثة ايام بلياليها ، وصلت رابحة معسكر المهدي وأخبرتهم بنبأ الحملة ؛ استعد الأنصار وكمنوا لراشد وحملته وقضوا عليهم وكانت تلك بداية الهجوم على الترك وحامياتهم وتوافد السودانيون يبايعون المهدي حتى بالكذابة. عادت رابحة الى اهلها ترعى بهائمها وتحتطب كعادتها ؛ لم ترغب في هبة أو منحة فقد فعلت ما وجب فعله ، لكنها ربحت دخول التاريخ من باب النبل والفخار . وهكذا فإن أبواب التاريخ دائماً مشرعة للجميع فقط على المرء أن يختار بين باب المجد وبين باب المزابل . [email protected]