"من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يسألونك عن المهدية قل إنها الثورة حقاً ولكن
نشر في الراكوبة يوم 24 - 08 - 2014

بعض الناس يأتون بالخوارق والمعجزات، ويصنعون التاريخ من عدم، فينالوا الحب والإعجاب، والإحترام والتقدير، ويلتف الناس حولهم، فيتبعهم ويطييعهم البر والفاجر، العالم والجاهل، الصغير والكبير، والكل يفتديهم بنفسه وماله، وأهله وولده، ويفتح لهم التارخ صفحاته ليكتبهم في سفر الخلود،
والإمام المهدي أحد هؤلاء الأفذاذ. خرج من أهله وحيدا، وإرتحل بعيداً، وعاش غريبا، يطلب العلم، زاهدا يخلص العبادة لله ، لم يكن قبل ثورته المهدية زعيما تتبعه وتنصره قبيله، ولم يكن قبلها شيخا يلتف حوله الحيران والمريدين، إنما كان طالب علم، وحواراً مريداً لشيوخ عاش في كنفهم معظم حياته. فبعد أن حفظ القرآن فقد درس النحو والفقه والتوحيد، في مسيد ود عيسي بالجزيرة، لدي الشيخ الأمين الصويلح، ثم بخلاوي الغبش قرب بربر، لدي الشيخ محمد خير، ثم تتلمذ علي الأستاذ محمد شريف نور الدائم، حفيد الشيخ الطيب صاحب الطريقة السمانية في أم مرحي نحو عشرون عاما، ولما تخاصما إلتحق بالشيخ القرشي ودالزين شيخ الطريقة السمانية بالحلاويين بالجزيرة، وأقام عنده حيناً، وبالجزيرة أبا أحيانا،ً وبعد وفاة الشيخ القرشي إبتدأ دعوته المهدية بأنه المهدي المنتظر. وقد صار له قبلها بعض الأتباع والمريدين فقد إشتهر بصلاحه وزهده وتقواه، فكانت الناس تقصده بالجزيرة أبا للتبرك به وليدعوا الله لهم بما همهم
بالرغم من أن حياة المهدي لم تدم أكثر من أربع سنوات، منذ إبتداء دعوته وثورته المهدية لحين وفاته، إلا أن شهرته طبقت الآفاق، وإجتمع حوله مئات الآلاف من الناس، وبايعته الملايين، في عهد ليس فيه لا صحافة ولا إعلام، ولا إذاعة ولا تلفزيون، وكانت وسيلة الإتصال الجماهيري الوحيدة حداث يكلم حداث، وأن ينقل الأخبار من لا يعتاش عليها، ومن لم يوظف لنشرها، وإنتشر خبر الدعوة والداعية، الذي كان مبتداه داعيا لمهديته سراً في 29/6/ 1881 م وتوفي يوم 22/6/ 1885 م بعد فتح الخرطوم بأربعة أشهر وقد أكمل تحرير بلاده وإن لم تطول حياته ليكمل ترتيب دولته، ولم يجاوز عمره 42 عاما، قضي معظمه منقطعا للعلم والعبادة، وقد أجمع الناس، شيوخا وأتباع، علي ورعه وزهده وتقواه. وقد كان مولده في جزيرة لبب قرب دنقلا سنة 1843 م لأسرة تنتسب للأشراف أحفاد الرسول (ص) من أحفاد فاطمة الزهراء وعلي بن طالب رضي الله عنهما
سريعا إنتقلت الدعوة من السر الي العلن، وشاع أمرها بين الناس حتي وصلت الحكام، وكان المهدي وقتها بالجزيرة أبا، التي كان قد هاجر اليها مع إخوته، بسبب عملهم لا بسبب دعوته، وقد إجتمع عليه بعض المريدين والأتباع والتلاميذ، فكاتب الشيوخ والعلماء والزعماء أنه المهدي المنتظر، إلا أن تصديقهم تأخر، ولكن من العامة من صدق به. .فأرسلت الحكومة تستدعيه وقد شغلها أمر الدعوة، وهمها وأقلقها أمر الداعية، فعصي أمرها، ولم يلبي طلبها، وأبي الذهاب إليها، فأرسلت قوة للقبض عليه ومن كان معه من أتباعه، فكانت تلك أولي معاركه ضد الحكم التركي المصري، ولكن تمكن المهدي من القضاء علي الحملة المرسلة للقبض عليه وأتباعه، فقتل معظم جنودها وغنم أسلحتها؛ وكان ذلك في 12 أغسطس 1881 م ولكنه علم أن أبا لم تعد داراً آمنة، وحتما ستعمل الحكومة للقضاء عليه، ثأراً لمن قتل، وإنتقاماً وعقاباً علي ما صنع، وتخلصاً من دعواه، وعبرة لسواه .
فكانت الهجرة أمراً لا بد منه، فقصد المهدي جبل قدير والحكومة تلاحقه، وقد عد أصحابه نصره علي الحكومة في أبا من كرامات الصالحين. كما كان نصره الثاني في أُولي وقائعه في قدير، وهي معركة راشد بك التي جرت في 28/12/ 1881 م كرامة أخري، ودليل آخر أنه المهدي المنتظر، وأنه ينصر بالقليل، ويعود فضل النصر فيها بعد الله لرابحة الكنانية التي نقلت خبر الحملة للمهدي، فقد وصلت الليل بالنهار سيرا لتسبقها، ومكنت المهدي من مفاجأة راشد بك بدل أن يفاجأ به، وقتل فيها راشد بك وجنده، وغنم الأنصار مؤنه وماله وعتاده، وكانوا في ضنك وحاجة فكانت الغنائم رزق ساقه الله اليهم، وأصبحت الكرامة كرامتين. وكانت الثالثة عندما وقعت بعدها معركة الشلالي التي إستعدت لها الحكومة بالعتاد والسلاح، والجنود المجندة المدربة، وسلحتهم بالبنادق والمدافع والصواريخ. والمهدي وصحبه سلاحهم السيوف والحراب. وحتي البنادق التي غنموها لم يألفوها ولم يستعملوها ففي فجر 29/5/1882 م صنع المهدي نصرا جديدا، وأضاف الي كراماته معجزة، فقد هزمت الإرادة والعزيمة القوة القاشمة، وأخرست السيوف البنادق والمدافع. والغريب كانت خسائر الأنصار دوما في حدها الأدني، قتلوا الشلالي والآلاف الكثيرة من جنوده المسلحين المدربين، وخسارة الأنصار لم تزد علي مئتي شهيد، وغنم المهدي آلاف البنادق والمدافع، وأطنان الذخائر والأزواد، والأموال والدواب، وقد كانت ناقلات ذلك الزمان، فهي من تحمل الجنود وعدتهم وعتادهم، وفيها الحمير والخيول والبقال والجمال.
وكان النصر نقطة تحول نقلت المهدي من مطارد ومدافع لمهاجم، وقد طبقت شهرته الآفاق، وشاع وذاع أمره بين الناس ليعم السودان، أنه المهدي المنتظر من كذبه كفر، ومن حاربه خسر، ومن لم يبايعه أصبح في خطر، ماله غنيمة ودمهُ هدر. فهاجر الناس اليه بعشرات الآلاف حتي ضاق بهم قدير، فعزم المهدي المسير بهم الي مكان أرحب، فخرج في 28/7/1882 م غازيا الأبيض، يرجو دخولها وفتحها بحد السيف، ولكنها إستعصت عليه، فرجع عنها وقد قتل الآلاف من أتباعه، وإستشهد إثنان من إخوته وبعض أشراف أنصاره، وطعنت في صدق مقولة أنه لا يهزم. وكان حتي ذلك الوقت سلاحه السيف والحربة ولكن خندق الأبيض وحصنها حيدتها، وحالت بينه وبين جندها، وحبسته وجنده خارج المدينة، تدكه مدافع الحامية، ويحصد رصاص جندها أرواح أنصاره؛ ورماح صحبه وحرابهم وسيوفهم لا تطول شيئا. فكانت وقعة الأبيض في 8 سبتمبر 1882م هزيمة قاسية للمهدي، ولكنها علمته درسا مهما في المعارك والحروب، أدرك بعده المهدي أنه مثلما لكل مقام مقال، فلكل ميدان سلاح، فما يصلح لمعركة قد لا يصلح لسواها؛ فحتي البنادق مذودة بنصال تكون عند الإلتحام هي مايعول عليه لا الرصاص، وأن السيوف والرماح تذهب ببأسها الخنادق والمسافة والحصون، فتصبح بلا فائدة وأن الأسلحة النارية لا بديل عنها أحياناً. فأرسل لقدير من يأتيه بالأسلحة النارية التي تركها هناك، ظناً بعدم حاجته اليها، وعدل عن إقتحام الأبيض لمحاصرتها، وإنتقل المهدي سريعا لحصارها، والتضييق عليها حتي إستسلمت له في 19 يناير 1883م، وقد سبقتها بارا، ولحقتها دارفور .
عند ذلك أصبح للمهدي دولة لها أرض وشعب، وسلاح وجند. وأصبحت المهدية قوة عظيمة، تخشاها حكومة الخرطوم التركية المصرية، وتهفوا نفوس السودانيين في طول البلاد وعرضها للإلتحاق بها ومبايعة إمامها المنصور، فسكنت القلوب والألباب، وملكت الحناجر والمشاعر، وإزداد المهدي قناعة أنه منصور لا محاله، وخصمه مقهور مدحور مهما أعد وإستعد للقائه، وكان ذلك ما يراه صحبه وتابعيه. ولكن أم معارك المهدية وفصل الخطاب فيها كان معركة شيكان، وما أدراك ماشيكان.
هدمت هذه المعركة التي لم تدم أكثر من ساعة أو ساعتين، كل نظريات الحرب، وتخطت المعقول الي اللامعقول، وما يصدق لما يصعب تصديقه، فقد إستعد الحلفاء لهذه المعركة جيداً، وقد أخذوا وقتهم في تجهيز وإعداد كل مطلوبات النصر. فندبوا من القادة من شهدت لهم ساحات المعارك بالتميز وحسن التصرف والعزيمة، من خريجي كليات الحرب البريطانية والأوربية، وعلي رأسهم هكس باشا، وكثير من الضباط الإنجليز والمصريين، وجندوا لها آلاف المقاتلين المدربين، وسلحوهم بآخر ما أنتجته أوربا من أسلحة القتال، وأدوات الدمار، فإختاروا لها أفضل الأسلحة وأفتكها، وفوق ذلك ذودوهم بحاجتهم وذيادة من الزاد والعتاد، وأرسلوهم من بريطانيا ومصر خصوصا للقضاء علي المهدي والمهدية وهم موقنون بالنصر. ولتصور ضخامة الحملة لك أن تعلم أنه يحمل عتادها وبعض جنودها 5500 جمل و5000 فرس و10,000 حمار و3000 بقل. إضافة لما يحمله المشاة من الجنود من سلاح وعتاد ولكن النصر كان للإرادة لا العتاد وللعزيمة لا السلاح، ولحكمة المهدي وفطنته وعبقريته العسكرية. فقد صنع هذا الرجل نصراً لم يسبقه عليه أحد من الناس فقد أباد جيشا عن آخره، وقتل نحو عشرين ألفا أو يزيد وخسارته نحو مئتي شهيد، وذلك ما أعجز العقل وإستعصي علي الفهم فقد إلتقي الجيشان نهاراً جهاراً، وقد سعي كلاهم يطلب الآخر، وكل جيش ينظر خصمه حتي إلتحامهما. أي عبقرية تصنع مثل ذلك، وكل زادها زهد وتقوي لم يدخل صاحبها كليات الحرب، ولا مدارس القادة والأركان، ولم يتدرج محاربا في جيوش الغزو والحرب، إنما رجل عابد كل سلاحه التوكل علي الله، وصدق الدعاء وحسن التصرف، وصحبه وجنده رجال ألفت أصابعهم المسابح لا البنادق، وقرح جباههم السجود، وألسنتهم رطبة بذكر الله، وسلاحهم الرماح والسيوف وبنادق غنموها لم يشتروها ولم يألفوها، وأكثرهم يجهل كيف تعمل وكيف تقتل. فكانت معركة شيكان التي قتل فيها هكس وكل جيشه في 5نوفمبر 1883م درع التميز، وبرهان التفرد للثورة المهدية .
وإعجاز المهدي في شيكان، تمكنه من إبادة جيش كامل فيه عشرات الألوف، من المقاتلين المسلحين والمدربين، بواسطة جيش ينقصه التسليح، وينعدم لديه التدريب لدرجة تسمية جنوده بالدراويش، فيخرج الدراويش دون خسارة وتلحق بالمدربين المسلحين الإبادة (قدر المهدي نفسه في رسالة لعثمان دقنة قتلي جيش هكس ب 36000 قتيل والأنصار ب 200 شهيد) والنادر في التاريخ إبادة جيش بتلك القوة والعدد، مقابل خسائر قليلة لاتكاد تذكر للطرف الآخر رغم فارق القوة للمهزوم، لذلك أري أن معركة شيكان أجدر كثيراً بالإحتفاء والفخر بها أكثر كثيرا من معركة كرري، فقد تشابهت المعركتين في الجند والإعداد ولكن تبدل النصر الساحق بالهذيمة الماحقة فأطراف المعركة في كلاهما لم يتغيرا وإختلال ميزان القوة ثابت لم يتبدل ففي كلاهما كانت العزيمة والشجاعة والبسالة والفداء والسيوف والرماح وبعض البنادق سلاح جند المهدية، في مواجهة الآلة الحربية الضخمة الحديثة، والجنود المدربة، والخطط المجربة، ولكن غاب في كرري صانع النصر المهم. غابت حكمة المهدي وغاب قادته العظام، الذين صنعوا إنتصاراته في كل مدن السودان. فكانت الهزيمة في كرري بديلاً لنصر شيكان ومثلما كانت شيكان شهادة ميلاد دولة المهدية، وتحرير السودان كانت كرري شهادة موتها التي أعادت المستعمر لحكم البلاد .
وبعد شيكان أدرك حكام السودان يومها المصريون وخلفهم الأترك والإنجليز، أن هذيمة الثورة المهدية أصبحت طلبا صعب المنال. وأن إستمرار حكمهم للسودان دونه المهج والأرواح. فقنعوا من الغنيمة بالإياب. فأرسلوا غردون باشا للخرطوم لإجلاء الأجانب، وتسليم الحكم لإدارة سودانية.
أيضاً كان نصر شيكان البرهان القاطع، والدليل الحاسم لكل متشكك في أن محمد أحمد المهدي هو المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلاً وأنه منصور من الله فلا غالب له. فبايعه كل متشكك وبادر إليه كل متردد. وبعد شيكان تطلع المهدي نحو المركز فكان لابد من إخضاع الخرطوم وإن تمنعت، كما علم المهدي بعدها أن السودان كله قد دان له فرمي ببصره لما وراء حدود السودان .
وكان زحف المهدي نحو الخرطوم في أبريل 1884م فأرسل من يحاصرها، وأقام عدة أشهر بالرهد ينتظر مايفعل غردون بقادته الذين أرسلهم لحصاره ومايفعلون به، وفي أغسطس 1884م قصد المهدي الخرطوم، فوصل أبوسعد قرب أمدرمان في أكتوبر 1884م وشدد الحصار علي الخرطوم، ولم يبادر بإقتحامها مخافة أن تتكرر هزيمة الأبيض، فكان يضيق عليها الحصار ينتظر إستسلامها، وغردون صامد يصبر أهلها، والعيون ترغب النجدة الإنجليزية، ولكن المشورة وحكمة المهدي تحسم الأمر، فنجدة الإنجليز وصلت تخوم الخرطوم، وأهل الخرطوم المحاصرين فيها بلغ بهم الجوع والجهد مداه، فأكلوا الحمير والكلاب والجلود وكل ما يؤكل وما لا يؤكل، فإن وصلتهم النجدة، رفعت عنهم الضر وسمت بروحهم المعنوية وكثرتهم وسلحتهم، وأصبح ممكن اليوم مستحيلاً غداً، فكان الإقتحام ودخول الأنصار الخرطوم وقتل غردون في 26 يناير 1885 م
وكان أيضا نصراً سهلاً لم يدفع الأنصار فيه كثير ثمن، ولو تأخر لما تم وإن تم كانت ستكون خسائره فادحة، فكان إقتحام الخرطوم وتوقيته أيضاً دليل ساطع علي حنكة المهدي العسكرية، وحكمة قيادته بأن لا يورد جنده المهالك، فيحجم ليتقي الضرر، ويقدم حين يكون الإقدام ضرورة، وتلك هي القيادة الرشيدة التي يجلها ويفاخر بها من يتبعها، ويحترمها ويقدرها من يعارضها.
دخل المهدي الخرطوم وخرج منها سريعا، وقد إختار أمدرمان عاصمة الخلافة المهدية، ولكن مشيئة الله وقدره كان أن يعيش المهدي أربع سنوات محاربا لإقامة الدولة المهدية، ويحكمها لأربعة أشهر فقط، ويوصي بالخلافة فيها لمن لا يربطه به دم ولانسب. ومات المهدي في 22 يونيو 1885م ، وماتت المهدية بعد موته بقليل، وقد قتلها الخوف والحسد والطمع، فالخليفة محسود في إرثه وخائف علي ملكه، وهناك من هو حاسد وطامع، ومن يري أنه أحق بالتركة من سواه وأصلح للملك من الخليفة، فإستنصر الخليفة بأهله وقبيلته وأهل ثقته وذكائه ودهائه وشدته وسيفه، ولسان حاله يقول من ليس معي فهو ضدي، فلا يعترف بمحايد أو مسالم، ولزعماء القبائل الخيار بين رضاء الخليفة وسيفه وفرض الإقامة الجبرية عليهم في أمدرمان تحت بصره طائعين ومن أبي تكفل سيف الخليفة بجلب رأسه ليعلق في أم درمان، ليري الناس عقاب وعاقبة من يعصي للخليفة أمرا وكان حوش الخليفة الذي يتربع اليوم في وسط أمدرمان، ولا يمتلئ بالناس إلا في المولد النبوي، كان في عهد الخليفة عبد الله يمتلئ بالناس كل يوم خمس مرات، ويقام التمام عند كل صلاة ويعلم الغائب والحاضر ومن غاب يطلب ويسأل ويحاسب وقد قسم الناس عشرات عليهم رئيس وكل عشر عشرات عليهم رئيس، ما أسهل التمام وما أصدق الناس حين يكون السوط هو السيف، ومن يهرب حكم علي نفسه بالسجن أو الموت، فكانت الضغائن والفتن والدسائس، وكان جهاز أمن الخليفة وسجنه وكان سيفه الذي طال الكثير من أصحاب الأمس. حتي الأشراف أهل المهدي طالهم القتل والعذاب، ولم يسلم من بطش الخليفة حتي آل بيت المهدي الأقربون. نقموا علي الخليفة وناصبوه العداء فرد لهم الصاع صاعين فسجن من سجن وقتل من قتل، حتي الخليفة شريف إبن عم المهدي وأحد من أوصي لهم بالخلافة لم يسلم من بطشه، فسجنه وقتل من ناصره. وأصبح أصحاب الأمس، أعداء اليوم.
وعندما وصلت القوات الغازية بقيادة كتشنر لإعادة إستعمار السودان، كان بعض انصار المهدي الذين حاربوا معه المستعمر حتي طردوه هم من المرحبين برجوع المستعمر إن لم يكونوا من المناصرين المحاربين في صفوفه، لما لحقهم من ظلم، وما طالهم من أذي. وكانت معركة كرري في 2سبتمبر1898م التي أظهر فيها السودانيين من البسالة والشجاعة ما أشاد به الأعداء، وخلدته كتاباتهم وكتبهم، لكن كانت الهزيمة وسقطت دولة الخلافة المهدية، وأكملت أم دبيكرات سقوط الدولة بمقتل الخليفة عبدالله في 24 نوفمبر 1899م .
وقد يختلف الناس في الحكم علي الطريقة التي ادار بها الخليفة عبدالله الحكم، ولكن الكل يجمع علي شجاعته وصحبه في إستقبال الموت. فعدما لاحت الهزيمة نزل عن حصانه، وإفترش فروته في أرض المعركة، وجلس ينتظر الموت في ثبات الأبطال كشأن فرسان السودان، وصحبه الي جواره، عن يمينه علي ود حلو، وعلي يساره أحمد فضيل وحولهم سلة من الأبطال وقد مكنوا البنادق من صدورهم لا ظهورهم وحقنوا بموتهم دماء الآلاف ممن كانوا معهم، كان يستحيل إستسلامهم وفي الخليفة عين تطرف، فإفتداهم الخليفة بنفسه وإختار الشهادة علي أرض المعركة بدل هوان الإستسلام وإنطوت صفحة من أعظم صفحات. تاريخنا.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.