تمر بلادنا هذه الأيام بمناخ سياسى في غاية الهشاشة. وهو وضع يمكن قراءته في اطار عملية الانتقال الديمقراطى وهى عملية بالغة التعقيد. فمن ناحية تبدو من تصريحات الفاعلين الرئيسيين ان السواد الأعظم منهم لا يرغب في الرجوع الى الحكم الدكتاتورى. ومن ناحية أخرى أخرى أصبحت بعض الممارسات من قادة فصائل عدة من المجتمع بما فيها قادة عسكريين توحى بان هنالك توجهات نكوصية عن التحول الديمقراطى. فما هي مبررات وضع العراقيل في طريق التحول نحو الديمقراطية؟ . ان الديمقراطية يمكن ان ينظر اليها من منظور اخلاقى في المقام الاول ، ويتبدى هذا المنظور في شعارات الثورة السودانية، اى الحرية والسلام والعدالة. ومن هنا فان المتفق عليه من السواد الاعظم من الشعب هو الشى الملزم بالنسبة للنخب القيادية في الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية. ونسرد هنا امثلة لعدم رغبة بعض الأطراف الفاعلة في التخلي عن التحول الديمقراطى. والمثال الأول هو تصريحات وقرارت بعض الجهات العسكرية والقيادات القبلية والتي مثلت تحديا مباشرا للتحول الديمقراطى. والمثال الثانى هو تعطيل تكوين المجلس التشريعى الانتقالى. ان احد الاحتمالات لتحليل التوجه الأول ، اى التحدى المباشر ، هو عدم الايمان بشعارات الثورة ، او لنقل فهمها فهما قاصرا ، فالديمقراطية تعنى العدالة السياسية ، ومن دعاماتها التعددية وحرية الراى والتعبير والتنظيم وحرية الاختيار والحوكمة. والاساس في الحرية هى انها حق طبيعى ، اى ان الانسان هو حر بالميلاد ، ولا يجوز ان ينتزع جزء من هذا الحق الا بالقدر الذى تتطلبه التشريعات التي تسعى الى رفع الضرر والظلم عن المجتمع في اطار تحقيق التكافل الاجتماعى وتنظيم الحياة العامة. ومن هنا فان تهديد بعض القيادات العسكرية والقبلية بانتزاع الحريات الأساسية من المواطنين هو عمل ضد التحول الديمقراطى وضد شعارات الثورة ومبادءها. ان الديمقراطية ليست ترفا فكريا تمارسه النخب، بل هي ضرورة أساسية للتعايش السلمى، وضرورية لتوفير المناخ الصحى الذى يسمح بالتداول السلمى للسلطة وتمكين السلطات من تشريع وتطبيق القوانين اللازمة لحماية الافراد والمجتمعات والشركات والهيئات ، واعانتها على العمل بحرية وسلام وفى جو خالى من الفساد. ان احد الظواهر التي تدل على تردى مستوى الديمقراطية في بلادنا ، من حيث الأيمان بها ومن حيث الممارسة ، هو طول الحقب العسكرية. والظاهرة الثانية هى عدم توفر الوعى الكافى بمبادئ الديقمراطية. وقد نشر موقع جامعة وورسبورغ الألمانية تقييما لجودة الديمقراطية في دول العالم المختلفة. وقد استخدم مقياسا مبسطا، المعايير فيه تتراواح بين التزام جانب الديمقراطية او النظام الهجين او الاستبداد او الاستبداد الأكثر سوءا. وقد صنف السودان في عام 2020 من ضمن أسوأ عشرة دول تعانى من الاستبداد الأكثر سوءا. وقد أحرزت دولتنا 6 بالمئة. ان نكوث النخبة الحاكمة عن عهدها بتكوين المجلس التشريعى ليعد احد الأخطاء الفادحة التي ظلت تقع فيها النخب السياسية السودانية، وهى أخطاء كثيرة. ولا توجد مسوغات ، لا قانونية ولا أخلاقية، لهذا التعطيل الذى طال امده. وما دامت الديمقراطية تعنى ان السيادة هي للشعب، فان للشعب الحق فى ان يمارس سلطة التشريع والمراقبة للجهازين التنفيذي والقضائى. وفى ظل غياب المراقبة تفتح أبواب التجاوزات على مصراعيها لكل فاسد ولكل مستبد . تعد الديمقراطية المباشرة احد اقدم الممارسات الديمقراطية التي شهدتها البشرية. وفى بلادنا ظلت تمارس ضمن اطر محدودة. وهى مدرجة في دساتير وقوانين بعض الدول مثل سويسرا وهولندا وبريطانيا وامريكا. ولعل من الحكمة ان ننظر الى بنيات وممارسات مجتمعنا التي يمكن ان تعد شكلا من اشكال الديمقراطية المباشرة، وبالتالي نسعى الى تطويرها. وبالتوازى يمكن ان نسعى الى اكتساب مفاهيم وممارسات الدول المتطورة للديمقراطية المباشرة بعد معالجتها عن طريق التدبر والتفكر والحوار والتثاقف. ان المعايير الأخلاقية الأساسية للديمقراطية المباشرة تنبع من حقوق المواطن الأساسية في السيادة على ارضة وفى الحرية والمساواة والعدالة والسلام. وما دامت الديمقراطية المباشرة لا تتعارض مع شعارات الثورة فماذا يضير الفاعلين الرئيسيين من تبنيها وجعلها أداة من أدوات التحول الديمقراطى المرتجى. ان الذى يجرى من حوارات مباشرة عبر شبكات التواصل الاجتماعى المختلفة يمكن ان ينظر اليه كاحد الممارسات التي توسع قاعدة المشاركة. وقد وفرت هذه الشبكات مجالات عدة للحوار واستطلاعات الراى والتصويت المباشر حول بعض القضايا وتقديم المشورة فيها وغير ذلك. لقد تعاونت لجان المقاومة على نطاق واسع مع المحليات والمؤسسات الحكومية والشعبية من اجل تنفيذ بعض الخطط والبرامج الناجحة. ولو ازيلت العوائق فان لجان المقاومة ستصبح أجهزة تشريعية شعبية. ولان الثقة الشعبية التي اكتسبتها هذه اللجان كبيرة, فانها مؤهلة للقيام بهذا الدور. هذا لا يعنى غض الطرف عن معايير الالتزام بمبادئ العدالة والديمقراطية والحرية والحوكمة. ان ترياق النكوص عن الديمقراطية هو المزيد من الديمقراطية. بهذه الطريقة نكتسب المناعة ضد الدكتاتورية. [email protected]