إن تاريخ الإدارة الأهلية في السودان يشي بالعديد من المعلومات المفيدة للدارسين والمتابعين لهذه المنظومة الأهلية التي تمثل أحد مخرجات ثقافتنا المحلية نحترمه ونقدره وفقا لمواقفه من القضايا الوطنية والقومية ، تعددت أدوار الإدارة الأهلية في السودان منذ القدم فهي نتاج للنسيج القبلي الذي يشكل المجتمع السوداني ككل ، فقد انتظمت المجتمعات القبلية في السودان في هياكل منظمة منذ القدم واستحدثت أنظمة إدارية تضمن الحماية للقبيلة وحماية مواردها ، يقوم هذا النظام على وجود فرد أو أفراد يشكلون القيادة لمجتمع القبيلة وهم عادة من أهل الحل والعقد ، وقد أفرز هذا النظام الإداري العديد من شيوخ وزعماء القبائل الذين اتصفوا بالحكمة والدهاء والمكر أحيانا عديدة ، فكل الشعب السوداني سمع عن حكمة المك كور زعيم الشلك وذكاء كل من الناظر بابو نمر زعيم المسيرية والناظر عوض الكريم أبوسن شيخ الشكرية وزعيم البطانة ، وقد أثر المستعمر البريطاني تأثيرا كبيراً على أدوار الادارة الأهلية في السودان وذلك بعد أن قرر اتباع سياسة الحكم غير المباشر في بلادنا نتيجة لاتساع رقعة البلاد ، وقد عمد المستعمر البريطاني لخلخلة نظام الإدارة الأهلية في السودان باستبعاد الزعماء أصحاب النزعة الوطنية واستبدالهم بآخرين أحيانا يكونوا من داخل الأسرة نفسها وذلك لضمان تنفيذ سياسة المستعمر وأوامره في حفظ الأمن وجمع الضرائب ، حافظ عدد من الزعماء على مراكزهم القيادية وظلوا يشكلون الضامن الحقيقي للسلم والأمن للقبيلة وأفرادها واحتفظوا بمكانتهم السامية كزعماء لهم كلمتهم على كل أفراد القبيلة . هذه النزعة القبلية للمجتمع السوداني لا تختلف عن الكثير من المجتمعات البشرية المشابهة عليه يكون وفق نظرية بن خلدون وطروحات أوغست كونت يسير المجتمع السوداني وفق قوانين محددة يمكن من خلالها التنبؤ بمستقبله والمهم هو أن المسيرة المجتمعية لا تتأثر بالأفراد وسلوكهم وانما الميكانزيم الفعال هو المجتمع ككل والثقافة السائدة لهذا المجتمع وهذا مربط الفرس فيما يدور في السودان شرقه وغربه وجنوبه وشماله ، وعليه تصنف الكثير من الظواهر والأحداث على أنها ظواهر عابرة محدودة الأثر لا يمكن لها أن تحدث فوارق كبيرة في البنية الهيكلية للمجتمع مهما كانت مكانة الفرد في القبيلة والداعمين له من خارج نسيجه القبلي سواء كان دعما ً أو معنوياً ، وعليه فإن ما يبدو لكثير من المتابعين لأزمة شرق السودان من تأثير متعاظم للناظر سيد محمد الأمين ترك ما هو الا فقاعة صابون تكبر مع الوقت لتنفجر في النهاية نتيجة قوة الشد في سطحها ولا تبقي أي أثر يذكر في المجتمع المحلي ، صحيح أن الأحدث التي يقودها ترك في الشرق من تعدي على الطرق القومية واغلاق للموانئ واثارة للفوضى أحدث ربكة في المشهد العام وشكل ضغطاً على الحكومة المدنية المركزية في الخرطوم حتى أخرجت بيانها محذرة ًمن خطورة الإغلاق وتأثيره الكبير على معاش الناس والمخزون الاستراتيجي للدواء والغذاء، في ظل تراخي واضح وغض للطرف من المكون الآخر في الحكومة عن هذه التصرفات العبثية واليائسة التي يقوم بها الناظر ترك وأتباعه في شرق السودان بل ودعمه في السر والعلن لتحقيق نقاط ومكاسب لحظية في الصراع السياسي الدائر بين مكونات الحكم في الفترة الانتقالية. لا أعتقد أن إجراء مقاربة بما يدور الآن في شرق السودان مع ما كان يحدث في جنوب السودان قبل الانفصال صحيحة بأي حال من الأحوال لأن التفاف بعض الناس حول تصرفات ترك اليائسة الآن تتم بعصبية قبلية محضة وتحريض ضد قبيلة أخرى أي أن الأمر لا يعدو أن يكون اصطفافاً قبلياً ضد مكون قبلي آخر وهو عكس ما كان يدور في الجنوب والذي مثل اصطفافاً قومياً جنوبياً كاملاً بغض النظر عن مسبباته، كما أن كاريزما وشخصية ودوافع قائد قومي بحجم الدكتور جون قرنق لا يمكن وضعها في ميزان مقارنة مع زعيم لقبيلة يفتقر لكل صفات القيادة ومهارات القائد القومي مهما اجتهد من حوله في تلميعه ، ويتضح ذلك جليا في اساليبه المستخدمة فهي أقرب لأساليب قطاع الطرق والمخربين ولا تشبه مطلقا أساليب المناضلين أصحاب القضايا القومية أو المطالب المجتمعية. ليس لدي أدنى شك في أن زوبعة سيد محمد الأمين ترك ستنتهي قريبا جداً ولن يبقي لها أثر ، فهو مجرد كرت في يد أحد مكونات الخلاف الحاصل الآن في بلادنا ، سيذهب ترك وتزول كل مظاهر تمرده ولكن للأسف ستظل مطالب أهل الشرق باقية وتظل أسباب التمرد والعصيان موجودة في شرقنا الحبيب لأن شكل التنمية غير المتوازن وانعدام الخدمات الصحية والتعليمية في قرى ومحليات شرق السودان حقيقة ماثلة لا ينكرها الا مكابر، فلابد من مخاطبة جذور المشكلة الحقيقة ليس من خلال اتفاق مسار الشرق المعيب ولكن بتحقيق مطالب أهل الشرق واحداث تنمية حقيقية في بوادي وحواضر الاقليم الشرقي واشراك أهله في مواقع اتخاذ القرار القومي وتمكينهم من ادارة شؤون الاقليم حسب الكفاءة والتأهيل ولا بأس من التمييز الايجابي لردم الفجوة التنموية بين أقاليم السودان المختلفة . ودمتم [email protected]