سيناريوهات متنوعة: كالعادة، وبعد صبيحة يوم الانقلاب الأخير، خرجت الصحف والمحللون بأفكار مختلفة حسب موقف وموقع كل منهم مما حدث: – بعض هذه التحليلات ذهبت إلى أنه انقلاب تكتيكي، الهدف منه صرف الأنظار عن انقلاب حقيقي قادم، كان هناك من الدلائل ما يشير للإعداد له. وذلك قياسًا على ما حدث قبل انقلاب يونيو 1989 المشئوم، ولأن القائمين به، كما قيل، هم من نفس الطينة. غير أن هناك من شكك في هذه الرؤية لعدد من الأسباب: أهمها أن الفبركة ظاهرة في كل ما له صلة بالانقلاب، وذلك بدءًا من أن الإعداد له كان فطيرًا في عدة مناح، وفى مثل هذه الظروف التي عبر فيها أهل السودان على اختلاف مشاربهم عن مدى كراهيتهم للكلمة من حيث المبدأ، وخصوصًا إذا ارتبطت بعودة النظام الانقاذي، الذي لا أظن أن عاقلًا يتوقع قبول الناس لعودته بعد أن عرفوا طرفًا يسيرًا من سيرته المليئة بالفساد والإفساد في كل مناحي الحياة وعلى رأسها الدين الحنيف البريء من كل ما فعلوا باسمه! – وبعض آخر ذهب إلى أنه انقلاب قام به من ينتمون إلى النظام السابق وذلك كرد فعل طبيعي للضغوط التى مارستها قرارات لجنة التفكيك وإزالة التمكين خصوصًا في الأسابيع الأخيرة التي كان التركيز الاكبر فيها على إزالة التمكين من مناطق عالية الحساسية في دولاب الدولة بحيث أنها وصلت إلى "اللحم الحي" في ما قررت وما وعدت بالتقرير فيه من مثل البنوك، التي تعتبر عصب السيطرة الانقاذية المستمرة حتى إلى ما قبل الانقلاب. وأيضًا هناك من شكك في هذا الافتراض تشككًا في انتماء قائد الانقلاب المزعوم سياسيًا. – وبعض ثالث زعم بأن الانقلاب من فعل "نفس الأزوال" الذين يمسكون بزمام كل الأمور في الوقت الحاضر، ولكنهم غير مطمئنين إلى قوة ومدى قبضتهم لأسباب محلية وإقليمية ودولية تتغير مواقفها من وقت لآخر، حسب رؤيتها لتقلب مصالحها مع الأطراف المتشاكسة التي تدعي أن الشراكة بينها في السلطة تصلح أن تكون نموذجًا للآخرين. ويربط هذا البعض الثالث بين قرب تسلم المكون المدني لرئاسة مجلس السيادة واستعجال أولئك الازوال بهذه التمثيلية الانقلابية الفطيرة. – ولكي لا ننسى.. أحدى المساهمات التحليلية المهمة من السيد صلاح كرار برغم ما قد يكتنفها من تشكيك البعض لخلفية الرجل المايوي والإسلامي، غير أن أهميتها عندي تنبع من وضع الرجل في أطول وأعجب نظامي حكم يمران بالسودان بما يجعله أحد صناديق الأسرار التي لا تزال تمشي على الأرض! يقول السيد صلاح كرار في تسجيل جاءني على الواتساب – أرجو أن يكون صادرًا عنه بالفعل- بعد أن يعطي نماذج شملت أغلب الانقلابات التي مرت للتدليل على "فطارة " الانقلاب وبالتالي على أنه انقلاب مصنوع، يقول إن عدة ملاحظات له من خلال خبرته بالمشاركة أو المراقبة لانقلابات سابقة تدل على هذه الصناعة، منها، أن من يدعي أنه قائد الانقلاب وحسب معرفته به من خلال معلومات جاءته من آخرين، لا ينتمي إلى أي تنظيم سياسي وأنه عسكري شديد الانضباط من أمثال فلان وفلان من من عرفوا بهذه الميزة. وكذلك هو عائد من الخارج قبل أيام قليلة بعد إجراء عملية جراحية بترت خلالها رجله وأنه لا زال يتلقى زيارات تكفر له وتحمد الله على عودته سالمًا! ثم، وهذا أهم ما جاء في حديثه، أن سلاح المدرعات هو أقوى الأسلحة في الجيش السوداني، ولذلك فمن المستحيل أن يحاصر ويستسلم انقلابييوه بهذه البساطة والسهولة، بينما قائده السابق والحالي – المتهم بقيادة الانقلاب – بحسب رأب السيد كرار، هما اللذان فصلا من العمل بسبب حدة مناقشتهما للفريق حميدتي عندم تحدث سلبًا عن القوات المسلحة وسلاح المدرعات، غير أن الزعيم المزعوم للانقلاب قد أعيد للخدمة بعد الايقاف "الشديد " والتحقيق (!)* ومن هنا ينطلق سيادة العميد كرار اإلى تحليله الخاص بأن انقلاب الثلاثاء انقلاب مصنوع الهدف منه إزالة أقوى سلاح بالجيش السوداني، ولذلك فهو يحذر السيد البرهان من الانسياق وراء هذا المخطط ولا يستبعد أن تكون وراء خطة تفكيكه جهات خارجية لا تعجبها قوة الجيش السوداني. ويقول أيضًا إنه قد تم تفكيك سلاح آخر، يعتبره هامًا وقويا، من نفس الأزوال ولنفس الأسباب! – هذه الآراء والتحليلات أردنا بها استعراض وجهات نظر متباينة ولكنها جميعًا تقريبًا تتفق على أن الانقلاب مصنوع لأغراض محددة، ولعل استعراض مواقف القوى السياسية المختلفة يبين ميل أغلبها إلى هذا الاتفاق. الأمثلة: المكون العسكري بالسلطة: اتفق الفريقان البرهان وحميدتي على توجيه اللوم للقوى السياسية الحاكمة على أنها السبب الرئيس في الانقلابات لكونها لم تقم بدورها في الإصلاح الاقتصادي وحل مشاكل المعيشة لجماهير الشعب وأشار الفريق البرهان في كلمته أمام جنود المدرعات بعد أن حياهم على دورهم الرئيس، إن لم يكن الأوحد، في حماية البلاد والعباد والثورة، إلى الظلم الذي يحيق بالجنود في معاشهم أيضًا على أنه أحد الأسباب الداعية للانقلاب! وكذلك فعل الفريق حميدتي في أحاديثه بعد الانقلاب "الفاشل". وفي هذا الخصوص، نلاحظ أيضًا أن التعليقات أنصبت على التعجب من أن الفريقين لم يهاجما الانقلابيين ولا النظام البائد إلا بأضعف العبارات بينما أنصب هجومهم اللاذع على الطرف المدني من السلطة. وهنا نذكر تعليق السيد رئيس مجلس السيادة على حديث زميله المدني في المجلس الذي طلب من الجماهير التعبير عن رفضها للانقلاب، وكأنه يشعر بأن الحديث يعنيه ومن معه من المكون العسكري في السلطة وليس للعسكريين الانقلابيين! هذا في الوقت الذي يعرف فيه الفريقان أن حماية أمن الدولة والمواطن هو من أوجب واجبات المكون العسكري، بما في ذلك إطعام الشعب والجنود، وكذلك يعلمان أن أغلب الشأن الاقتصادي لا يزال في أيدى المكون العسكري وأن تهريب إمكانات السودان يتم تحت سمع وبصر الأجهزة الأمنية في المطار وغيره من المنافذ، بل وأن اختلافًا قد حدث بين الفرقاء في التصرف حيال تهريب رسمي أعلن عنه الفريق حميدتي قائلًا إنه لم يستطع منعه بسبب تدخل جهة عليا! موقف المكون المدني في السلطة: أولًا: الدكتور حمدوك ومستشاريه: علمنا من العربية وبعض القنوات الدولية الأخرى، أنه سيذاع بعد قليل اجتماع مجلس الوزراء حول ما حدث وعلى الهواء مباشرة. واستبشرنا خيرًا بأنه في هذه المرة يبدو أن التعامل مع الانقلاب سيحدث بالشفافية اللازمة والتي فقدت تمامًا في الأحداث الماضية، بما في ذلك محاولة اغتيال رئيس الوزراء نفسه. وحدث ما كان متوقعًا بعد الهدوء النسبي للأحوال، إذ لم يزد النقل عن خطاب لرئيس الوزراء الذي لم يقل شيئًا غير طلب المساندة الجماهيرية له ولمكونه المدني! ثم جاءت التأييدات الخارجية له ولمكونه مما أكمل صورة استمرار الوضع على ما كان: عدم الالتفات للجماهير إلا في حالة طلب العون والاتجاه للخارج في محاولة ايجاد الحلول الاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية (برنامج ثمرات)! ولكن يبدو أن موقف السيد رئيس الوزراء قد اختلف ولو قليلًا هذه المرة، وذلك من خلال تصريحاته نفسها وموقفه من المكون العسكري الذي عبر فيه للمرة الثانية بوضوح عن ما يضعه ذلك المكون من متاريس أمام إنجازات المكون المدني، بينما كانت الأولى عندما ذكر سيطرته على 82% من مصادر الدخل الحكومي، غير إنه حتى عندئذ لم يتخطى التصريح إلى الاسترداد! وكذلك يبدو أن اختياره لمستشاره السياسي قد وفق هذه المرة، فالسيد عرمان، من خلال تاريخه السياسي الذي كان يقرر فيه بشجاعة الانتقال من موقف إلى آخر، قد بان أثره في حالات معينة اختلف فيها رأي السيد الرئيس. ومع ذلك فأنا أظن أن على الدكتور، رئيس الوزراء، أن يواصل السير في الطريق إلى الجماهير، التي رفض بصورة أو أخرى، الاستماع إلى مطالباتها المرة تلو الأخرى وأن يتجه إلى الداخل هذه المرة في ايجاد الحلول للأزمة ولو على سبيل التجربة! ولعله يكون من المناسب في هذه الأحوال تذكير الدكتور، رئيس الوزراء ومستشاره السياسي، أن الجماهير المدعوة للخروج إلى الشارع مساندة للمكون المدني، قد أبدت الكثير من المواقف وخرجت بالملايين من قبل وفى أكثر من مناسبة كانت سببًا في بقاء السلطة وخصوصًا شقها المدني، إلا أن مواقفها قد قوبلت بالتجاهل، وكذلك هي لا تزال صابرة على البلاء الاقتصادي، كما يعترف المسئولون، ولذلك فأن توقع خروجها بدون أن يبرهن المكون المدني على انحيازه إلى رؤيتها، يعتبر من التمنيات! موقف القوى السياسية المشاركة في السلطة: لحسن الحظ إن كانت القضية المطروحة في برنامج البناء الوطني هذا الأسبوع عن موضوع الساعة: الانقلاب الفاشل، وقد شارك فيها ممثلون لهذه القوى من حزب الأمة وقحت ومقرر لجنة مبادرة الدكتور رئيس الوزراء. وقد اتفقوا جميعًا على أنه لا بد من مناقشة المسكوت عنه من علاقات معقدة وخطيرة بين المكون العسكري والمدني وفى داخل كل منهما على حدة، وذلك من مثل تكوين الجيش القومي الواحد ذي العقيدة الموحدة وضم كل المؤسسات الأمنية التي تعمل في مجالات اقتصادية لا علاقة لها بالدور الطبيعي لتلك الجهات العسكرية. ولأول مرة نسمع شجبًا مباشرًا من مسئولين كبار في الدولة وفي قحت لمواقف المكون العسكري، بالدرجة التي أخرجت رئيس مجلس السيادة ونائبه عن بعض التحفظ بالشجب المباشر أيضًا للدور السلبي للمكون المدني، بل وذهب النائب "الأول" إلى التصريح بأن "الرهيفة تنقد"! وكذلك أشاروا إلى موقف القوى السياسية المعارضة للسلطة، على أنها ولو كان من حقها في مجتمع ديموقراطي أن تعبر عن آرائها ومواقفها بكل السبل التي يكفلها النظام الديموقراطي، إلا أنهم عبروا في نفس الوقت عن اعتقادهم بأن هذا الموقف يصب في نهاية الأمر في مصلحة موقف الفلول بما في ذلك الانقلاب على السلطة! مواقف القوى السياسية المعارضة للسلطة (وليس للمرحلة) الانتقالية: هذه القوى تنقسم أيضًا إلى مكونين، المكون المدني – وهو ما تبقى من قوى الإجماع- والمكون العسكري الذي يشمل في الأساس حركتي عبدالواحد والحلو. وقد شجب كلاهما المحاولة الانقلابية الفاشلة ورفعا أيضًا نفس المطالب التي ظلا يدعوان إليها، والتي أصبحت الآن مطلبًا عامًا من جميع الفرق المدنية تقريبًا، ألا وهي: – ضرورة الإسراع بإكمال المهام المتمثلة في إنشاء المؤسسات العدلية وكنس بقايا الانقاذ منها بحيث تصبح قادرة على المحاكمات العاجلة والعادلة لقادة النظام البائد وكل من ارتكب جرمًا في حق الشعب طوال سنوات الانقاذ وكذلك سنوات ما بعد ديسمبر المجيد. – التقرير العاجل في أمر التحقيقات التي تجري في موضوع فض الاعتصام بحيث يتم عاجلًا وبدون أي تأخير احقاق حقوق الشهداء والمفقودين وإنصاف أهاليهم وعامة الشعب فهذه القضية المركزية لمستقبل العمل الثوري. – إنشاء المجلس التشريعي وبقية المفوضيات، خصوصًا تلك التي تختص بتفكيك أعمدة الانقاذ وإزالة التمكين، وذلك للتعجيل بالمهمة الاساسية للفترة الانتقالية والتي قامت وتقوم بها اللجنة المختصة بشكل رائع برغم العقبات التي اجهتها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن وهج الثورة الذي بان في اللقاء الذي تم بين قادة اللجنة وجماهير لجان المقاومة، لم يكن ليحدث وليرد بقوة على ترهات من تحدث وكأنه امتلك زمام الأمر مثلما فعل في ثلاثينيات يونيو المتكررة، بل وعلى الذين ظنوا أن الثورة قد ماتت وأصبحوا مستعدين لوراثتها أو الانضمام إلى المنتصر! وكي لا أطيل عليكم بذكر ما هو معروف لكل من يتابع الشأن السياسي، فإنني مع تأييدي الكامل لهذا المكون من القوى السياسية، إلا أنني سأكرر بعض ما جاء في مقالات سابقة من ضرورة مراجعة مواقفه من وقت لآخر وخصوصًا في مثل هذا المنعطف الذي تمر به ثورة ديسمبر المتفردة. وهناك عدة دوافع لضرورة المراجعة، أولها صفة ثابتة لأصحاب الأيديولوجية لا بد من التخلص منه، وهو الإحساس بالتفوق وبالتالي عدم التنازل عما يقررون، مع أن الماركسية تقول أن الحقيقة نسبية ولا تكتمل إلا بعد النشاط العملي القائم على افتراضها! وثانيها أنه لا بد من الاعتراف بإنجازات الطرف الآخر، مثلما قامت به الحكومة من عمل جيد على النطاق الخارجي بما أتاح للسودان العودة المهمة والضرورية إلى التعامل الخارجي بشكل عام، برغم الرأي في أن فيه تركيز، قد يكون مخلًا باستراتيجية العمل العام بعد ثورة ديسمبر، الذي نعتبر فيه ترتيب الداخل هو الأساس. وقد يصبح هذا الاعتراف أساسًا لقبول الطرف الآخر التراجع عن بعض اعتباراته في مجال الاقتصاد وغيره مما هو مختلف عليه بين الطرفين. اعتقد أن الظرف الحالي قد يساعد على وحدة قوى الثورة التي تسعى أهدافها وشعاراتها إلى بناء سودان جديد، وهو ما كنت أعنيه وأنا أتحدث في مقالات سابقة عن اصطفاف جديد بدت تظهر ملامحه بقوة قبل الانقلاب الأخير وتكتمل بعده البدء بمظاهرة الأمس بين قادة لجنة التفكيك وجماهير الثورة الحقيقيين. التوصيف الحالي لهذا الظرف، كما أراه، يبين إمكانية هذا الاصطفاف الثوري: – أولًا: لقد أوضح الانقلاب النوايا المخفية لبعض أطراف الثورة المضادة المختفين بسبب أخطاء القوى السياسية عند قبول التفاوض مع من ادعى تمثيل المكون العسكري، وبالتالي قرب هذا الوضع بين من كانوا يعتقدون بضرورة استمرار هذا الوضع الذي فرضته ظروف ذلك الحال وبين بقية قوى الثورة. – ثانيًا: لا خلاف بين الكل مدنيين وعسكريين داخل وخارج السلطة، وفى السلطة والمعارضة بشقيها الانقاذي والثوري، لا خلاف على أن السودان في حالة أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية. الخلاف، بالطبع، يكمن في توصيف أسبابها ومظاهرها وأسلوب حلها. وهنا يحدث الاصطفاف بناء على نوعية هذا التوصيف. ثالثًا: أرى أن الظرف الحالي يشبه إلى حد بعيد ظرف ما قبل انقلاب الانقاذ، فمن ناحية اضطرت الظروف الثورة المضادة للتعجيل بانقلابها مثلما حدث بالنسبة ليونيو، حيث كانت الضغوط الناتجة عن اتفاقية الميرغني/ قرنق إضافة إلى وحدة القوى السياسية، عدا الجبهة الإسلامية. فكان الانقلاب استباقًا لعزلة كاملة ونهائية للجبهة. وهو ما حدث الآن بعد الضغط الكبير الذى أحدثته قرارات لجنة التفكيك الأخيرة. أيضًا من مظاهر الشبه بين الظرفين موقف القوى العسكرية المعارضة للحكومة الانتقالية، وليس للفترة، بالابتعاد عن التأثير السياسي المباشر بزعم أن السلطة الحالية ليست إلا "انقاذ 2"! وأخيرًا، كل هذا يدعو على الأقل لمراجعة مواقف كل القوى السياسية والعسكرية بهدف عدم إضاعة الفرصة النادرة للوقوف في صف العمل على بناء سودان جديد يجد فيه الكل مكانه الصحيح لخدمة السودان. ونواصل، إن شاء الله.. الميدان