قبل 30 عاما قام ضابط رفيع من القوات المسلحة باتخاذ إجراءات وصفها في بيانه بانها تصحيح لأخطاء المسار الديمقراطي حيث قام بإعلان حالة الطواري في البلاد وحل الحكومة المنتخبة والأحزاب كما قام بتعليق العمل بالدستور وحل الجمعية التأسيسية وتلى ذلك اعتقال لقادة الأحزاب والسياسيين ,على راسهم رئيس الوزراء .وقد كانت مبررات قيامه بتلك العملية التصحيحية هي اخفاق الحكومة المنتخبة في تسيير أمور البلاد والتردي الاقتصادي الحاصل في ذلك الوقت بالإضافة لشبح الحرب الاهلية التي كانت تهدد البلاد وكان المبرر الأهم حسب تقديره هو رغبته الصادقة في انقاذ البلاد واخراجها من النفق المظلم الى رحابة و أضواء الرفاه الاقتصادي و الحكم الديمقراطي الرشيد. لقد وعد ذلك الضابط الرفيع جماهير الشعب السوداني بالحفاظ على البلاد واجراء مؤتمر دستوري جامع يتوافق فيه كل اهل السودان على صيغة مرضية للحكم و من ثم اجراء انتخابات حرة نزيهة و تسليم الحكم لحكومة منتخبة يختارها الشعب بصورة مباشرة. كما لم ينسى ذلك الضابط الرفيع بتقديم اغلظ الايمان مع المواثيق والعهود بانه ليس طالب للسلطة وان الظرف التاريخي ومصلحة البلاد هي التي دفعت القوات المسلحة ودفعته شخصيا للقيام بذاك التحرك للحفاظ علي الدولة من التشظي و الضياع. هلل بعض الناس واستبشروا به خيرا والتفوا حول الضابط الرفيع حالمين و واهمين بل ومصدقين بان ذاك المدفع المعروف مسبقا للجميع لن يخرج لهم هذه المرة خاذوق اخر. مرت الأيام وتوالت السنيين وتكشف الوجه الحقيقي لذلك الضابط الرفيع وجها لم يكن يتوقعه أي واحد من افراد الشعب المهللين حيث قام الضابط الرفيع أولا بحل مجلس الثورة وادار ظهره لرفاقه بالقوات المسلحة الذين جاءؤ به الى السلطة ثم اتجه الى حاضنته السياسية وقام بنحرها واطبق مع مجموعه من الفاسدين على مفاصل الدولة واصبح صنما يعبد .حتى لم يعد يفرق الشعب بينه وبين كرسي الرئاسة . هل تصدقون ان هذا الضابط الرفيع الذي اقسم على انه ليس راغبا في السلطة ولا يريد ان يجلس في الكرسي يوم واحد إضافي بمجرد انتهاء مهمته في تهيئة المناخ السياسي للعملية الانتخابية, جلس على كرسي الحكم في السودان لمدة 30 عاما . 30 عاما اذاق فيها الشعب ويلات الحروب واللجوء والفقر والجوع, 30 عاما لم يستطع الشعب المغلوب على امره والمذهول من عدم قدرته على تمييز كذب ونفاق هذا الضابط الرفيع الا بعد فوات الأوان .30 عاما عانت فيها القوات المسلحة التي أتت به من السهام المسمومة التي حولت جسدها الممشوق الجميل الى دمامل وتقرحات سكنت فيه المليشيات القبلية وقوات الدفاع الشعبي وحرس الحدود وحامينا والقوات الصديقة ثم تطورت الأمور الى ظهور ورم سرطاني في جسدها عرف بالدعم السريع ورم سرطاني انتشر في كل اطراف جسدها واصبح من الصعب استئصاله او علاجه فاضطرت للاستسلام والتعايش معه مرغمه.30 عاما حضر فيها بن لادن و كارلوس و الخليفي و استقروا في قلب الخرطوم .30 عام تم فيها ادراج السودان في قائمة الدول الراعية و الممولة للإرهاب وفرض فيها المجتمع الدولي حصار اقتصادي وعقوبات على السودان.30 عاما تم فيها اصدار مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية ضد رأس الدولة وفرضت عزلة دولية عليه.30 عاما انفصل فيها السودان الى دولتين شمال وجنوب ورشحت فيها بقية الأقاليم للانفصال.30 عاما حدث فيها ما حدث. واليوم بعد ثلاثين عما وبعد خلع ذلك الضابط الرفيع من الحكم و قيام حكومة انتقالية مدنية تسعى لحلحلة تلك التركة الثقيلة من نظام الضابط الرفيع المخلوع . فجاءة يطل علينا في مشهد الاحداث ضابطا رفيعا اخر يريد ان يعيد بذات الشرعية العسكرية عقارب الساعة للوراء , تاليا بيان يحمل نفس ملامح بيان الضابط المخلوع , مقدما تبريرات تشبه تبريرات الضابط المخلوع وقاطعا نفس الوعود التي قطعها ونكص عنها المخلوع , صارخا بنفس الصوت مقسما بنفس الايمان المغلظة بانه زاهدا في السلطة غير راغبا فيها البتة , وان هدفه و المؤسسة العسكرية التي ينتمي لها هو انجاز عملية الانتقال السياسي والوصول بالبلاد الى انتخابات حرة نزيهة يتم فيها اختيار من يرغب فيه الشعب لحكم البلاد . والمضحك المبكي ان هنالك البعض من الشعب من يراهن على هذا المكر والخديعة الجديدة ظنا منهم انه يمكن لضابطا رفيع من المؤسسة العسكرية ان يحمل اليهم الديمقراطية في طبق من ذهب. ان من يضيق صدره على تحمل الراي والرأي الاخر ,ومن لا يحتمل ان يرأسه مسؤول مدني لا ينتمي الى المؤسسة العسكرية وان من يكون كلفة غضبه من المساس بسمعة القوات المسلحة هو تدمير تجربة الانتقال السياسي المتوافق عليها ضمن وثيقة تم التوقيع عليها برعاية دول ضامنة وشهادة الأممالمتحدة والولايات المتحدة و دول الاتحاد الأوربي و اجهاض ثورة قامت على أساس شعارات وقيم الحرية والسلام والعادلة. ان من يفعل ذلك من دون ان يرف له جفن او يلازمه تأنيب للضمير . هذا الشخص من الصعب تصديق نواياه الحسنة والصادقة في إيصال البلاد لانتخابات حرة نزيهة. وها هي دماء الشهداء والجرحى منذ الامس تؤكد ان الفي الزير يبينو المغراف.