نحن – السودانيين – شعبٌ متأمل … ولذلك تجدُ غناءنا متفرداً عن غناء الآخرين …لا ينحصرُ ذاك التفردُ في ثراءِ مفردتنا المغناة فحسب، بل يتعداه إلى ثراءِ الصورة وعمق الفكرة …وهنا سأقدمُ نماذج لأغنياتٍ من شِعر أهل اليمين وأهل اليسار وممن لا يُصنفون ضمن الاتجاهين المذكورين … …………… النموذج الأول – أهل اليمين – "محمد المهدي المجذوب" في رائعة " المولد" … هنا يقدّم "المجذوب " صورةً عبقرية الجمال لتفاصيل احتفال السودانيين بالمولد النبوي الشريف …و في بداية القصيدة تطالعُنا هذا التساؤلاتُ الفلسفيةُ العميقةُ عن تناقضاتِ الكون: أيكونُ الخيرُ في الشر انطوى والقوى خرجت من ذرةٍ هي حُبلى بالعدم؟ أتراها تقتلُ الحربَ و تنجو بالسّلَم ويكون الضعفُ كالقوةِ حقا وذماما سوف ترعاه الأمم؟ تأملوا معي هذا العبارة العبقرية " تقتلُ الحربَ " …. و بالطبع لا يمكنني مغادرة هذه المقدمة الباذخة دون الإشارة الي الصورة المدهشة للموت في قول "المجذوب" : جعل الموت رجاءً.. وبقاء وغِراساً منه لا يفنى الثمر وحيّا الله " الكابلي" وهو يحوًل نص "المجذوب" العظيم إلى خبزِ يومي لنا أهل السودان …. ………… النموذج الثاني – من أهل اليسار كان "محمد الحسن سالم حميد " صادحاً بأحلام الفقراء وظلت أشعارُه النضالية العظيمة تشكّلُ وقوداَ للثورة السودانية في شتّى محطاتها …و في واحد من نصوصه التي تغنّى بها الكبير " مصطفى سيد أحمد " نطالعُ هذا الاختزالَ المدهش لكل منابع التغيير في التاريخ الإنساني: من الواسوق أبت تطلع من الأبرول أبت تطلع من الأقلام أبت تطلع من المدفع طلع خازوق خوازيق البلد زادت الواسوق = آلة تستخدم في شمال السودان لتسطيح الأرض قبل زراعتها وهي آلة فرعونية قديمة … الأبرول = هي الصيغة المسودنة لكلمة (overalls) الإنجليزية وهو رداء للطبقة العاملة … أبت = أي رفضت واستعصت …والحديث هنا عن ثورة التغيير …. الواسوق = إشارة الي الطبقة الزراعية والرعوية الابرول = إشارة الي طبقة العمال وقطاع الصناعة الأقلام = إشارة الي الطبقة المتعلّمة (النُخَب) في هذا المقطع القصير يختزلُ "حمّيد" كل منابع التغيير في المجتمعات الإنسانية …ويقولُ إنها عجزت طُراَ عن تقديم ثورةٍ حقيقية تدفع بالسودان إلى الأمام…لكن عتاب شاعرنا لهذه الطبقات يأتي رقيقاً …أما فيما يتعلّق بالجيش – ورمز له بالمدفع -فجاء عتابُه عنيفاً: من المدفع طلع خازوق خوازيق البلد زادت "الخازوق " هو قطعة حديدٍ تُدخَلُ في فم أو شرج الشخص بغرض قتله، و هي عادةً تُدفَع حتى تصل إلى النهاية الأخرى ..و لعل الكلمة تركية و دخلت إلي حيواتنا مثل عبارات تركية أخرى ( شفخانة و اجزخانة ) و غيرهما بحكم أننا كنت مستعمرةً تركية …و قد قرأنا في التاريخ كيف أن الفرنسيين قتلوا بالخازوق "سليمان الحلبي" الذي قتل اللورد " جان بابتيست كليبر" – حاكم مصر بعد نابوليون بونابرت – ثم تحوّلت الكلمة في الأذهان إلى مرادفٍ لكلمات مثل " مصيبة كبرى " ، و "مقلب عظيم "..الخ … فلدى "حميّد" لم يكتف الجيش السوداني بلعب دور العاجز عن إيقاد ثورةِ تغييرٍ حقيقية، و لكنه تحوّل إلى خازوقٍ عظيمٍ أُضيف إلى "خوازيق البلد " الأخرى …وفي الشطر الأخير إنصاف و عدل ..إذ ثمة خوازيق أخرى في البلد لم يُشر إليها "حمّيد" و تركها لتأمل القارئ و المستمع …. في هذا المقطع الصغير يضعُ "حمّيد" هذه الحمولة التاريخية و السياسية العظيمة للثورات في الكون عموماً ، و في السودان خاصةً.. …………. النموذج الثالث – يساري – أغنية " سمبلابة " لمحجوب شريف أنظر دوماً لأغنية " سمبلاية" باعتبارها " مانفيستو" للعلاقة العاطفية و الزوجية المثالية …و أجمل ما في الأغنية أنها لم تقدّم الحب ككائن سماوي خيالي ، و لكنها قدمته كعاطفة إنسانيةٍ تتأثرُ سلباً و ايجاباً بظروف المحبوبين … يصفُ "محجوب "علاقته بمحبوبته بالجمال في قوله : وبيني وبينك الضحكة ورحيق الشاي وطعم الخبز والسُترة ومساءَ النور ويصفُها بالمتانةِ و التجذُر في قوله: وصِدق العُشرة بين الأرض والإنسان وبيني وبينك الفكرة وجمال الذكرى والنسيان و حسن الظن بلى … ما أعمق علاقتنا بالأرض التي من خُلقنا و عليها معاشنا و إليها نعودُ يوماً….و ما أحلى أن نتشارك و أحبابنا الفكرةَ و جمال الذكريات و نسيات المرارات …كل ذلك في إطارٍ من حسن ظنٍ عظيم …. و محبوبة "محجوب شريف" هي ليست أنثى جسد فقط ..إذ يصفُها بقوله : لقيتك في حياتي جذور بنيّه اتلفحت بالنور مهجّنه من غنا الأطفال.. ومن سعف النخيل والنيل ومن وهج الشمس موّال هي إذن ضاربة جذوراً في تراب حياته، وهي بنتٌ هجينٌ من غناء الأطفال وسعف النخيل وموج النيل وهي موّالٌ كتبته أناملُ الشمس.. عليك شآبيب الرحمة يا أبا مريم !! …………. النموذج الرابع – نموذج لا يساري ولا يميني… في رائعة " للعظيم " على شبيكة " يصدحُ "ثنائي العاصمة" بهذا المقطع العظيم : حيّي كل جميل في رحابو أقيف غنّي لي الأنسام و أسري زي الطيف و أروي أيامك كلِّ معني لطيف بكرة ما برجاك غير رهاب الصيف هنا يخاطب "شبيكة " الشاعر في داخله فيسأله أن يلقي التحية على كل جميلٍ متأملاً جمالَه ، و أن يتغنى للأنسام و أن يسري في الكون كما الطيف ، و أن يحكي لأيامه كل المعاني اللطاف …ثم يقرر "شبيكة " الحقيقة الموجعة أننا جميعاً ذاهبون و أن ما ينتظرنا من نهايات الحياة لا يعدو أن كونه رهاباً – سراباً – صيفياً ماحقاً …. هذا المقطع الفلسفي العظيم يذكرني بمقطعٍ من رائعة" أنساني" للشاعر العظيم " عبد المنعم عبد الحي " : حبيبي الدنيا يوم بتروح وما بدوم لا فرح لا نوح و نحنا اليوم ورود بتفوح غداً نُصبح حطام أشواق وتذرونا الرياح في الدوح فليه قلبك تزيدو جروح هنا يقرر " عبد المنعم " الحقيقة الخالدة أن حيواتنا فانية فانية …و أنه لن يخلد فرحٌ أو حزن ..و أن الإنسانية هي ورود اليوم و حطام أشواق الغد …حطام ستنثره الرياح يوماً في عرصات الزمن …و هنا يُخاطب " عبد المنعم" محبوبته خطاباً فلسفياً عميقاً ..أن "لماذا تتسببين في مزيدٍ من الجراحات ؟ ألا يكفي حزن أننا ذاهبون يوماً ما ؟ …..و الاستعطاف في الغناء السوداني يأخذ أشكالاً عديدة ..فقد يكون استجداءً فلسفياً كما سبق .و قد يكون دينياً كقول "إسماعيل حسن " : خاف من الله على قلبي لكن تلك قصةٌ أخرى .. و في حوارٍ عميقٍ دار بينهما ، ذكر البرفسور " علي المك " للشاعر "يحيي فضل "أن الأغنية يمكن أن تسرّب مفاهيم فلسفيةً في غاية العمق إلى المتلقي ..و قدّم البروفسور " علي المك" نماذج من الشعر الحقيبة علي شاكلة : يا طبيب أنا سائلك قول لي بكل صراح أنحنا هل جنينا أم عقولنا نُصاح ؟ فالتمييز بين الجنون و العقل ليس أمراً سهلاً … أو في قول الشاعر : إنتا حكمة ولا آية و لا إنسان ؟ إنت صاحي و لا نايم و لا طرفك من طبعو نسعان ؟ فقضية الشك هي قضية فلسفية عميقة ..وقد قام عليها مذهب خطيرٌ في الفلسفة هو المذهب الديكارتي .. ثم تحدثا عن قضية الأصل و الظل في عدد من الأغنيات السودانية : يا ضلنا المرسوم على رمل المسافة وشاكي من طول الطريق للشاعر " يحيي فضل الله " نفسه …ثم رائعة " بناديها " للعظيم "عمر الطيب الدوش ": ولمّا تغيب عن الميعاد بفتِّش ليهَا في التاريخ واسأل عنَّها الأجداد واسأل عنّها المستقبل اللسّع سنينو بُعاد بفتِّش ليها في اللوحات مَحَل الخاطر الما عاد وفي أحزان عيون الناس وفي الضُّل الوقَف ما زاد ….. يتبع [email protected]