كل من وصل إلى سدة الحكم في السودان دغدغ مشاعر الشعب بالديمقراطية! فهل الديمقراطية مجرد شعارات أم هي نظام حكم يقوم على أسس راسخة من أهمها التداول السلمي للسلطة وممارسة الشورى وحفظ حقوق الإنسان وتأسيس نظام حزبي يضمن مشاركة الجمهور في تكوين المجالس النيابية وغيرها من الهيئات التي ترتبط بهذا النهج من الحكم؟ وسؤال آخر يطرح نفسه في هذا المقام، ألا وهو ما هو نوع الديمقراطية الذي يود السياسيون تطبيقه في السودان؟ وما هي المواعين التي من خلالها سوف تطبق الديمقراطية المنشودة؟ بكل تأكيد يسعى اليسار والأحزاب التي تدور في فلكه إلى تطبيق الديمقراطية الشعبية كتلك التي كانت في الاتحاد السوفيتي سابقاً، وهذه لا تعدو كونها شكلاً من الديكتاتورية التي لا يسمح فيها بالمشاركة لغير الشيوعيين، وقد أثبتت فشلها الذريع حتى انهارت روسيا مع أنها كانت الند العسكري لأمريكا. والديمقراطية الشعبية عبارة عن مفهوم للديمقراطية المباشرة تقوم على الاستفتاءات وغيرها من أدوات التمكين الأيديولوجي وتُعتبر في ظاهرها تجسيدًا للإرادة الشّعبية، بينما هي في واقع الأمر سعي للهيمنة على مرافق الدولة وتعيين أعضاء الحزب بغض النظر عن التأهيل والخبرة. وقد جربت الديمقراطية الشعبية في السودان في بداية العهد المايوي فأدت إلى نتائج كارثية، وقد جربت في كل من ليبيا على عهد القذافي، وقبلها مصر على يد جمال عبد الناصر وسوريا بعد تسلم حافظ الأسد وحزب البعث للحكم، وفي اليمن الجنوبي سابقاً، وفي كل هذه الحالات لم تجن الدول غير الدمار والحروب الأهلية والتخلف والتشرذم. وبالتالي فإن هذه التجربة غير مرحب بها في السودان. أما الأحزاب التقليدية، أو بالأصح الطائفية، التي ظلت تهيمن على الحراك السياسي منذ الاستقلال، سواء كانت في المعارضة أو الحكم، فهي التي أوردت السودان موارد التخلف والتفرق؛ لأنها أساساً لا تقوم على مبدأ ديمقراطي أو تشاوري، بل على الولاء الأعمى للأشخاص وليس المبادئ والأفكار التي لا توجد أصلاً. وهذه الأحزاب قد أتيحت لها الفرصة أكثر من مرة، ولكنها فشلت في إيجاد نموذج سوداني للديمقراطية يصلح للتطبيق وفقاً لواقع المجتمع السوداني؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ويضاف إلى ذلك أن هذه الأحزاب على الرغم من أنها نجحت، في بعض الفترات، من استقطاب قيادات ذات ثقل سياسي، إلا أنها لم تفلح في طرح برنامج تنموي من شأنه أن ينهض بالمجتمع السوداني ويدفعه نحو التنمية وزيادة الإنتاج والإنتاجية، بل اعتمدت على الهبات والقروض وتراكمت جراء ذلك ديون السودان وأثقلت كاهله وقعدت به؛ حتى صار كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى! فهذه الطائفة من الأحزاب غير مؤهلة لممارسة أي نوع من الديمقراطية بأي حال من الأحوال. أما تجربة حكم الإنقاذ، الأطول في فترات الحكم في السودان، فقد أضاعت على نفسها وعلى الشعب السوداني فرصة تطبيق المبادئ الإسلامية الصحيحة والعملية في السياسة العامة، بحيث تقدم تجربة يستهدى بها وتكون قابلة للتطبيق في كثير من دول العالم الإسلامي، ولكنها للأسف الشديد، أخفقت في الالتزام بأهم تلك المبادئ الإسلامية التي منها الإخلاص وتقديم القدوة الحسنة والتجرد والشورى وتثبيت أسس الديمقراطية الإنسانيّة، كحق يكتسبه الإنسان بإرادته وحريته ووفقاً لمسؤوليته الفردية، مع ترسيخ قيم المساواة بين الناس بغض النظر عن الفكر أو العرق او اللون أو الجهة التي ينتمي إليها. ولكنها مالت لتكريس السلطة وفرض رؤيتها عبر ممارسات غير راشدة ولا تتفق مع ما كانت ترفع من شعارات وطرح لمشروع حضاري يقال إنه يقوم على الإسلام، ومع أنها قد حققت من إنجازات لا ينكرها إلا مكابر، إلا أنها فشلت في تنزيل مشروعها على أرض الواقع بشكل مقبول ومستدام. وإذا نظرنا إلى الأحزاب الجهوية والحركات المسلحة، في كثير من أنحاء السودان، لوجدنا أنها غير مؤهلة بطبيعة تكوينها لممارسة الديمقراطية إلا إذا تحولت إلى أحزاب قومية تستوعب أناساً من كل أنحاء البلاد وفق برنامج واضح المعالم والأهداف وبتوجه وطني لا يقوم على القبيلة ولا الجهة. عموماً تظل الديمقراطية في السودان مجرد حلم أو نوعاً من الفنتازيا التي لا تمت لواقع الحياة بصلة، أو هي أوهام لا يمكن أن تتحول إلى واقع حتى تتكون في السودان أحزاب وطنية ترتكز على قيم ومورثات الشعب السوداني، وتستوعب تنوعه الاثني والثقافي، ولا تقصي فرداً أو جماعة بسبب النوع أو الانتماء الفكري أو الجهوي، ويكون لديها في ذات الوقت برامج ورؤى تنموية تستفيد من موارد السودان ومصادره المتنوعة. وإذا لم نستفيد من تجارب الدول الأخرى، سنظل كمن يحرث في البحر!