تثير مقابلات التوم هجو وعسكوري واردول مع قناة الجزيرة والمحاور القدير احمد طه الكثير من السخرية والتندر والضحك لضحالة اجاباتهم وغرابة منطقهم وكأنهم يعيشون في كوكب اخر غير الذي نعيش فيه. كذلك تثير مقابلات من يطلقون علي انفسهم خبراء استراتيجيين الكثير من السخرية والشفقة والامتعاض، ليس لان الاستراتيجية وكمجال واسع مثلها في ذلك مثل اتخاذ القرار ووضع السياسات ، لا يمكن ان يكون به خبراء فقط، بل لان كل كلمة ينطقون بها تدل علي افتقادهم لابسط مقومات الفطرة السليمة والعقل الذي يميز ابسط الأشياء التي لا تحتاج الي خبرة ولا معرفة. وأود ان ابدأ بتوضيح انني لا انوي الكتابة عن التوم هجو ولا عسكورى ولا اردول فهم لا يستحقون سطرا واحد، حيث انهم يقفون عراة كما ولدتهم امهاتهم امام شعبنا بتسلقهم الثورة علي دماء الشهداء وانحيازهم للجنة البشير الامنية، ولكن هذا المقال يحاول القاء بعض الضوء علي من هم اخطر منهم وهم من اسميهم في هذا المقال "التوم هجو الاخر" واسمي الهراء الذي يهرفون به ليل نهار في الصحف السيارة ولجان الوساطات وصنع سياسة بعض الأحزاب ب"استراتيجية بخور التيمان".
وللذين يبعدون عن الواقع السوداني جغرافيا او تاريخيا، فبخور التيمان هو من اشهر أنواع البخور التي عرفها الانسان السوداني. وهو جزء هام من جلسات شرب القهوة وطرد الذباب وتعطير رائحة المكان، وهي فوائد عملية يمكن اثباتها او دحضها. ولكن ما نعنيه هنا هو الجانب الاخر لبخور التيمان وهو الزعم بمقدرته علي الوقاية من السحر والحسد وطرد الجن والارواح الشريرة. وهي مقدرة لا علاقة لها بالعلم ، أي انه لا يمكن دحضها او اثباتها ، وهو ما نعنيه باستراتيجية بخور التيمان.
ولتسليط الضوء علي استراتيجيي "بخور التيمان" ساقوم بسياحة سريعة في مسيرة ثورة شعبنا والقرارات التي اتخذها هؤلاء وكيف اصابت هذه القرارات الثورة في مقتل. وبالطبع لن اذكر أسماء هؤلاء حيث لا انوي القاء اللوم او الاتهام علي افراد رغم دورهم الهام في الوضع الذي نعيشه اليوم. ان دافعي في عدم التركيز علي الافراد او الأسماء هو تجنب الوقوع في شراك الاكتفاء بلوم هذا "المفكر" او ذاك و هذا "الخبير" او "ذاك" والظن ان فلان او علان هو سبب المشكلة وان اختيار "خبير" اخر او "مفكر" اخر محلي أو أممي سيحل مشكلة الدوامة التي تعيشها بلادنا من ثورات، ديمقراطيات قصيرة وديكتاتوريات اشد بطشا واكثر جبروتا وقمعا.
فلقد عاشت بلادنا ومنذ استقلالها ثلاث ديمقراطيات تقارب جملتها ال 11 عاما وثلاثة ديكتاتوريات تقارب ال52 عاما، أي ان الديكتاتوريات بقمعها وبطشها ونهبها لموارد بلادنا والافقار المادي والفكري تكاد تكون خمسة اضعاف فترات الديمقراطية. ولعله من الهام جدا الإشارة الي ان الديمقراطية ورغم قصر عمرها قد كانت ضعيفة وهزيلة واهدرتها احزابنا في الاتفاق علي الا تتفق. ولعلنا نلاحظ التزايد ليس في الفترة الزمنية لكل ديكتاتورية عن سابقتها، بل درجة العنف وانتهاك حقوق الانسان واضطهاد المرأة والسجن والقتل لمجرد الشبهة في الاختلاف في الرأي. لقد كان مشروع الهراء الحضاري للاخوان المسلمين في السودان هو تتويج لعقود من الانحطاط الفكري والاختلاف السياسي والايديولوجي وإصرار كل حزب علي رفض الاخر وفرض رؤيته لادارة البلاد والعباد. استراتيجية بخور التيمان لا يختلف اثنان علي بسالة بنات وأبناء شعبنا واصرارهم علي اسقاط نظام المخلوع البشير رغم آلة القمع من امن ودعم سريع وامن شعبي. ولان شعبنا لا يثق في مقدرة احزابنا علي تحمل مسؤوليتها في الانتقال الديمقراطي، فقد تم اختيار السيد حمدوك بوصفه خبيرا امميا سيقود الفترة الانتقالية للاستفادة من خبرته في العمل في منظمة دولية. ولقد تم الاختيار بطريقتنا السودانية المعروفة والتي نصر فيها علي عدم التساؤل والاجابة علي كل الأسئلة الممكنة بافتراضات لا علاقة لها بالواقع. انها طريقة "باركوها" والاكتفاء بظاهر الاشياء. ولقد بدأت علامات ضعف وعجز الرجل منذ الأسبوع الأول لوصوله ، وهو عجز كان من الممكن تداركه لو فتح الباب للشباب ولمن يختلفون معه في الرأي للاشتراك في اتخاذ القرار. كان أيضا من الممكن تدارك عجز الرجل لو تم ربط الحكومة الانتقالية بالشارع وبلجان المقاومة وبكل الحادبين والقادرين علي مساعدة التغيير في بلادنا وهم ليسوا قلة. لقد تم الاحتماء بالشلة وهم الذين يعرفون بعضهم البعض ويفكرون بطريقة تكاد ان تكون واحدة وتقريبا يرتكبون نفس الأخطاء، فالتفوا حول الرجل وضربوا حوله سدا منيعا. وكما تم عزل الحكومة الانتقالية عن مصدر قوتها في مواجهة لجنة البشير الأمنية وقوات الدعم السريع، وتم الاستغناء عن الرأي الاخر، الرأي المخالف والاستعاضة عنه بالاصدقاء فقد تم وربما دون قصد تكبير نقاط العمي الفكري. فالمجموعة التي احتضنت الخبير الاممي ظنت ان القدر قد ساق اليها فرصتها الذهبية لتحقيق مشروعها في حكم السودان وإقامة حزبها واثبات لمن فصلوهم من حزبهم السابق انهم قادة بحق وحقيقة وان الحزب هو الخاسر بفصلهم ، فشمروا عن سواعدهم وتقاسموا الأدوار.وللاسف فلقد كانوا يقرأون من نفس كتاب المؤتمر الوطني، كتاب ايديولوجيات امتلاك الحقيقة المطلقة، من تعيين مستشارين غير معلنين ومن ضرب سياج حديدي حول خبيرهم الاممي الذي اكتفي برفع علامة النصر واشتهر بسين التسويف (سنصمد وسنعبر وسننتصر). وحتي نتبين الجريمة التي ارتكبها استراتيجيو بخور التيمان في حق شعبنا وثورته، اود ان اعرف الاستراتيجية تعريفا دقيقا ثم اعود والقي بعض الضوء علي استراتيجية هولاء وعلي الضرر الذي الحقته بنضال بنات وأبناء شعبنا وحلمهم في وطن يليق بهم وببسالتهم وتضحياتهم. يعرف بروفسير ريتشارد روميلت Richard Rumelt أستاذ الاستراتيجية والممارس في الاستراتيجية العسكرية وإدارة الاعمال والذي لا يعرف نفسه بانه خبير، ومؤلف اشهر كتاب عن الاستراتيجية (Good strategy, bad strategy, the difference and why it matters) يعرف الاستراتيجية بانها : تحتوي علي ثلاثة عناصر يسميها نواة الاستراتيجية. وهذه العناصر هي تحليل الواقع كما هو ، ليس كما ينبغي او كما نشتهي، موجهات مرشدة للفعل، وفعل متناغم ومتماسك. والموجهات المرشدة للفعل هي موجهات للتعامل مع صعاب الواقع التي تم تحديدها في خطوة التحليل، وهي اشبه بعلامات الطريق دون ان تكون إرشادات مفصلة للرحلة. الأفعال المتامسكة يتم توجيه كل الجهد والمقدرات لانجازها. من المهم جدا ان نركز في كلمة متماسكة ، والتماسك هنا يعني ان كل الأفعال تخدم وبانسجام معالجة الصعاب التي تم تحديدها في تحليل الواقع. ولعل ما قام به استراتيجيو بخور التيمان هو الاستعاضة عن العمل الجاد وتحليل الواقع في ذلك الوقت بالعمل السهل دون تحليل ولا خارطة طريق لحل مشكلات الانتقال. لقد استعاضوا عن التحليل بالانشاء والتنميق وهو ما وصفه روميلت بكلام الاحد للتعبير عن ان الشخص في حالة إجازة واسترخاء ويطلق الكلام علي عواهنه كما يقولون دون ان يكترث. لقد استهانوا بالمهمة التاريخية الشاقة وضخموا من ذواتهم ومقدراتهم مما تسبب في الواقع المأزوم الذي تعيشه بلادنا اليوم. ولعلنا لا نغالي ان قلنا ان لهم نصيب الأسد في أرواح الشباب الذين استشهدوا وهم يحاولون تصحيح الواقع المعقد الذي زاده عدم وجود استراتيجية نابعة من تحليل الواقع وصياغة خارطة طريق لافعال متماسكة ومتناغمة لتزليلها. لقد ابدل هؤلاء الشارع بتحويل الحكومة الانتقالية الي عربة يجرهها حصان البرهان والدعم السريع وهو ما يجعلنا نرجح ان القول بانه لم تكن لديهم استراتيجية قول غير دقيق. لقد كانت لديهم الاستراتيجية الخاطئة والتي تحلق فوق الواقع وحقائقه دون تحليلها تحليلا صارما. فبدلا من ربط الحكومة الانتقالية بالشارع، تم عزلها تماما وتم تنصيب المستشارين من الأصدقاء، بل وتم الإصرار علي عدم تشكيل اللجان الاستشارية للوزراء كما كان متفقا عليه. لا زلت اذكر ذلك المستشار وهو يتحدث في احد محطات الراديو المحلية باننا قد مررنا من مرحلة الثورة الي مرحلة الدولة. لاحظ اطلاق مثل هذه التصريحات والقناعات التي تصدر عنها ولم يتم المساس بنظام الإنقاذ الذي كان تفكيكه علي رأس قائمة المهام التي كانت ستذلل الكثير من الصعاب وتمهد للانتقال.
نواة استراتيجية الحكومة الانتقالية كان يقتضي الاعتراف بالواقع الخطير وهو ما ادركه ويدركه معظم الشعب السوداني: قوي الحرية والتغيير في شراكة مع عدو مدجج بالسلاح وهو لجنة البشير الأمنية بقيادة البرهان وحميدتي عدو بوصلته تعليمات محور الامارات والسعودية ومصر، هذا المحور الذي لا يريد قيام حكم ديمقراطي في السودان، عدو يعمل ليل نهار علي هزيمة ثورة شعبنا والخوض في دماء شبابه.ان مصدر قوة الحكومة الانتقالية هو توحيد قوي الانتقال وربط الحكومة بالشارع وبلجان المقاومة والتزام جانب الشفافية في كل سلوكها وسياساتها والإصرار علي مخاطبة الشارع وتمليكه الحقائق كصاحب المصلحة في التغيير وقوة ضغط تعمل لها لجنة البشير الأمنية الف حساب. بدلا عن هذا انطلقت الحكومة الانتقالية بقيادة احد مستشاريها وأيضا الأحزاب المشاركة وغير المشاركة وبدرجات مختلفة في مطاردة الحركات المسلحة والتي أصبحت فيما بعد وقودا ضد الثورة وسندا لانقلاب البرهان علي خيارات شعبنا. ولقد ارتفعت بعض الأصوات تتسأل عن الحكمة في محاورة الحركات المسلحة تارة في مصر وتارة في جوبا بعيدا عن الخرطوم عاصمة الثورة. لقد كشفت الأيام وكما توقعنا ان محادثات السلام كانت محادثات محاصصة وتقاسم غنائم ودماء شهداء ثورتنا لم تجف بعد، لذا كانت السرية المطلقة تلف هذه المحادثات. ولقد تم الاستعاضة عن تفكيك نظام الإنقاذ ببهلوانيات لجنة تفكيك التمكين التي صار دورها كالحقن المخدرة للشارع والثوار ولجان المقاومة. لقد تغير المستشارون ولكن لم تتغير طريقة عمل الكيزان من سرية واحتكار للعمل والفهلوة والبلطجة السياسية. ودون إعادة ما يعرفه ويعيشه الغالبية في بلادنا، فلقد تم تجاهل اهم ما أدى الي نجاح الثوار في اسقاط المخلوع من عمل جماعي، توحد حول الهدف دون الاهتمام بتسجيل اهداف لمصلحة هذا الحزب او ذاك؛ الشفافية التي ادهشت العالم حتي في مواعيد انطلاق المواكب. مشاكل السياسية مشاكل مركبة complex لا يحلها الخبراء بمفردهم، بل تحل عن طريق العمل الجماعي والصبر علي الراي الاخر وعدم تعجل النتائج. وتحتاج مثل هذه المشاكل الي القائد الذي يعرف ما يعرف وما لايعرف ولديه الشجاعة الفكرية والأخلاقية للقيادة واتخاذ القرار بالمتوفر لديه من المعلومات. تحتاج أيضا الي التفكير بطريقة شاملة حتي في تخطيط وتنفيذ المهام الصغيرة ومراعاة تاثيرها علي المنظومة الكاملة والي الاعتراف بعدم المقدرة علي التنبوء لا بحركة المجتمع ولا بمعرفة تاثير كل فعل مهما صغر الا بعد حدوثه، لذا لا بد من التخطيط مع عدم اتباع الخطط اتباعا اعمي، ولا بد من المراقبة الدقيقة للنتائج وطرق العمل وتعديلها علي ضوء المعلومات الجديدة. تحتاج الي من ينقل الثورة الي الدولة لا من ينصب جدرانا بين الثورة كفعل يظنه مؤقتا والدولة. تحتاج الي عقلية الثوار من بنات وأبناء شعبنا وهي عقلية التحسين والتطوير المستمر. انه فعل يبدو من الخارج كفعل غير مرتب وفوضوي ولكنه متماسك يتعلم من يقومون به ويطورونه من خلال الممارسة.
هذا الفصل ادي الي إضاعة الكثير من طاقة الثورة والثوار. ولعل من سخريات ذلك الوضع عدد المسيرات التي سيرها الثوار للحكومة الانتقالية والتي من المفترض ان تكون حكومتهم، وإصرار ورفض السيد حمدوك علي عدم مقابلتهم. لقد تم الاستعاضة عن الالتحام بالشارع والعمل علي ربط اكبر قطاع من بنات وأبناء شعبنا بالحكومة الانتقالية، التركيز علي جماعات "شكرا حمدوك" وتحويل كل المشهد السياسي الجاد جدا والذي دفع شبابنا ارواحهم ثمنا له الي سيرك من البلطجه والفهلوة السياسية مما شجع كتلة داعمي انقلاب 25 أكتوبر الي محاولة تنصيب انفسهم ككتلة موازية لقحت التي كانت تفقد رصيدها في الشارع يوما بعد يوم. من المؤسف ان الفهلوة السياسية والعزلة عن الشارع استمرت وبوتيرة اسرع في حكومة السيد حمدوك الثانية. لقد تمكن أعداء الثورة من ترتيب صفوفهم واحكم الكيزان قبضهم في معاش الناس وحياتهم اليومية فصارت الحياة جحيما لا يطاق. في هذا الواقع كانت الحكومة في واد اخر غير وادي الشعب، واستعاض انشط عناصرها بلايفات تحتفي بالافعال والحركة دون النتائج الملموسة التي تنعكس علي حياة المواطن اليومية. فكانت اللايفات تبشر بالاجتماعات وجلب الشركات الأجنبية بينما يبحث المواطن عن الادوية المنقذة للحياة ويعاني من انقطاع التيار الكهربائي لاكثر من نصف يومه. كانت الحكومة توغل في الابتعاد عن الشارع والنوم في سرير البرهان فانفجر الشرق بفعل مدبر ولم يتوفر التيار الكهربائي ولا الخبز بل توفرت تصريحات مني اركو الذي بدأ في التململ من عدم توفر المال الذي تم الاتفاق عليه في محادثات سلام المحاصصة. لقد انفرد حزب اخر بإدارة شوون السيد الخبير الاممي وكانت كل الحكومة في حالة اجتماعات وتصريحات ولايفات دون نتائج تذكر علي ارض الواقع. وعندما اصبح الوضع من السوء بمكان لجأ الاستهبال السياسي كما اطلقت عليه الصحافية القديرة، عالية المهنية شمائل النور في اطلاق عبارات التخدير من شاكلة الضوء في اخر النفق. لقد دافع البعض عن حكومة السيد حمدوك وهو دفاع لا يصدر عن سوء نية ولكنه العشم الذي عقد علي حكومة الثورة. فكانت تبريرات من شاكلة انه لا يمكن اصلاح خراب ثلاثين عاما في عامين وهي حجة منطقية ولكن المحك ليس وجود فعل سحري لحكومة الانتقال لتغير خراب ثلاثين عاما في عامين، بل هو عدم وجود اية تقدم يذكر. لقد كان واقع المواطن السوداني وهو المقياس الحقيقي لاية سياسات، يتدهور وبسرعة مذهلة صباح كل يوم. وبدلا عن مواجهة الشارع بالحقائق التي يعرفها والاعتراف بعدم الفعل، كان خطاب "الضوء في اخر النفق" وهو وضع اشبه بوضع اليس في بلاد العجائب عندما كانت اليس تتصبب عرقا وهي تتحرك كل الوقت دون اية تقدم وكانت اجابتها لتبرير العرق المتصبب والحركة في مكانها بان في بلادنا التي تتسم بالبطء اننا نبذل كل هذا الجهد لنظل في مكاننا وهو امر مالوف. [email protected]