يُنسب إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه قوله "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرءان"، واضح جداً أنه رضي الله عنه كان يتكلم بلسانٍ سياسيٍ مبين ، فهو يعرف جيداً كيف تُدار أمور الناس من باب "اهو منزلٌ أنزله الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة"! فالقرءان يعمل في مستوى وجدان الناس وأخلاقهم ، بينما الدول لا تقوم على الضمائر والأخلاق ، وإنما على مبدأ سيادة حكم القانون ، والقانون السياسي تشريعٌ اجتماعيٌ تُفرزه حاجة الناس لتنظيم شؤون حياتهم المتغيرة أبداً ، في اطار ضوابط عامة وأُطر مرجعية عُليا . فالدولة تتكون من البر والفاجر ، وكلاهما مواطن وله كامل حقوق المواطنة. فالبعض يكفيه وخزة من ضميره والبعض يُقرع بعصا القانون الغليظة. إذا أضفنا إلى هذا القول ، ماورد عن الامام علي كرَّم الله وجهه ، عندما صاح الخوارج بالمقولة التي أصبحت فيما بعد شعار كل الجماعات الإسلاموية الطامحة إلى الحكم "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ"، فما كان منه إلا أن قال لهم بكبرياء العارف "نعم الحكم لله في الحلال والحرام ، ولكن الامارة للناس ، إن هي إلا قولة حق أُريد بها باطل"، وأردف قائلاً ، "القرءان بين دفتي المصحف صامت ، وإنما يتكلم به الرجال". النص القرءاني ثابت ، ولكن فهم الناس للنص مُتحرك بحركة حياة الناس ، وإلا لما وجدنا في الاسلام خوارج وسنة وشيعة ومعتزلة وأشعرية وماتريدية وقدرية وإباضية وسلفية ودواعش وغيرهم والكل يدعي أنه على الحق . ولنا أن نستأنس هنا بما جاء في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم قَسَّم غنائم حُنين على المهاجرين والطلقاء ، ولم يعط الأنصار شيئا، فغضب بعضهم ، وبلغه ذلك فجمهم وخطب فيهم ثم قال: " … أما والله لو شئتم لقلتم … أتيتنا مكذبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك … أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعون برسول الله في رحالكم ؟ والذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً والأنصار شعباَ ، لسلكت شعب الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار …"، فبكى الأنصار ، وقالوا : رضينا برسول الله قسماً وحظاً. الخلاصة : السياسة هي محاولة ذكية ومرهقة ومستمرة لفهم الواقع المتحرك بهدف إدارته والتحكم في مساراته بوسائل تُرضي غالبية الناس وتحفظ حقوق الجميع بلا استثناء ، أما الدين فهو أداة إلهية تُهذَّب وتُقوَّم نفوس الناس ليُصبحوا مواطنين صالحين قادرين على إدارة أنفسهم ، فإذا كان القانون يحمل الناس على أداء واجباتهم ، فالدين يَحُضُّ الناسَ على تقديم الفضائل قرباناً لله تعالى واستسلاماً لأوامره ! . [email protected]