ما كدنا نفيق من بوست على الواتساب يتحدث عن عروبة السودان في حديثه عن مشاكل الجامعة العربية ، حتى وردنا آخر يصفنا بالكسل ، ويتهمنا به، ففي الأول وصف أحدهم الجامعة العربية بأن بها خللا جوهريا ، وهو احتواؤها دولا غير عربية كالصومال وجيبوتي والشناقيط المرابطين في موريتانيا الحديثة علاوة على السودان . وفيما يتصل بقضية عروبة السودان ، أقول لمن ينفيها ، ويجعل الجامعة العربية تعاني خللا جوهريا بقبولها بلدا كالسودان ، فاعلم بأن مشكلة الجامعة تعود لمن يسيطرون عليها بطرق وأساليب مختلفة ، ومن يدعون العروبة أكثر من الآخرين بسطحية مقيتة ، أما عروبة السودان في حد ذاتها ، فإنني أسلك في إثباتها طريقا مختلفا ، ومنهجا مغايرا . وأنوه إلى أن هذه المحاولات في التشكيك في عروبة السودان ليست الأولى ، ولا أظنها ستكون الأخيرة ، فعند تقدم السودان بطلب الانضمام للجامعة العربية اعترض علينا أرمن الشام ، ورومانه، بحجة أننا لسنا عربا ، فألزمناهم الحجة والبرهان ، فسكتوا ، وجرى للإمام الصادق المهدي عليه الرحمات ما جرى عند تقدمه لعضوية جمعية الطلاب العرب بلندن ، فاعترض من اعترض لكونه غير عربي ، فألزمهم الحجة والبرهان ، وظل رئيسا للجمعية طوال دراسته لما لديه من فكر ثاقب معتدل ومنهج وسطي ، يتسع لاختلافات العرب التي لا تنتهي ، وكل ما في الأمر هي سطحية العرب باللون ، وغريب أن يجهل العرب أصل لونهم!!! . أما ما أقوله في بيان عروبة السودان والسودانيين ، فإني أرجع فيه لما لا يتنازع عليه السودانيون في تراثهم وعاداتهم وتقاليدهم ولهجاتهم : فما فائدة اللغة لو لم يكن لها انعكاسها كواقع معاش في العادات والتقاليد والقيم !!! . اولا : أبدأ بالحديث المأثور عن النبي عليه الصلاة والسلام (ليست العربية بأم أحدكم ولا بأبيه، فمن تكلم العربية فهو عربي) ، فهل من مزيد على حديث المعصوم الذي لا ينطلق عن الهوى عليه الصلاة والسلام ؟ وحسبك أن إمام النحاة سيبويه أعجمي الأرومة والعرق . ثانيا : وإن ذهبت إلى اللون أو كلمة زول ، فاعلم أن الشاعر العربي القديم قالها : أنا أخضر الجلدة أصل بيت العرب. أخضر الجلدة يملأ الدلو حد الكرب !!! . علي العرب أن يعرفوا أصل لونهم ، ولا ينكروه بما طرأ عليهم من تهاجن ومستحضرات!!! . ولم تكن للألوان حجية في دحض الهويات ، إنما هذه سطحية مقيته!!! . وشاعر آخر أقدم من هذا ، بل وأقدم من أصحاب المعلقات في عجز بيت : لقد قابلت بمكة أزوالا ، وفي كلمة زول راجع المسلسلات البدوية الأردنية ، لتعرف طرفا من معني كلمة زول ، وأحيل السائلين عن التفاصيل في هذا الباب لبحث ابن عمي بروف/ وافي صلاح ماجد بالجامعة الأمريكية بلبنان ، للإفادة أكثر ، ونحن نقول في أغانينا (الاخضر لونو زرعي والاخضر الليموني) ، وأتحدى نافي عروبة السودان أن يجد نظير هذا في أي بلد آخر . ثالثا : ملاحم التراث الشعبي – وليست الأبحاث الأكاديمية – ، وأحيلك إلى أبيات الشاعرة بنونة بت المك في رثاء فارسها تقول: أسد بيشة البي يكر. قمزاتو مطابقات ، فهل تعلم أين بيشة ؟؟؟ وهل تعلم تاريخها القديم ؟ إنما كانت بيشة مأسدة ، أي أرض بها الأسود ، تلتهم من يشق الغابة ليجلب النوق العصافير مهرا للحبيبة ، وقد قتله بشر الذي أنشد : أفاطم لو تعلمين ببطن خبت لقد لاقي الهزبر أخاك بشرا ملاحظة جانبية : هذا مما درسناه في الإعدادية .. وأتحداك أن تجد في تراث بلاد العرب قاطبة مثل ذلك، حتى تلك المسيطرة على جامعة العرب ، وإني أتساءل من أعلم القروية التي أنشدت أبياتها في وصف فارسها عن بيشة ، وأسدها ، لولا إحساسها ، وعلمها الشفاهي ؟ وهل سمعت عن رقية في رثاء بطلنا ود حبوبة في أرجوزتها : (الجنزير في النجوم زي الهيكل المنظوم ما بخاف) ، تقول : (هزيت البلاد من اليمن للشام) ، فمن أين واتاها هذا الإحساس بتلك البلاد ، وسعتها ، وأهميتها ، لولا ما تدخره من معرفة شفاهية بها، وأتحداك منكر عروبة السودان أن تأتي بآثار من أدب شعبي مناظر ، عدا عن وصف تلك القروية البسيطة لأخيها البطل الصنديد بسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه قائلة: غير خالد ماليك تنين عرش دود الأربعين . وغيرها آلاف الأبيات في أغانينا ، وأهازيجنا الشعبية لأبطالنا ، وللمرة المليون أتحداك أن تجد مثل هذا في تراث شعبي عربي قديم أو حديث ، في عامية الناس في أي بلد عربي لأناس لم يفكوا الخط ، فمن العرب نحن أم هم؟ مالكم كيف تحكمون!!! . رابعا : ولأن اللغة ليست كلاما ، وإنما عادات وتقاليد ، وأكل وشرب ، وآثار في البناء والأواني ، وتاريخ ، فراجع أكل الأقدمين من أهلك ، هل لديهم في مضارب خيامهم أكلة قديمة ، لفها النسيان اسمها (الحوار) ، نعم نحن عندنا ونسميها الحوار بتشديد الواو ، وهي من أطيب الأكل ، وعزيزة ، وقد أكلها أحد الأطباء السودانيين الاستشاريين في بادية الخليج ، قبل عقود وحكى عنها !!! . وأفيدك أكثر ، هل تعرف كيف يستخرج السمن من لبن الأنعام عن طريق هزالقربة (السعن في عاميتنا) معلقا بثلاث عصي ، وإن لم تعرف هذا ، فمؤكد راجع هويتك ، وقد وجدت نفس هذه الطريقة في حوش احد الأصدقاء بالخليج ، فسألته عنها ، فاذا هي هي ، ونسميها نحن باسم محلي آخر : (الكشمبير)، فمن يراجع هويته نحن أم أنتم !!! . وقد وجدت لوحات شعبية في بيئة الخليج العربية القحة ، تزين حوائط المكاتب ، والمنازل التي لا شك في عروبتها ، فوجدتها تحكي حياتنا في قرانا أيضا ، منها لوحات تحكي مجالس النساء لضفر السعف لعمل البروش، وللغزل لعمل الفرش ، والبسط ، وأغطية الخيام ، مما يعرف في بادية الجزيرة العربية. دخول العرب : أما إذا تناولنا موضوع الهجرات ، فللبروفيسور عبد الله الطيب مبحث طريف حول هجرة الصحابة رضي الله عنهم للحبشة ، جازما أنها كانت للسودان لأن لفظ الحبشة يعني الأسود ، وأنه لا توجد بالحبشة أنهار داخلية كتلك التي أشارت إليها أحاديث الهجرة. ودعنا من هذا الحديث ، فقد ثبت أن العرب في السودان 400 قبيلة ، وأن كثيرا من لهجات العرب توطنت مع تلك القبائل في السودان ، فمنكر عروبتنا مدعو لزيارتنا ، ليسمع عربيتنا فصيحة في باديتنا غربا وشمالا ووسطا ، فاسمع لحرائرنا في سهول كردفان ، لترى كيف يجلسن في الهودج كفعل العربيات قديما ، وكيف يرتحل القوم ، ويحدون إبلهم ، وامض للبطانة ترى ما يشبه ذلك ، أو كما قال علامة اللغة العربية العقاد الذي بدأ فكرة تأليف العبقريات في السودان ، وأشاد بما وجده من أمهات الكتب والمراجع ، وثقاة ساعدته في التخطيط لتأليف كتب العبقريات ، لذلك قال حكمته المشهودة (من أراد اللغة العربية فعليه ببادية السودان). مسألة أخيرة : ما المتبقي من عادات العرب في باديتهم الأصلية ، لا زالت لدينا الضريرة (الذريرة)، توضع على رأس العريس وعروسه ، ونعلق سبحة اليسر في رقبة العريس تفاؤلا بما صنعته السيدة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم بفداء زوجها أبي العاص رضي الله عنه بقلادة من اليسر . وارجع لزانا رجالا ونساء ، تعلم العمامة ، والجلباب ، والتوب للمرأة من أين جاء. واخيرا نقول لك أن علاقة العرب شرق البحر الأحمر لم تقتصر علي دخول الإسلام ، بل قبله بكثير ، إذ يقول المسعودي أن الخيل خرجت لسيدنا إسماعيل عليه السلام من البحر ، وقطعا ، يقصد خروجها من المراكب القادمة من الجهة المقابلة أي السودان. وأخيرا من جمع العرب وداوى جراحهم عام 67 في هزيمة حزيران ، ومن أصلح بين الزعيمين ناصر والملك فيصل ، لتعود اللحمة العربية ، فما لكم كيف تحكمون ؟ لا تكتبوا هكذا دون وقائع وأحداث معاشة ، وآثار من اللغة والثقافة ، وقيمهم ومعاشهم ومعادهم !!! . فمحنة الجامعة العربية فيمن يقودون عجلة القيادة ، وليس من هم في عربة الفرملة !!! . أما قولك أن السودانيين أنفسهم يناقشون ، وينفون عروبتهم ، فأقول لك : إنما ذلك رد فعل ، وليس فعلا لما يلاقونه في السلوك ، وهل أتاك نبأ الراعي السوداني في بادية السعودية حيث سأله في صحراء بلقع استفزازا ، سألوه عن أصله ، فقال وأصّل اصول معظم قبائل السودان ، ثم قال شهادته فيهم : أما أنتم فالله اعلم من أين جئتم). أما البوستات التي تصف السودانيين بالكسل ، والتي تتندر بذلك ، أو تغمز جادة، فعلينا أن نناقشهم بروية، ولنتكلم واقعيا ، فأرضنا القابلة للزراعة حسب الرقم المشهور : 200 مليون فدان ، وعددنا 40 مليون إنسان ، ولو سلمنا بأننا جميعا شباب ، ليس فينا طفل ولا عجوز ، فعلى كل منا أن يزرع 5 أفدنة ، فهل يمكن ذلك لفرد ؟ فأين الاستثمار ليعمل الناس ، وأين الآلات المعينة ؟ وأين .. ؟ وأين؟ . وكنت أتمنى لو ظهرت هذه البوستات قبل العام 1980م لدعوت من كتبوها لزيارة شمال السودان ليصافحوا فلاحيه، حيث سيصرخون ألما لفرط قسوة أكفهم التي تصارع البيئة هناك لتزرع وتنتج ، بل أجزم أن التشققات بأرجل بعضهم تسمح بدخول عقرب صغير ، والخروج بسلام ، فأي كسل يمكن أن يوصم به من يزرع ، ويروي بالساقية التي تشبه في تعقيدها ، وتركيبها تروس السيارة ، وأعلم أن إحدى السيدات أتمت أربعينها بعد الولادة ، وخرجت تزرع ، هل تعلم لماذا ؟ لأن زوجها خرج في تجارة ، وتركها بأمان وسط أهلها وناسها في حفظ الله ، تحت إغراء ربح التجارة الذي يفوق الزراعة ، فيما يفرح المزارعون بالشتاء القارص البرد ، ويفتحون قنوات الري في ليالي شاتية تصل درجة الحرارة الي 5 درجات ، وما دون ، ورغم ذلك هم سعداء لشدة البرد، لأنه يفيد محصولي القمح والفول ، وهم بذلك يستبشرون ، بل ويحزنون، إذا كان الشتاء بائسا ، لأن محصول القمح سيكون قويا نضيرا رائعا . هل تعلم يا من تتهمنا بالكسل ، أن طلاب المدارس كانوا يلقطون ما سقط من بذور أثناء الحصاد ، خاصة الفول المصري ، ونسميه (بالدوليق) من الحصاد ، فيبيعونه ، ويشترون به حوائجهم البسيطة ، وينجحون بعد مذاكرة جادة في ظروف حادة . يا عزيزي متهم السودانيين بالكسل ، لو استقر السودان، سيعلم الناس أي شعب يسكنه ، فبانقلاب عسكري ، جاءت حكومة دمرت مشروع الجزيرة ، وسرحت آلاف العمال ، وأسقطت منظومات اقتصادية كاملة . وانظر يا من تتهم السودانيين بالكسل ، فهل ترى ذلك فيمن عملوا في الخارج وتفاعلوا مع بيئاته، ومقتضياتها من الجدية والنظام والضبط؟ . واسأل ، أهل الخليج قاطبة ، هل وجدوا في من يعمل معهم صفة تدحض عروبتنا ، وإلا كيف استأمنونا علي أموالهم ، بل أشير لتقرير المملكة العربية السعودية عن كفاءة الأطباء لديهم ، فكان السودانيون الأول بصفر من الأخطاء الطبية ، فهل هذا ينم عن كسل !!! . ويا سادة .. لسنا شعبا من ذهب ..، لكننا شعب ككل الشعوب الأخرى ، فينا الجيد والسيء ، وفينا العربي والإفريقي ممتزجان ..، فأخرجونا من هذه الشنشنة الفارغة ، وأعينونا لتجدونا أعون ما نكون لكم . وأخيرا ، أقول لكل من يريد أن يكتب عن الشعوب ليس عليه القراءة، والاستماع من بعيد ، على كل كاتب أن يسافر لتلك البلدان ، ليعيش الواقع والوقائع على الأرض ، ويتعرف عن قيم ، وسلوك الشعوب عن قرب حتي يكتب بصدق ، وواقع ، ليعطي كل ذي حق حقه !!! . ملاحظة : هذا الموضوع كتبته منذ عام .. غير أن الوعكة الصحية التي ألمت بي أعاقت نشره … حتى الآن … وآثرت نشره ليبقى . [email protected]