في أبريل من سنة 2019م سقط الدكتاتور عمر البشير ، فسقط بذلك رأس النظام ، لكن ظلَّ جسمه الخبيث مُمدَّداً في طول البلاد وعرضها ، عبر واجهات كثيرة ، وداخل مؤسسات حكم كثيرة ، الشيء الذي يدل على أنَّ النظام لم يتلاشى ، والأخطر من ذلك أَنَّ التنظيم الشيطاني الذي صنع النظام ، والعقل المدبِّر للنظام ، ظلَّ كما هو ، لم يمسسه سوءٌ ، لا في رأسه ولا في جسمه ، فكُلَّمَا انقطع له رأس نبت رأس جديد. ولا أحد ، إلا من بعقله لوثة وخَبَل ، يتصوَّر أنَّ التنظيم الذي استولى على كل السودان وهيمن على جميع ثرواته وأرضه ومائه وسمائه وانسانه وحيوانه ، وكان الآمر الناهي في طول البلاد وعرضها ، وفي كل شبر فيها ، وما من شاردة ولا واردة ولا صغيرة ولا كبيرة إلا تحت قبضته وسطوته ، يمكن أن يستسلم للتغيير ، ولمتطلبات الثورة بكل سهولة ويسر ، وأن يقبل بوداعةٍ ورضاء وعن طيب خاطر ، إزالة تمكينه ، ومصادرة أمواله وشركاته وأراضيه وعقاراته. واذن فإنَّ فعل مقاومة التغيير والدفاع عن الذات والمكتسبات بكل السُبل المتاحة والممكنة ، من ناحية التنظيم الشيطاني ، ومن طرف أعضائه، أمر وارد وبقوة ، ولا أحد يستطيع أَنْ يُنكِر إمكان حدوثه ، بل لا أحد يستطيع انكار أنَّ عدة أمور قد حدثت ، وأعمال قد وقعت قبل تشكيل حكومة الدكتور حمدوك ، وفي أثناءها ، كانت مناهضة لخط الثورة ، تظهر فيها بصمات التنظيم الشيطاني واضحة. ثم لا أحد يستطيع انكار حقيقة أَنَّ لجنة إزالة التمكين قد كانت العدو الأول لهذا التنظيم. ثم حقيقة أخرى غير قابلة للدحض ، وهي أنَّ قيادات الجيش كانت قد عقدت العزم على إعادة عناصر هذا التنظيم، إلى نفس مواقعها السابقة في مناصب الدولة ، وهو اجراء يشي بتحالف قائم ، ثم كان الجهر به بلا مواربة ولا مداراة منذ انقلاب 25 أكتوبر2021م لكن لسوء حظهم أَنَّ هذا الانقلاب لم يحالفه التوفيق ، وفشل فشلاً ذريعاً فقد فاضت الشوارع الثائرة رفضاً له وتنديداً به ، ولم تهدأ ثورتها ، ولم تخفت حِدَّة عنفوانها ، رغم سقوط العشرات من الشهداء . وإزاء ضغط الشارع المستمر اضطر أخيراً العسكر للجلوس للتفاوض مع قوى الحرية والتغيير ، وخرج الاتفاق الإطاري إلى النور ، وأظهر الجميع موافقتهم عليه ، وبالأخص العسكر ، وما من سانحة كانت تسنح للبرهان إلا ويعلن موافقته ودعمه وتمسكه بالاتفاق الإطاري ، وكذلك كان يفعل حميدتي . لكن تصريحات البرهان هذه لا أحد من التنظيم كان يكترث لها ، بخلاف تصريحات غريمه ، حيث كانت في أعلى درجات الاهتمام ، وكانت محمولة على أقصى محامل الجديَّة. وفي المقابل ، ورغم التحالف القوي الذي ظهر واضحاً للعيان بين البرهان والتنظيم الشيطاني ، ورغم موافقة البرهان وتوقيعه على الاتفاق الإطاري ، إلا أنَّ الكوادر الخطابية لهذا التنظيم ، كانت قد كَشَّرت عن أنيابها وأظهرت عداءها القح العنيف لهذا الاتفاق ، ففي الوقت الذي كان فيه البرهان يؤكد التزامه الصارم به ، كان هؤلاء يؤكدون رفضهم التام والبات والقاطع ، مصحوباً بالتهديد والوعيد والويل والثبور وعظائم الأمور. وسبحان الله ، رغم أنَّ هذين خَطَّان متنافران تماماً ، ويستحيل أنْ يلتقيا إلا أنَّه لم يحدث قط بينهما صدام ولا طلاق ولا جفاء ، وظلَّت الأمور بينهما سمن على عسل ، والمؤكد أنَّ المسألة كانت تبادل أدوار بينهما ، وكل طرف يؤدي ما عليه من دور ، أو ما هو مُكلَّف به من مهمة ، أحدهما يُدَاجِي ويُخاتل ، بينما الآخر يُنافح ويُصادم. وفي هذه الأثناء كانت وِرَشُ وأعمال وبرامج الاتفاق الإطاري تسير قُدُمَاً إلى الأمام، غير ملوية على شيء ، وغير عابئة بشيء ، ولَكنْ لَمَّا قاربت ساعة الحقيقة أنْ تحين ، إذا بالبرهان في عرس من الأعراس ، ورغم تأكيده القاطع بأنَّه ، ومِنْ وراءه المؤسسة العسكرية ، ملتزمين تماماً بهذا الاتفاق ، إلا أَنَّهم رغم ذلك لن يسمحوا له أنْ يمضي ، ما لم يندمج الدعم السريع في قوات الشعب المسلحة ، ويأتي هذا القول برغم أنَّ الاتفاق الإطاري قد أشار إلى ضرورة الدمج ، والجميع كانوا في انتظار العسكريين للاتفاق على تفاصيله الفنية. لذلك كان هذا الطرح على هذا النحو محل دهشة الجميع ، ومحل تساؤلاتهم ، فما الداعي لطرحه الآن كشرط فيصلي؟، وكأنَّ الرجل كان يبحث عن قشة يتعلَّق بها للنجاة من حتمية الغرق في مشروع الإطاري. وهكذا اتَّضَحَ لكل من كان له عقل ، أَنَّ البرهان ومِنْ خَلْفِهِ التنظيم الشيطاني يلعبون بالناس ، ويكسبون مزيداً من الوقت ، ليتمكَّنوا من البحث عن طريقة للاستئثار بالسلطة ، وإحكام قبضتهم عليها. ومؤكد أَنَّهم قد فكَّروا في انقلاب عسكري يقوده البرهان ، أو أحد غيره من عساكرهم في الجيش ، لكنَّهم تأكدوا أَنَّهم لا محالة إنْ فعلوها فسيصطدمون بعقبة الدعم السريع الكأداء ، وبالتالي احتمالات خيبتهم ستكون راجحة ، ولذلك فإنَّ الأخبار كانت قد حملت إلينا أَنَّ لهم محاولات مضنية ومساعي حثيثة لاستمالة حميدتي إليهم قبل وبعد انقلاب 25 أكتوبر 2021م إلا أنَّها كلها قد باءت بفشل ذريع ، وقد بدا لهم بكل وضوح أنَّ للرجل مشروعاً يستحيل أن يلتقي ويتقاطع مع مشروعهم ، فهو بدوره يطمع في الانفراد بامتلاك السودان ، والقطبان المتشابهان لا يلتقيان ، ويقيناً أَنَّ مشروعه لا يمت إلى الديمقراطية بصلة، وإنْ ادَّعى ذلك. وطبعاً هذا التنظيم الشيطاني ليس في عقيدته على الإطلاق العمل على إقامة نظام ديمقراطي تعددي ، وإنَّما سعيه الذي لا يفتر ولا يصيبه كلل ، لأَنْ ينفرد دون سواه بالسلطة إلى ما لا نهاية ، وإلى أَنْ يأذن الله للدنيا بالرحيل ، ليكون الأمر أمره ، والنهي نهيه على امتداد البلاد ، فيكون هو المتحكم الأوحد في ثرواتها ، وصادراتها ووارداتها ، لا حسيب عليه ولا رقيب ، مع الأخذ في الاعتبار أَنَّه فعلاً قد استطعم حلاوة الانفراد بالسلطة والثروة وغرق في رونقها إلى الأذقان طيلة عقود خلت من الزمان ، فهو لذلك يتحرَّق لها شوقاً ، ويتلمَّظ ولهان ، لا يكاد يطيق عنها صبراً. ولمَّا كان مشروع الاتفاق الإطاري ليس عنه مهرب ولا محيص ، وأنَّه لا محالة قائم قائم ، وعمَّا قليل ستستأنف لجنة إزالة التمكين أعمالها ، بنحو أشد وأقسى مما مضى ، وستأتي الملاحقات والمحاكمات ، عَمَدَ التنظيم الشيطاني إلى خطة جديدة ، لو قُدِّرَ لها أَنْ تنجح فإنَّها ستضمن له بلا ريب فرصة العودة للسلطة ، بأعجل ما يكون ، وهي : أولاً : اجبار الدعم السريع للاندماج على جناح السرعة . وثانياً : أن تخضع جميع قواته لأوامر وتعليمات القائد العام للجيش ولا تخضع لرئيس مدني. وطبعاً إذا تَمَّ لهم هذا ، فقريباً وقريباً جداً سيعودون للسلطة عبر انقلاب عسكري غشوم ، ستكون حظوظ نجاحه قوية ، حيث لن يجد ما يعوقه ، أو يقطع عليه طريقه ، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ، وليس كل ما يتمنَّى المرء يدركه ، فقد تحطمت الآمال والأماني العِذَاب ، وتلاشت الأحلام ، أمام اصرار الدعم السريع على فترة لا تقل عن عشر سنوات للدمج ، وعلى أن تكون قواته تحت قيادة رئيس مدني ، وإزاء هذا الموقف المتصلب لم يجد البرهان سبيلاً سوى سحب ممثليه في الورشة الفنية العسكرية المخصصة لمناقشة مسألة دمج القوات ، في الوقت الذي كان قد تَمَّ فيه تحديد جدول زمني واضح المعالم لمسيرة مشروع الاتفاق الإطاري. وبالتالي لم يَعُد هناك أمام البرهان كثير وقت ولا متسع للمماطلة والتسويف ، فالخناق يضيق عليه ، وانقطع أي أمل وأي احتمال لتراجع حميدتي عن مواقفه المتشددة والقاطعة ولا يمكن ويستحيل في المقابل السماح لمشروع الاتفاق الإطاري أن يُستكمل ، فدونه خَرْطُ القَتَاد ، واذن قد أُوصِدَتْ جميعُ الأبواب في وجه التنظيم الشيطاني ، ولم يعد أمامه سوى جُبِّ الحرب وخراب السودان ، ودون أن يطرف له جفن قام الملعون بجر البلاد كلها لتسقط فيها ، فلا يهمه أَنْ تحترق وأن تُسفك دماء العباد ، وأَنْ يعيش أهلها الويلات.