يتداعى ما تبقى من اصطفاف جمعي وسط المواطنين مع الجيش، وهو بالأصل اصطفاف هش، لم يقم على أسس وطنية أو انحيازات منطقية، وإنما لسببين: أولهما الدعاية "الكيزانية" الخبيثة والواسعة لشيطنة قوات الدعم السريع، وما صاحبها من حملات ابتزاز واغتيالات معنوية ضد كل من يفكر بشكل مستقل، ويشكل رأياً خاصا به في هذه الحرب، وقد تمت هندسة هذه الحملة بالقدر الذي يكفي لتبرير أي هزائم عسكرية وأخلاقية قادمة، ويمكن القول أنها نجحت نوعاً ما، خصوصاً وأن الحملة مصممة لمخاطبة غريزة الخوف وسط العوام وربات البيوت! والسبب الثاني، الدعاية العنصرية المقيتة والحقيرة المصاحبة للحملة، التي خاطبت بكل سفور وفجور مكامن العنصرية المتمركزة في ركن قصي بأعماق الكثرة الكاثرة من سكان هذا الجزء من البلاد – وكاتب هذا المقال منهم جغرافياً – وقامت برمي قادة قوات الدعم السريع بصفة "الجنجويد"، وما تحمله من سوء في الذاكرة الشعبية، ثم نزع هوياتهم الوطنية وتجريدهم منها هكذا، ورميهم إلى أصقاع تشاد والنيجر ومالي، وهو سلوك سوداني بامتياز، ليس حكراً على الشمال النيلي، بل يجتمع عليه غالبية أهل السودان، إذ نحن شعب بلا أخلاق في خصومته، ومن يعرفوننا جيداً بلا شك يعرفون عنا هذه الخصلة الذميمة، إضافة إلى الحسد، تلك الماركة السودانية الخالصة! ولأن الاصطفاف الشعبي خلف الجيش لم يقم على أسس وطنية وأخلاقية قويمة، كما أسلفنا، سرعان ما بدأ في التلاشي والتداعي، وهاهو يتهاوى إلى حدوده السفلى، بعد أن بلغت ممارسات وانتهاكات عناصر الجيش في حق المواطنين حدوداً لا يمكن الصمت عنها والصبر عليها. فالقصف الجوي والمدفعي لا يزال يستهدف منازل المواطنين، مما أوقع مئات القتلى، وآلاف الجرحى في صفوف المدنيين العزل، والعدد في ازدياد! وأمس الثلاثاء، الذي يوافق اليوم الثالث والخمسين للحرب، قُتل اثنان من مواطني الحارة (59) بأمدرمان (شارع الشنقيطي)، بعد جريمة نهب قامت بها دورية عسكرية تابعة للجيش، وشيع المواطنون الجثمانين في تظاهرة غاضبة، وحملوا قيادة المنطقة العسكرية كامل المسؤولية عن مقتل المواطنين. وعبرت لجان مقاومة "مرزوق" بالثورة الحارة (59) عن بالغ غضبها وحزنها الشديدين من الحادث، مُعلنة في بيان لها رفضها لترويع المواطنين والعبث بأرواحهم. هذا فيما شهدت أحياء الخرطوم شرق (بري وامتداد ناصر)، قصفاً عنيفاً بالطائرات، أدى إلي انهيار عدد من المباني بمحطة (10)، ومربع (2)، و بُري المحس، أكدت لجان مقاومة إمتداد ناصر وفاة ثلاثة مواطنين، دفنوا بمقابر بُري اللاماب، وقتلت امراة، وأصيب زوجها بعد تدمير منزلهم بحي الأزهري جنوبالخرطوم إثر سقوط قذيفة عليه. وسبق واشتكى مواطنون من أحياء جنوب أمدرمان 27 مايو الماضي، من سلوك قوات الجيش التي تسيطر على المنطقة، ووجهوا نداءات استغاثة عبر الوسائط لقيادة المنطقة العسكرية، وذلك على خلفية اغتصاب سيدتين من قبل هذه القوات بأمدرمان، ليرتفع عدد جرائم الاغتصاب المنسوبة إلى الجيش من خمس حالات إلى سبع، منذ اندلاع الحرب! وفي التاسع والعشرين من مايو توفي أربعة أشخاص بينهم سيدتان جراء قصف طيران الجيش لحافلة مواصلات بكوبري شمبات، فيما أظهر فيديو انتشر على الوسائط عشرات الجثث المتفحمة لمواطنين طالهم القصف في ضاحية شمبات السكنية. ليس اصطفاف الناس خلف الجيش وحده الذي يتداعى، بل يتساقط احترامهم له أيضاً، كمؤسسة وطنية ملتزمة بحماية المواطنين، وتعززت خيبتهم وتعاستهم وحزنهم في جيش حرروه من قبضة مجموعة إرهابية اختطفته، ثم مكثوا يترجونه شهوراً وأعواماً من أجل أن يعود إلى ثكناته، عزيزاً مكرماً، ويتفرغ لتقوية هياكله وتدريب وترقية أفراده ، وإصلاح ما به من عوار، وغسل ما التصق به من أدران ، فأبى وتكبر، ثم مكر وكفر ، وقال أن السيادة والوصاية له، حتى اذا حمي الوطيس هُرع إلى ثكناته مرتعداً مغلقاً عليه الأبواب، تاركاً شعبه في البرية بلا (موسى)! إنه حديث الجنود، فرعون وثمود!