الدلالة لا شك أن كلمة غرابة أو غرابي في معناها اللغوي تشير للانتماء إلى جهة ما من الجهات الجغرافية، مثلها مثل كلمة شمالي أو جنوبي أو شرقي. لكن خطورة اللغة أنها تحمل مصطلحات تداولية مراوغة يجعلها تتحول من كونها معاني كلية إلى معاني خصوصية عندما يجري نسخ المعاني وتحويلها من مفاهيم إلى خصائص ثم تصبح خصائص مكتسبة لأحد دون غيره فيصير المعنى موشوما ومصبوغا بصبغة لا تنفك عنه، ومن ثم يتأسس له مخزن في الذاكرة يربطه بعلاقات ذهنية محددة. فإذا قلنا كلمة غرابة يتبادر إلى أذهان الكثيرين من السودانيين مباشرة، علاقات: المهدية، الخليفة، الجهادية، الجنجويد، العرب، الزرقة، الصراعات القبلية، القتل، الحرق والدمار … الوشم الوشم العميق عند كثير من سكان وسط السودان وشماله تجاه أهل الغرب هو الصراعات التي نجمت بعد تولي الخليفة عبد الله التعايشي خلافة المهدي، وقد كانت صراعات ذات طابع قبلي، فقد صارعه أولاً أقرباء المهدي نفسه واستطاع أن يحد من تحركهم، لكن الصراع الأعنف مع الخليفة لم يكن مع سكان النيل والوسط -الأمر الذي يتجاهله الكثيرون- بقدر ما كان صراعا مع أهل الغرب أنفسهم، فقد أعدم الخليفة قائد قبائل الرزيقات (مادبو)، كما أعدم شيخ الكبابيش فضل الله سالم وصالح فضل الله في كردفان والشيخ يوسف إبراهيم في دارفور.. ولم تسلم حتى قيادات التعايشة التي ينتمي إليها الخليفة من ذلك الصراع فأعدم الخليفة زعيمهم (الغزالي أحمد) وأمر عامله عثمان آدم بأنذار جميع ديار التعايشة بالخضوع أو التدمير والتجويع حتى الاستسلام، وقد كان الإنذار معنونا لكل التعايشة، عريج وقلادة بيتا بيتا ورجلا رجلا كبيرا وصغيرا. وشملت الإنذارات كذلك قبائل الرزيقات والهبانية. وبعد أن أحكم الخليفة سيطرته على قبيلة البقارة أصر على ترحيلهم إلى عاصمته أم درمان..ليكونوا نصب عينيه، واستطاعت مجموعات من قبيلة التعايشة من الهرب من مقر الخلافة في أم درمان الأمر الذي استدعى قتالا جديدا قاده عامل الخلافة عثمان آدم. المهدي عند أهل الغرب يرى بعض المؤرخين أن تجمع غرب السودان (الفور والمسبعات وتقلي) من حول المهدي باعتباره مهديا منتظرا يعود لحداثة إسلام بعضهم وانعزال الاقليم الجغرافي عن مراكز الحضارة المتوسطية بالإضافة إلى التركيبة الاجتماعية القبلية الأكثر تخلفا في السودان. وقد اختار التعايشي بحنكة تكتيكية هذه القاعدة لبعدها عن مراكز السلطة من ناحية ولوعورة مسالكها من ناحية أخرى كمركز للحشد والانطلاق. وكان المهدي وليس التعايشي هو مصدر الجذب الشعبي، لذلك كان الكثيرون يرون أن المهدي يمكن له أن يخرج بالغرب من الخصائص المحلية الإقليمة المحلية باتجاه سوداني عريض يتدامج فيه الغرب مع النيل لو قدر له أن يعيش، لكن المهدي توفي في وقت مبكر بعد فتح الخرطوم من قبل أن تستبين ملامح دعوته أو يرسي دعائم دولته. لذلك اعتقاد كثير من الناس أن غرب السودان كان مواليا للمهدية وخاصة بعد وفاة المهدي هو اعتقاد غير صحيح. الردة بعد موت المهدي لم يستطع الخليفة جذب قبائل الغرب من المؤمنين بالمهدي المنتظر فضلا عن القبائل النيلية التي كان كثير منهم على خلاف مع المهدي في أمر مهديته من دون أن يختلفوا معه في مسألة طرد الأتراك الغزاة. لم يستطع (الخليفة) جذبهم أو توحيدهم حتى بعد ابتلاعه لشعرة المهدي الذي كان يحرسها نبي الله الخضر، وتبركه بالنور الذي وهبه الحق سبحانه وتعالى لجبريل وجبريل أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم والنبي أعطاه المهدي والمهدي أعطاه التعايشي بواسطة نبي الله الخضر، وقسم (التعايشي) النور الممنوح له على أربعه أقسام: قسم ابتلعه الخليفة نفسه، وقسم مسح به وجهه، وقسم جعله في الكتيبة الخاصة به، والقسم الأخير وزع على كل الصفوف. واقعة المتمة في عام 1897 استدعى الخليفة عبد الله ود سعد أمير الجعليين وفرض عليه عددا معلوما من أهله يستنفرهم للجهاد وقدرا معينا من المؤنة يقدمها للجيش المنوي ارساله إلى المتمة فثقل الطلب على عبد الله ود سعد لكنه أظهر الطاعة وأضمر العصيان وعاد إلى المتمة وجمع كبار أهله وأسر إليهم ما نوى فمن وافقه ضمه إلى جيشه ومن لم يوافقه استحلفه على كتم السر فأجتمع إليه نحو 300 رجل من أهله الادنين وأرسل في طلب المدد من جيش الحكومة في دنقلة. وكان له عدو من أهله يدعي أحمد ود حمزة فوشى به إلى الخليفة وكان محمود إذ ذاك في كرري وجيشه في طريقه إلى المتمة فأمره الخليفة أن يلحق بجيشه في الحال ويسحق عبد الله ود سعد قبل وصول المدد إليه من دنقلا فجد محمود السير حتى وصل المتمة بجميع جيشه في فجر يوليو 1897 فأحاط بها من كل الجهات وابتدرها القتال بدون أن يدعوها إلى التسليم. وكان عبد الله ود سعد قد تحصن في منازل المتمة الجنوبية وفتح فيها المزاغل فرأى أنصاره أنهم هالكون لا محالة فأشاروا عليه بالفرار إلى دنقلة حتى إذا ما تقدم الجيش لمحاربة الخليفة عادوا معه فقال دعوني من الفرار وعاره فإني كلما ذكرت حادثة المك نمر وفراره من جه الدفتردار ضاقت علي الأرض بما رحبت وتمنيت الموت فلنمت هنا أو نحيا هنا وشرع في اطلاق النار فتبعه أنصاره على الأثر وصدوا غارة المهاجمين وقتلوا منهم. فلما رأى محمود ما أصاب رجاله أمرهم بالهجوم على المنازل فدخلوها عنوة وقتلوا ود سعد وأنصاره عن بكرة أبيهم ثم انتشروا في البلدة يقتلون ويسبون ويعيثون حتى قتلوا من أهلها نحو 2000نسمة وبلغ خمس السبي الذي أرسل إلى الخليقة خاصة 234 جارية و32 حرة وقد ارتكب رجال محمود ود أحمد في المتمة ما تقشعر له الأبدان. أزمة الخليفة مع أهل الغرب فبعد أن انجلى موقف المعارك العنيفة التي انتهت بسيطرة قوات الخليفة على دارفور في العام 1888 ظهر مهدي آخر في منطقة الفور وأصله غير معروف لاتباعه الذين اعتقدوا أنه جاء من شجرة جميزة وقد استطاع أن يكسب ولاء معظم قبائل تلك المنطقة وقد أوقع هزيمة بقوات الخليفة في دار تاما وهزمت قوات الخليفة مرة أخرى في منطقة كبكابية بعد أن تحالفت قبائل تلك المنطقة مع المهدي الجديد..إلا أن المهدي (أبو جميزة) لم يعمر طويلا ومات بعد أن حقق عددا من الانتصارات على قوات التعايشي، وخلفه أخوه إسحاق الذي مني بالهزيمة خارج مدينة الفاشر في العام 1889، وكأن القوم لا يعينهم إلا المهدي ذاته؟! وكما كان الغرب مركزا للتمرد وظواهر المهدي، ظهر في صفوف جند المهدية في الحدود الشرقية رجل يسمى (آدم محمد) ادعى هذه المرة أنه (عيسى بن مريم) شخصيا مؤكدا على أن (عيسى) هو الذي يلي المهدي في الظهور وطالما ظهر الأول فلا بد من ظهور الثاني. لكن الخليفة أمر بإعدام النبي السوداني مؤكدا في منشوره أنه أبصر في رؤيا منامية (أولئك المتأمرين يعذبون في جهنم وأنه قد حاول أن يشفع لهم دون جدوى). [email protected]