إن الإجابة على هذا السؤال قد أصبحت في غاية البساطة. أعتقد جازماً أن هذه الحرب قد قامت ضد قوى الثورة وعلى رأسها قوى الحرية والتغيير (ق ح ت) ولجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني. ونظراً لأن ق ح ت تمثل رأس الرمح في التصدي لألاعيب منسوبي النظام السابق وفلولهم وابتدارها للاتفاق الاطاري المنوط به كنس المشروع الحضاري للأخوان المسلمين وتقديمهم لمحاكمات علنية عادلة نظير نهبهم للمال العام وارتكابهم لجرائم القتل والتعذيب والاغتصاب منذ غرس مسمار في نافوخ طبيب، مرورا بإدخال خابور في مؤخرة معلم وحتى جرائم فض الاعتصام التي صاحبها قنص للشباب العزل ورمي جثثهم في النيل واغتصاب الحرائر في مسجد الجامعة في نهار رمضان واخيراً قتل الثوار والثائرات بعد انقلابهم على الحكومة المدنية في 25 أكتوبر 2021م؛ يمكن القول أن هذه الحرب قد قامت ضد قوى الحرية والتغيير تحديداً؛ فالشواهد على ذلك كثيرة، أوجزها فيما يلي: اعتصام القصر الجمهوري، المسمى باعتصام الموز، الذي ضم كل قوى الردة المناهضة لقوى الحرية والتغيير ممثلة في سدنة النظام السابق وفلولهم من إدارة أهلية مدجنة وحركات مسلحة متواطئة معهم مثل حركة العدل والمساواة بقيادة دكتور جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي وبعض منسوبي الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل مثل التوم هجو ومحمد سيد أحمد. شل نشاط وقدرة الحكومة المدنية بالسماح لسدنة النظام السابق في شرق السودان بقيادة عضو المؤتمر الوطني المحلول محمد الأمين ترك بقطع الطريق القومي بالإضافة للسماح لهم بالاعتصام داخل ميناء ومطار بورتسودان وتعطيل الحركة بهما. الهجمة الشرسة التي قادتها بعض قوى الثورة على الحكومة المدنية ممثلة في الحزب الشيوعي وبعض الشخصيات القومية الذين اصطفوا مع سدنة النظام السابق في معارضة الاتفاق الاطاري المنوط به العودة للحكم المدني؛ ومازالوا في عدائهم مع قوى الحرية والتغيير بعد الحرب، ومعارضتهم لأي اتفاق تبتدره قوى الحرية والتغيير. المثير للدهشة اصطفاف دكتور محمد جلال هاشم مع سدنة النظام السابق رغم كسبه الماضي في التصدي لمشروعهم الحضاري؛ ولكن أظن أن الاولوية عنده هي معاداة قوى الحرية والتغيير. هناك أمثلة لشخصيات قومية أخرى كثيرة كانت معروفة بمعاداة قوى الحرية والتغيير قبل الحرب فصارت تصطف الآن مع منسوبي النظام السابق ضمن الحملة التي تدعو لاستمرار الحرب نكاية في قوى الحرية والتغيير. وضع قادة قوي الحرية والتغيير وحدهم في السجون وضربهم وإذلالهم عند الانقلاب على الحكومة المدنية في 25 أكتوبر 2021م. فيديو لاحتفال بقاعة الصداقة أقامته نساء الحركة الإسلاموية تكريما لقوات الدعم السريع وقائدها محمد حمدان دقلو في مقابل الاصطفاف معهم في فض اعتصام القيادة العامة في يونيو 2019م. فيديوهات سدنة النظام السابق التي ترصد أنشطة دعوات الإفطار في رمضان 1444ه، المتاحة بالفضاء الاسفيري، بأن تنفيذ الاتفاق الاطاري سيكون على جثثهم. هناك فيديو للواء أنس عمر رئيس المؤتمر الوطني المحلول بولاية الخرطوم وآخر لدكتور محمد الجزولي رئيس حزب دولة القانون وثالث لجمع يضم قائد كتيبة البراء بن مالك التي شوهدت بالقيادة العامة في 15 إبريل 2023م ومن ثم بادرت بإطلاق الطلقة الأولى للحرب بالمدينة الرياضية. تشويه سمعة قوى الحرية والتغيير عبر أي سانحة متاحة بجميع الوسائط الإعلامية من قبل منسوبي النظام السابق وأبواقهم بأن قوى الحرية والتغيير هي من أشعلت الحرب وأنها الجناح السياسي للمليشيا المتمردة، وبصورة لا تخفى على راعي الأنعام في الخلاء؛ بأن المقصود بهذه الحرب هو قوى الحرية والتغيير ولكن هذه المليشيا قطعت عليهم الطريق؛ ولذا وجب القضاء عليها أولاً ومن ثم التفرغ لمحاكمة قوى الحرية والتغيير بتهمة الخيانة العظمي وتعليقهم على المشانق في تكرار لسيناريو السنين الأولي لحكمهم الباطش. لم يستطع منسوبو النظام السابق وأبواقهم الصبر، حتى نهاية الحرب، للإفصاح عنما ينوون فعله بقوى الحرية والتغيير، بل بادروا بتهديدهم بالسجن والاغتيال. يتضح من كل ذلك أن الأزمة سياسية، في المقام الأول، وليست عسكرية؛ وأن الحرب فرضها الطرف الثالث المتمثل في منسوبي النظام السابق المهيمن على الجيش والأجهزة الأمنية والشرطية بالإضافة للخدمة المدنية. ولذا أؤكد جازماً بأن هذه الحرب سوف تتوقف اليوم قبل الغد أذا وافقت قوى الحرية والتغيير على أن الحوار السياسي لن يستثني أحداً؛ وهي الصيغة التي يضمن بها منسوبو النظام السابق موطأ قدم في سلطة الفترة الانتقالية ومن ثم يستطيعوا تعطيل أي إجراءات تدعو لمحاكمتهم على الجرائم التي اقترفوها إبان فترة حكمهم. منذ متى كان هناك عداء بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع؟ يعلم الكل أنهما كانا على قلب رجل واحد منذ إنشاء هذه المليشيا، في بداية القرن الحادي والعشرين، للقيام بأي أفعال قذرة، لا يمكن أن يقوم بها الجيش النظامي؛ مثل حرق القرى والتهجير القسري للسكان الأصليين؛ بغرض مساندة الجيش عبرها في حرب دارفور. لقد ساهمت تلك الافعال بفعالة في الهزيمة الساحقة التي لحقت بالحركات الدارفورية المسلحة؛ الامر الذي قاد لاستجلابها للخرطوم بغرض التعامل مع أي تهديد للحكومة المركزية في العاصمة القومية. لقد استخدمت حينها في قمع الثوار الشباب والطلاب في هبة سبتمبر 2013م. أما بعد انتصار ثورة ديسمبر 2019م فكان قادة الجيش السوداني ومنسوبو النظام السابق يتهمون بالخيانة الوطنية كل من يطالب بحل قوات الدعم السريع أو دمجها في الجيش باعتبار أنها خرجت من رحم الجيش السوداني وأنها الحارس الأمين للوطن من أي تهديد خارجي. إن الأمثلة على ذلك كثيرة ومبذولة بحرية كاملة في الفضاء؛ مثل فيديوهات قائد الجيش الفريق البرهان ونائبه الثاني الفريق ياسر العطا اللذين لم يقصرا أبداً في مدح قوات الدعم السريع والثناء على قائدها حميدتي. نخلص من ذلك أن أي جريمة ارتكبتها قوات الدعم السريع في دارفور كانت بأوامر قيادة الجيش السوداني. أذاً السؤال الجوهري هو: متى صارت هذه القوات متمردة وخائنة للوطن حتى وجب قتالها؟ الإجابة بسيطة وواضحة إلا لمن بعينه رمد. قامت هذه الحرب عندما وافق قائد قوات الدعم السريع على التوقيع على الاتفاق الاطاري الذي ينص، في بعض بنوده، على قيام حكومة مدنية كاملة الدسم تضطلع بإدارة الاقتصاد والسياسة منفردة؛ وبدون أي مكون عسكري؛ وذلك برجوع العسكر للثكنات بغرض التفرغ لحراسة الدستور والحدود من المهددات الخارجية؛ بالإضافة لدمج قوات الدعم السريع في الجيش عبر ورشة الاصلاح الأمني والعسكري التي ستقام خصيصاً لهذا الغرض. في الحقيقة كان منسوبو النظام السابق وقادة الجيش يشترون الوقت، عندما وقعوا على الاتفاق الاطاري بالأحرف الأولى في ديسمبر 2022م، معتقدين أن قائد قوات الدعم السريع لن يوافق على خروج قواته من الاقتصاد والسياسة؛ وكذلك استمروا في شراء الوقت أبان تنفيذ رزنامة الاتفاق الاطاري التي حددت الحادي عشر من أبريل 2023م موعداً لتعيين رئيس وزراء للحكومة المدنية. ولكن عندما تبقت فقط ورشة الاصلاح الأمني والعسكري المكملة لبنود مسودة الدستور الذي يحكم الفترة الانتقالية، انسحب وفد الجيش وتهرب قائده من التوقيع النهائي؛ فدخلت البلاد كلها في موجة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، صاحبتها أنشطة إرهابية لكتائب الإسلاموميين المسلحة تحض على تخريب الاتفاق الاطاري بالقوة حتى ولو أدت إلى حرق وتفتيت السودان كله؛ (يا نحكمكم يا نقتلكم) مثلما كانوا يرددون. خلاصة القول إن شرارة هذه الحرب لم يكن لها أن تنطلق أذا امتنع قادة قوات الدعم السريع عن التوقيع على الاتفاق الاطاري وظلوا مصطفين مع قادة النظام السابق في تعطيل التحول المدني الديمقراطي؛ الأمر الذي دأبوا عليه منذ 11 أبريل 2019م وحتى توقيعهم على الاتفاق الاطاري في ديسمبر 2022م؛ مروراً بفض اعتصام القيادة في 3 يونيو 2019م وانقلاب 25 أكتوبر 2021م اللذين راح ضحيتهما الآلاف من شباب الثورة العزل إلا من إيمانهم بوطن حر ديمقراطي؛ ولذا يتحمل مسؤولية التنكيل بهم الطرفان. والصحيح أيضاً أن نشوب هذه الحرب كان يمكن تفاديه لو صدق قائد الجيش في تعهداته التي قطعها أمام مختلف المؤسسات الوطنية والإقليمية والدولية بامتناع الجيش عن التدخل في الأمور السياسية والوقوف على مسافة واحدة من جميع القوي السياسية. في حقيقة الأمر كان قائد الجيش صادقاً مع قادة النظام السابق، بوصفه عضواً فاعلاً في لجنتهم الأمنية، فأمر ممثلي القوات المسلحة بالانسحاب من آخر جلسات ورشة الإصلاح الأمني والعسكري المكملة للبناء الدستوري المفضي لرجوع العسكر للثكنات ومن ثم تكوين حكومة مدنية تدير البلاد خلال الفترة الانتقالية دون أي تدخل من العسكر؛ وهي الوضعية المناط بها نزع فتيل الأزمة السياسية التي أفتعلها منسوبو النظام السابق منذ سقوط سلطتهم الغاشمة في بواكير عام 2019م واستمرارهم في تعطيل جهود الحكومة المدنية لمعالجة الأوضاع المتردية الموروثة بشتي السبل؛ وبالطبع كان آخرها إطلاقهم للطلقة الأولي في هذه الحرب العبثية بغرض قطع الطريق لتكوين حكومة مدنية ديمقراطية تكون ضمن مكوناتها قوي الحرية والتغيير؛ ذلك البعبع الذي اقلق مضاجعهم عبر لجنة إزالة التمكين واسترداد الأموال المنهوبة. لقد راح ضحية هذه الحرب العبثية الآلاف من أبناء الشعب السوداني الأبرياء؛ كما فقد سكان العاصمة المثلثة مساكنهم ومدخراتهم وساد الخراب والدمار المؤسسات الصحية والتعليمية والسيادية والبنى التحتية للاقتصاد السوداني بشقيه العام والخاص؛ ومازالت الحرب تحصد المزيد. من هذا المنبر، ونحن نستشرف عاماً جديداً، نأمل من قائدي قوات الشعب المسلحة وقوات الدعم السريع تحكيم صوت العقل والتحلي بالشجاعة الكافية للإيقاف هذه الحرب التي وصفاها بأنها عبثية؛ رفقاً بالمواطن السوداني الذي صار مشرداً داخلياً وخارجياً ويعاني الفقر والمرض. كما نناشد بقية قوى الثورة ممثلة في الحزب الشيوعي السوداني وحزب البعث العربي الاشتراكي ولجان المقاومة الانضمام لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) بوصفها أكبر تجمع لقوى الثورة الآن يتملك برنامجاً قابلاً لانتشال السودان من وهدته عبر حكومة مدنية ديمقراطية تعالج القضايا الإنسانية وجبر الضرر أولاً ثم تتفرغ لإعادة بناء المؤسسات الاقتصادية وسبل كسب العيش للمواطن السوداني.