هرولت (ر.أ.ع) نحو وفد صغير قدم إلى مركز الإيواء بمدينة بربر بولاية نهر النيل شمالي السودان، والذي لجأت إليه من الخرطوم بسبب الحرب. ظنت (ر) أن الوفد الزائر وصل للمركز لتقديم بعض المساعدات الإنسانية، لكنها شعرت بخيبة أمل عندما عملت أن تلك المجموعة هي صحفيات وصلن للمركز لنقل الوضع وأحوال النازحين. انتظار العون وتلاحق نظرات طلب العون والمساعدة في عيون الأطفال والرجال والنساء، لكل من يلج لدور الإيواء بمدينة بربر، مترقبين لمد يد تمتد لهم عوناً على مواجهة ظروف يحتاجون فيه للماء والغذاء والكساء أو الدواء. تقع منطقة مدينة بربر شمال مدينة عطبرة، وتبعد عنها مسافة 34 كيلومتراً، كانت قِبلةً للفارين من القتال في العاصمة الخرطوم، خاصةً بعد اكتظاظ مدينة عطبرة. الخوف من المجهول رحلة مليئة بالخوف من المجهول، تحكي كل نازحة قابلناها في دور الإيواء بمدينة بربر، وتحديداً في الجزء الشرقي من المدينة المُخصّص لتشييد المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية والفنية والصناعية، بنين وبنات، إلى جانب مجمعات لإسكان الطالبات والطلاب "الداخليات" بطرازها المعماري القديم، ذلك الشرقي أطلق عليها (حي المدارس). ودور الإيواء هناك قريبة إلى حد ما عن بعضها البعض على بُعد كيلومترات. ويُعد الدخول إليها ليس سهلاً، دون الاستعانة بأحد المتعاونين أو المتعاونات مع تلك الدور أو الناشطات في مجال العمل الطوعي. الوهلة الأولى الداخل إلى دور الإيواء، يلحظ نظرات الأطفال بكل براءتها ونظرات النساء بكل انكسارها وعطفها وقلقها، الكل يترقب من الوهلة الأولى يد عون قادمة تحمل معها حليباً لطفل أو دواء لمسنة أو طعاماً للجميع يسد الرمق ويقي من زمهرير الشتاء. وتُبيِّن الصورة المثقلة بالهموم ونظرات القاطنين للدار، صورة قاتمة للغاية لأوضاعهم وظروفهم الصعبة في مواجهة الحياة التي فرضتها عليهم الحرب. زيارة مجموعة الإعلاميين الأولى، كانت إلى مبنى الداخلية القديمة كما يطلق عليها، وكانت مخصصة كسكن للطلاب في فترة سابقة، وأصبحت مهجورة لسنوات، ولكن عقب الحرب ووصول الأسر النازحة، اجتمع الفاعلون في الأعمال الإنسانية والخير بمدينة بربر، بالتعاون مع المحلية لصيانتها ونظاقتها لتكون ملائمة لإقامة الأسر النازحة، خاصةً أنّ أغلبها من كبار السن والأطفال والنساء والحوامل. بعض النازحين انطلقوا للعمل في السوق المحلي للمدينة في مهن هامشية مختلفة لسد رمق أسرهم. أجواء الدار بمجرد الدخول لمركز الإيواء، النساء يفترشن الأرض وأخريات ينخرطن في إعداد الطعام، فيما يتعالى بكاء الأطفال المرضى، أما البعض منهم فاختار اللهو واللعب في فناء الدار. إحدى النازحات، فضلت حجب اسمها، وطلبت الإشارة فقط لأحرفها الأولى (ر. ا.ع) جاءت إلينا مسرعة لتسأل ظناً منها أننا أتينا لدعمهم قائلة بصوت مضطرب: "نحن محتاجين سراير". قدمنا لها اعتذاراً أولاً عن عدم تلبية طلبها وأوضحنا لها أن المجموعة هي صحفيات حضرن للاستماع إليهن. تراجعت السيدة قليلاً مع تقديم عبارات الترحيب. سردت (ر) للصحفيات تجربتها في النزوح والفرار من القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، إضافةً إلى وضع المركز الداخلي. وأضافت: "المبنى قديم ومهجور ولكن الخيرون عملوا على تجهيزه ليكون صالحاً للسكن، ويعاني من الازدحام الذي أجبر النازحين على مشاركة الغرف بإقامة أسرتين في غرفة واحدة". ورسمت (ر)، صورة مأساوية أخرى بشأن الحالة الصحية لعدد كبير من النازحين قائلة: "النازحات في السكن يعانين أو بالأحرى، أغلبهن من أمراض مزمنة مثل ضغط الدم أو السكري وخلافهما ولا يملكن مصادر الدخل، وغالبية الأسر تعاني من الفقر وتعتمد بصورة أساسية علي وجبة العدس وفي أحيان كثيرة تتناول وجبة واحدة في اليوم". وتحتضن الدار نحو 20 أسرة، الغالبية منهم من النساء، من بينهن أسرة السيدة موال، وهي مريضة بسرطان الثدي وبدت عليها مظاهر الاعياء والتعب. وقالت السيدة موال إن العلاج الذي تحتاجه غير متوفر، وعجزت عن الحصول عليه رغم حوجتها الماسة والملحة لا سيما بعد خضوعها لعملية جراحية لإزالة الورم. وأكلمت: "أكبر تحد أواجهه هو الحصول على الدواء". وعلى صعيد متصل، تقدمت سيدة حبلى للمجموعة للحديث والتعليق حول أوضاع المركز ووضعها الصحي. ونحت بالقول إلى معاناتها من مرض الغدة الدرقية، وفشلها في إجراء مقابلة الطبيب المختص بأمراض النساء والتوليد. وتؤكد السيدة أنها لا تعرف حالياً الوضع الآني للجنين، حيث عجزت عن المتابعة الطبية عقب النزوح بسبب الحرب. وذكرت أن أسرتها المكونة من أربعة اشخاص يفتقرون لضروريات الحياة اليومية من أكل وشرب بسبب بقاء زوجها بدون عمل. وفي أثناء الحديث مع المقيمين في الدار، حضر بعض ممثلي المنظمات لتوزيع بعض الأدوية ليلتف حولهم النازحون وكل منهم يستفسر عن دوائه. قصصٌ مرعبةٌ روت الأنسة منى أحمد الملقبة في دار الإيواء "منى جوبا"، تفاصيل مروعة عاشتها خلال الأيام الأولى للحرب. تعمل منى في مجال التجميل وتجهيز العرائس، فهي خبيرة في هذا المجال. وقادتها الحرب للخروج من منزلها وفقدان عملها، خرجت منى من منزلها بعد عشرين يوماً فقط من اندلاع الحرب بالعاصمة الخرطوم بسبب اقتحام مسلحين للمنزل بمدينة أم درمان ضاحية أمبدة ود البشير، بحجة مطاردة أجانب مسلحين. تقول منى، إنها عاشت لحظات مروعة هي وأسرتها، وروّعتهم زخّات الرصاص ودوّي المدافع والمقذوفات، مضيفة: "تم اقتحام المنزل المجاور لنا من قبل مليشيا مسلحة ومن ثم سرقته بالكامل وترويع المواطنين، حتى أصبح البقاء مستحيلاً، تداولنا الحديث وتشاورنا وقد أصبح أمر النزوح واقعاً لا بُدّ منه وأكبر مخاوفنا كانت، نمشي وين؟ وننزح وين؟". كانت أولى محطات أسرة منى، مدينة شندي التي يسكنها أقرباء والدهم، بعد رحلة لم يكن فيها الطريق سهلاً، إنما محفوفة بالمخاطر، حيث حوصرت الشوارع بمجموعات مسلحة، تقتل، وتعتقل، وتنهب وتستوقف السيارات وتُروِّع المواطنين. وصفت منى وأخواتها اللائي كن يستمعن لحديثنا أن خروجهن من المنزل كان رحلة هروب مخيفة عبر سيارة خاصة دون أخذ أي شيء من المنزل. وذكرت منى، أنه بعد مرورهم بنقاط التفتيش المتعددة من قبل النظاميين، وإجبارهم على الترجل في كل نقطة ووجهت إليهم اتهامات بالعمل لإحدى طرفي النزاع، وترويعهم وإنزال أشقائها ووضع السلاح على رؤوسهم. ولفتت إلى مرورهم بلحظات عصيبة ومُروِّعة في الطريق بسبب التنكيل بهم وإرهابهم. وقالت إن الأسرة قررت لظروف خاصة السفر مرة أخرى واتجهت شمالاً واستقرت بالمركز حالياً. وأوضحت منى أن أسرتها كانت ترفض السكن بالمدرسة بدايةً، لعدة أسباب منها اختلاط الأسر مجتمعة في مكان واحد دون حرمات ودون فواصل وعدم وجود خصوصية لكل أسرة على حدة، لكن استسلمت للواقع.