ما أن هوت المروحية اليوغندية سيئة السمعة على سفوح جبال الأماتونج وتحطمت برئيس الحركة الشعبية النائب الأول السابق لرئيس الجمهورية د. جون قرنق دي مابيور قبل ما يزيد قليلاً عن الخمس سنوات، حتى تأهب الجميع ليوم شكره الذي - وكغيره من السودانيين- لن يأتي إلاَّ بعد أن يتحول الشخص من دفاتر الأحياء، إلى دفاتر الأموات. في وقتٍ يكونون فيه بحاجة ماسة لمن يقول لهم شكراً وهم أحياء. على الأقل ليسمعوها ولو لمرة واحدة، بعد أن سمعوا من النقد والهجوم ما يكفي ويزيد. .... قرنق، ورغم تنكر البعض لرؤيته وقبرها معه في أعلى نقطة بمدينة جوبا، إلاَّ أن الكثيرين إتخذوا أشكالاً تعبيرية مختلفة للتعبير عن شكرهم ووفائهم له بعد رحيله، فقد إستشعر البعض فجأة وكتبوا فيه قصائد رثاء سياسية ، وأضاء آخرون الشموع في ذكراه، فيما كانت آخر لمسات الوفاء لقرنق فيما يبدو يوم الخميس الماضي عندما أجاز مجلس الوزراء في جلسته الأسبوعية مشروع قانون جامعة جون قرنق دي مبيور التذكارية لعلوم التقانة. في تلك الجلسة، حيا نائب رئيس الجمهورية ورفيق قرنق في رحلة التفاوض الطويلة على عثمان محمد طه ذكراه، ودعا عقب تقديم بروفيسور بيتر أدوك وزير التعليم العالي لمشروع الجامعة لإستلهام الجميع قيم السلام والوحدة والتنمية التي ناضل من أجلها الراحل قرنق. ثم وجه طه صندوقي دعم الوحدة ودعم الطلاب، بتقديم الدعم وتوفير الامكانات اللازمة لجامعة د. جون قرنق التذكارية للعلوم والتقانة لتؤدي دورها في عملية التنمية خاصة وأن ولاية جونقلي - مكان الجامعة- تتمتع بإمكانيات زراعية وحيوانية كبرى. وعلى أهمية الحدث المتمثل في إقامة جامعة تحمل اسم الدكتور جون قرنق بمدينة بور، إلاَّ أن الناظر للجامعات السودانية الآخذة في التناسل، يجد أن هنالك العديد من أسماء السياسيين الكبار التي سبقته للدار الآخرة، سبقته كذلك في إنشاء جامعات حملت اسمها. ومن ذلك الزعيم الأزهري، والإمام الهادي والإمام المهدي نفسه. وفيما تم الإكتفاء على إطلاق اسم الرئيس الراحل الفريق إبراهيم عبود على حديقة شهيرة في بحري بعد أن قالوا له بحسرة بعد الإطاحة به « ضيعناك وضعنا معاك»، فقد أُطلق اسم الرئيس السابق نميري على أكاديمية عسكرية. أكاديمية يرى بعض المراقبين أن تسميتها جاءت كمغازلة سياسية من المؤتمر الوطني لتحالف قوى الشعب العاملة في ذلك الوقت قبل أن يتحالف معه على نحوٍ يصعب معه التفريق بين من هو وطني، وبين من هو تحالف. أن تسمى الجامعات أو الكليات العلمية على أسماء سياسيين وزعماء كبار، هذا أمر مألوف وموجود في كثير من الجامعات في الفضاء الإقليمي أو حتى على الصعيد الغربي، بل حتى جامعة الخرطوم نفسها - كما هو معلوم- عندما أنشأها اللورد كتشنر في الثامن من نوفمبر من عام 1902م كان ذلك لتخليد ذكرى اللورد غردون باشا فأصبح اسمها على أيام التأسيس، وحتى الإستقلال «كلية غردون التذكارية». لكن ما جعل جامعة د. جون قرنق التذكارية للعلوم والتقانة جديرة بالتوقف، توقيت إنشائها على بُعد ستة أشهر من الإستفتاء، وهو الأمر الذي يدفع للتساؤل ببراءة عما إذا كان لهذا التوقيت علاقة ما بجعل الوحدة جاذبة حسبما باتت تردد الكثير من فعاليات المجتمع المختلفة عند إقامتها للندوات والأنشطة المهرجانية وإن لم تكن لها صلة بالوحدة إلا بعد لي عُنقها. وفيما يراها البعض ضرباً من التهدئة بين الشريكين هذه الأيام والتي تتمظهر في تراجع التصريحات الإنفصالية، أو جزءاً من ذلك النشاط الذي يصب في تغليب خيار الوحدة خاصة وأن قرنق المسماة الجامعة على اسمه بذل من أجل الوحدة الكثير ومن غير المستبعد أن يكون فقد روحه كذلك بسببها بعدما ثبتت براءة الطقس. إلا أن أكاديميين جنوبيين تحدثت إليهم « الرأي العام» ذهبوا في منحى آخر. ففكرة جامعة تحمل اسم الدكتور جون قرنق - برأيهم- ليست جديدة كلياً، فقبل ما يزيد عن الثلاث سنوات تقريباً سعى البعض في الحركة لتأسيس معهد يحمل اسم قرنق، ثم أصبح مدرسة قرنق لتدريب القيادات. فهي إذن مرت بمراحل عديدة في السنوات الفائتة قبل أن تتطور أخيراً إلى جامعة قرنق. يلحظ البعض إنشاء كثير من المؤسسات وإطلاق أسماء أشخاص عليها في وقت لا تكون هناك علاقة مباشرة بين أهداف تلك المؤسسات وبين تلك الأسماء المسماة بها. وفي هذا السياق يشيرون إلى أن إنشاء جامعة الزعيم الأزهري جاءت على أيام تقارب لم يدم طويلاً بين الوطني والإتحادي بداية التسعينيات، فقد كان الوطني يهدف فيما يبدو لتشجيع الإتحادي لأن يخطو خطوات أكبر تجاهه ولمساعدته في هذه المهمة إختار رمزهم الأزهري وأطلقه على الجامعة الوليدة دون أن تُفضي تلك الخطوة إلى طحين سياسي، تماماً كما هو الحال مع جامعة الإمام المهدي، وإن أفضت جامعة الإمام الهادي المنشأة في عهد الإنقاذ كذلك، تقارباً لافتاً فعلى أنغام تلك الجامعة - فيما يبدو- شارك البعض في مناصب رفيعة في حكومة الإنقاذ. ويرى أكاديميون في إحياء ذكرى زعيم ما بإنشاء جامعة ما تحمل اسمه، ضرباً من الوفاء الجميل شريطة أن يكون لذلك الزعيم رؤية يُنتظر أن تعمل الجامعة على بسطها في أرض الواقع بعد مواراته الثرى. ومن هذه الزاوية فإن د. جون قرنق يستحق هذه الجامعة لأن له رؤية واضحة ومشروعاً سياسياً أكثر وضوحاً رغم إختلاف الكثيرين معه. لكن المتابع لحديث البروفيسور أقري أيوين مدير جامعة د. جون قرنق التذكارية للعلوم والتقانة عقب إجازة مشروع الجامعة، وحديثه عن إهتمامها بالارشاد الزراعي والحيواني واستخدام التقانات الحديثة وادخال الطرق الحديثة في تربية الحيوان. يقفز إلى ذهنه سؤال مهم حول أية رؤية للراحل قرنق ستعمل جامعته على نشرها وهي تهتم بالزراعة والحيوان على حساب السياسة ذلك الميدان الذي برع فيه الراحل وشكل أرضاً خصبة لأفكاره؟. والإجابة التي دفع بها د. لوكا بيونق وزير وزارة مجلس الوزراء في حديثه ل «الرأي العام» هي أن جامعة د. جون يُمكن أن تُجسد أفكاره للأجيال القادمة خاصة فيما يتصل بنقل المدينة إلى الريف. وبدا لوكا سعيداً بحديث طه وإحياء الحكومة القومية لذكرى قرنق هذا العام بجامعة من شأنها أن تُشكل قوة دفع كبيرة لأفكار الراحل في إحداث ثورة تنموية في الريف خاصة وأنها ستكون في مدينة بور التي ترعرع فيها قرنق وتزخر بتنوع قبلي رائع يجعلها مهيئة تماماً لإستقبال الجامعة والإستفادة منها. وجدد د. لوكا في المكالمة الهاتفية التي أجريتها معه يوم أمس الأول الجمعة، ما سبق أن قاله في الجزيرة الأيام الفائتة، وهو أن د. جون منحاز للمزارع ومهتم به على نحوٍ خاص منذ أيام الحرب، ومؤمن كذلك بشكل قاطع بأن البترول يجب أن يكون وقوداً للزراعة وفي خدمتها، وبالتالي فإن هذه الجامعة التي تحمل اسمه ستكون بمثابة آلية لتجد أفكاره في تنمية الريف طريقها للنفاذ. ومهما يكن من أمر، فإن إنشاء جامعة باسم الراحل جون قرنق دي مبيور في مسقط رأسه « بور» يُعد تعبيراً عملياً عن الوفاء لرؤية الراحل، رغم حالة اللا وفاء البائنة لرؤيته من قبل البعض حسبما إشتكت من ذلك ربيكا نفسها في ذكرى رحيل قرنق الثالثة. كما أن إنشاء جامعة جديدة، أياً كان اسمها، ُيعد مصدر تنوير أكثر إشعاعاً بالضرورة، من ذلك المنبعث من الشموع التي باتت تُستهلك في الخرطوم بكميات تجارية في ذكرى رحيل قرنق. فتح الرحمن شبارقة