سميح القاسم، شاعر أهدى شعره 'بطاقات معايدة' للمغلوبين والمقهورين، في جهات العالم 'الست' كما يقول في قصيدته 'بطاقات معايدة إلى جهات العالم الست'، من قهره الجماعي، ومن سجنه، وحصاره. ينطلق القاسم شاعرا إلى جهات العالم، لتسمعه يغني لقصب السكر في كوبا، ومتحديا الغزاة بقوله 'تقدموا تقدموا، فكل سماء فوقكم جهنم'، ويغني مع 'الأسطة سيد' للسد العالي، في مصر، يوحد المضطهدين في قصيدة واحدة، يجمع فيها بين المشرد والخائف، والجندي المقتول في حرب أسياده، والقراصنة الميتين، والشباب المهاجر سرا باحثا عن لقمة الحرية، والمساجين على قيد 'ايجاد تهمة لائقة'، باسم هؤلاء كلهم 'وشيوعيون لا يعرف أسماءهم' في' اسيوط واللاذقية وفولغوغراد ومرسيليا ونيويورك وأزمير' وأسوة بهم يصرخ سميح القاسم ليقول: أسوة بي أنا نازفا جارحا غامضا واضحا غاضبا جامحا أسوة بي أنا مؤمنا كافرا كافرا مؤمنا أسوة بي أنا أرتدي كفني صارخا: آخ يا جبلي المنحني آخ يا وطني آخ يا وطني آخ يا وطني! أبو عتاهية العصر الحديث 'لا فرق عند سميح القاسم ان يكتب عن البندقية او عن التاريخ او الحب او عن عدس الارض طالما تمهد دلالاتها للوصول للحرية بانفتاح المعنى، وطالما تحمل دلالات الحق والحضور الجذري للفلسطينيين في مواجهة سرقة التاريخ وصناع الزيف 'هكذا يجيبنا الشاعر جمعة الرفاعي عندما سألناه عن القاسم، ويضيف، 'كان شاعرا مكثرا غزير الانتاج ويمكن تسميته ابي عتاهية العصر الحديث الذي يقول الشعر من أكمامه، فكانت قصائده نشيدا لا يتكرر واستعاراته خفيفة كالفراشة ثقيلة كغيمة ماطرة، لكني اتساءل عن تحول بسيط في مسيرة الشاعر حيث بدأ في الفترة الاخيرة طباعة دواوين صغيرة الحجم نسبيا'. الشاعر صاحب الطريقة أما الشاعر عبد السلام العطاري فيقول 'عن الشاهد على الجليل' كما يسميه: 'سميح القاسم، طريقة باقية كما بقي الكرمل شاهدا على تلك الأبواب التي نسيت مشرعة والجدران تنعف حجارتها صارخة إلى أين أيها الراحلون؟ بقي القاسم لم يرحل، وكبر على ما كبر عليه، عاشقا، رافضا، ناهضا، كالفجر الفلسطيني المغمس بندى 'الجليل' و'مرج بني عامر'، وكانت المدينة تكبر وتعلو والبشارة فيها تبشر بأن الشاعر له طريقته التي تتجدد وان بقيت ترتدي 'قمبازها' و'كوفيتها'. ولكن التي كانت تصر عليها دائما ما احترفته طريقته، هو ما تحت تلك الكوفية السمراء'. وعن دور الشاعر الانساني والفني والقيمي يقول العطاري: 'حفظناه مثلما حفظنا تضاريس الوطن، من غرب النهر إلى بحر يفهق حزنا على برتقال يافا وساحة 'الحناطير' و'واد النسناس' في حيفا.. أو حفظناه جنوبا، كملامح وجه غزة الدامية أو أكثر من ذلك كوجه هدى الساخطة على البحر الذي ابتلع صدى صوتها، وحفظناه شمالا، حين تعانق الناقورة رمل صور والشريط الفاصل الذي خدش يد عجوز ثمانيني لاجئ تعلق به فعلقت عليه ندبة من كفه التي طالما شذبت برتقال البحر هناك، وعيناه ترنو إلى قمة الكرمل أو ساحل يعج برائحة التراب العتيق، تذكره بمفتاح صدئت عليه سنوات من غبار التصريحات والوعود، وحفظنا القاسم كما حفظنا رسم إصبع الجليل الشاهد أن بلاد الشام قلبها خارطة كخنجر من يستله من غمده ويعيد البكارة لكروم العنب والزيتون، فكان سميح القاسم وما زال يستل الحروف الثائرة ويحشدها: 'أن الدم خمر العار' ويعلمها أن الضاد لا تملكها لغات الأرض'. الخفافيش وقوس قزح وعلى الرغم من 'الخفافيش' التي ترصده على نافذة بيته وتمتص صوته، وعلى مدخل باب بيته تتعقب خطاه، وتلاحقه حتى بين أوراق المصحف، نسمعه في قصيدة الخفافيش يعلن نهايتها الحتمية بقوله: 'الخفافيش على شرفة جاري والخفافيش جهاز ما، خبئ في جدار. والخفافيش على وشك انتحار. إنني أحفر دربا للنهار!' ويدعونا بعدها بدعوة خاصة لحبيبته الى أن نرسم معا قوس قزح، في قصيدة 'تعالي لنرسم معا قوس قزح' الذي سيلغي أشباح الوديان وتشربهم ألوان قوس قزح، بقوله في القصيدة: 'ارفعي عينيك'! أحزان الهزيمة غيمه تنثرها هبة الريح ارفعي عينيك، فالأم الرحيمة لم تزل تنجب، والأفق فسيح ارفعي عينيك، من عشرين عام وأنا أرسم عينيك، على جدران سجني وإذا حال الظلام بين عيني وعينيك، على جدران سجني يتراءى وجهك المعبود في وهمي، فأبكي.. وأغني نحن يا غاليتي من واديين كل واد يتبناه شبح فتعالي. . لنحيل الشبحين غيمه يشربها قوس قزح! وسآتيك بطفلة ونسميها 'طلل' وسآتيك بدوري وفله وبديوان غزل! حزن وغضب ظل الشاعر مشغولا بسؤال الهزيمة، فنلحظ في أشعاره ذكرها الدائم والذي قد لا تخلو منه قصيدة وان كانت حبا، ولعل الملاحظ أن للهزيمة في أشعاره الاخيرة ذكرا متكررا، قد يكون سببه ما وصلنا إليه حاليا، إلا أنه لم يستكن لها، ولم يجعلها مأساة يبكي على اطلالها، ولم يرسمها على جدار الكهف ليحتمي بها منها كما فعل الانسان الحجري الأول، فالهزيمة وانكسارات العرب، هي من خلقت لغته، وزينتها بالتفاؤل والحب، الذي ما هجر شعره حتى في أصعب الأوقات وأكثرها سوداوية، فنسمعه يحاور حبيبته بقوله: قلت لي - أذكر - من أي قرار صوتك مشحون حزنا وغضب قلت يا حبي، من زحف التتار وانكسارات العرب! قلت لي: في أي أرض حجرية بذرتك الريح من عشرين عام قلت: في ظل دواليك السبيه وعلى أنقاض أبراج الحمام! قلت: في صوتك نار وثنية قلت: حتى تلد الريح الغمام جعلوا جرحي دواة ، ولذا فأنا أكتب شعري بشظية وأغني للسلام! موت الورد علوان حسين (الى فرج بيرقدار) لا تندم أيها الربيع فالثعبان خائف من الفراشة موت بين الرماد والورد * وقت ٌ يغوينا لنتبعه نضيعه ُ في الطريق إلى الحلم. دم ٌ يذهب ُ إلى طفولته موتنا واضح ٌ بلا مجازات ولا تورية قمر ٌ في سماء مكسورة ودم ٌ طري ٌ لما يجف ُ بعد لا مرآة نتأمل فيها كهولة أحلامنا كلماتنا لها طعم هواء ٍ فاتر على قدر الموت تأتي القصيدة موتنا تنقصه حياة أخرى. كل أيامنا رمادية ٌ لا ورد ينبت ُ فوق القبور الربيع خريفي ٌ هذه السنة نموت ُ وننسى إنا كنا نموت قبل دقائق تقطف الريح ُ أحلامنا حماه * لا تكفيها مجزرة ٌ واحدة أصغي إلى النهر يروي سيرة قمر مُطارد وهواء مثقل برائحة الموت الكل سواء أمام الهاوية العصافير والأطفال ومئذنة الجامع وأيقونة على جدار كنيسة ٍ مهدمة. لكل حي في حماه مقبرة ٌ عائلية مدينة بلا ظلال نصفها سجن والنصف الآخر مقبرة ربيع ٌ تتساقط فيه الزهور ويهيج الهواء ملطخا ً بدم ٍ وصراخ. وديعا ً كان النهر العشاق على ضفتيه كالنواعير لها غناء يأسر القلب وديعا ً كان سريع الهياج وغير قابل ٍ للكسر. كان الشعر غنائيا ً مسرفا ً في العاطفة قبل حدوث الفاجعة ربما لابد للشعر من موت ٍ تراجيدي كي تكون القصيدة تامة المعنى الوداعة للنهر والشاعر يكسر عصا الطاعة. على طاولة الجنرال باقة ورد أنيقة لماذا يحب الجنرال الورد َ ويكره الحرية هل يحب الجنرال الورد َ أكثر من الأحذية ؟ يحب الثورة ويبطش بالثوار بدم ٍ بارد يحب الجنرال الأطفال والنساء الجميلات حقا ً.. لدينا جنرال يحب النساء الأنيقات الممشوقات القوام. في سجن تدمر العسكري بسمعته السيئة حيث أمضيت عشرة أعوام ونصفا سجينا ً كان الجنرال قد خصص مهاجع خاصة ً بالنساء المتورطات بالسياسة بعضهن زوجات وأمهات رجال هاربين وبعضهن هاربات من جحيم البيت إلى السياسة كن يعذبن مثلنا نحن ضحاياه الممنوعين من الحياة. ممنوعات من الهواء كانت الشمس من الممنوعات بالطبع هل حقا ً يحب الجنرال النساء؟ الحرية حمراء بلون الورد للجنرالات الكراسي ولنا مصابيح الطريق أذا ظفرتم بالدكتاتور حيا ً رجاء لا تقتلوه من الظلم محاكمة المجانين ضعوه في مصحة الأمراض العقلية. على وقع موسيقى جنائزية دعوه يرقص مع الأشباح جثث ٌ تطارده في الساحة المزروعة بأرواح الموتى. ليكن له في كل يوم موعد غرامي في ركن مهجور من حديقة الندم مع طيف امرأة ٍ فقدت أبنها الوحيد في مجزرة طائفية. شاعر من العراق يعيش في كاليفورنيا [email protected] *تذكير بقصيدة أدونيس ' وقت بين الرماد والورد ' * لحماة مجازر كثيرة أشهرها مجازرها الكبرى عام 1982 القدس العربي