كان الراحل يتحدث عن كل الأدباء الذين قرأ لهم إلا عن نفسه، وكان يردد كثيراً أن كل كتاباته لا تساوي قصيدة واحدة من قصائد المتنبي. بقلم: فوزي عمار اللولكي في ذكرى وفاته كان الرجل السبعيني الأسمر يتأبط جريدة عربية، لم أعرفه في أول وهلة، ولأن المحطة كانت خالية إلا مني ومنه وعجوز انجليزية كانت مشغولة بقراءة كتاب كعادة الانجليز في محطات الباصات والقطارات. ومثل أغلب العرب الذين يحبون الثرثرة فى المحطات اتجهت إليه، وسألته: الأخ سوداني؟ فأجاب: نعم. وماذا تعمل؟ أجاب: عملت في مهن كثيرة، عملت مترجما في البي بي سي وموظفا في الأممالمتحدة وعملت كاتباً! قاطعته وقلت: لا تقل لي بأنك الطيب صالح! قال: نعم يا أخي أنا الطيب صالح. كان ذلك في صباح ضبابي كعادة طقس لندن، في مارس/آذار 2001. التقيت الطيب صالح أول مرة في الشارع الذي يسكن به في قراند درايف بمنطقة ويمبلدون بلندن حيث يقيم، وكنت عندها طالب لغة في لندن أقيم مع عائلة بريطانية في نفس الشارع حسب تقاليد مدارس اللغة، كان هذا اللقاء في محطة الباص، وجدت نفسي وجهاً لوجه مع هذا العملاق والقامة الأدبية الكبيرة، وقد كنت عرفت الطيب صالح كأي قاريء من كتاباته وأشهرها رواية "موسم الهجرة إلي الشمال"، هذه الرواية التي ترجمت الى أكثر من عشرين لغة، واختيرت ضمن أفضل مائة عمل في تاريخ الإنسانية. عندها طلبت منه بحياء أن نجلس لكي نتحدث، فأنا من قرائه المولعين بإبداعه الجميل ولعل "موسم الهجرة إلي الشمال" تعبر عني وعن كل من حلم بالهجرة إلى الشمال، وأنهلتُ بالأسئلة كالسيل على الكاتب الكبير الذي كان يجيب بكل بساطة وود وكنت أقاطعه بين كل إجابة بسؤال اخر قبل أن ينهي إجابته, وكان في منتهى الأدب والكرم لدرجة أني شعرت بأن الرجل صديق قديم، وحين توقفت عن طرح الأسئلة بادر هو وسألني: من أين أنت؟ قلت: أنا طالب دراسات عليا من ليبيا. فأجاب بلهجة سودانية: إذا أنت من ناس الفقيه، يقصد صديقه الدكتور احمد ابراهيم الفقية الكاتب الليبي صاحب رواية الثلاتية. وكان بيني وبين الدكتور الفقيه صداقة وإعجاب بإبداعه الروائي، فأجبت بالإيجاب. وتعددت اللقاءات مع الكاتب الكبير في عدة جلسات كنت حريصا على حضورها فى ويمبلدون وفي احد المقاهي الجانبية لشارع أدجوار رود، والمعروف بكثرة تواجد العرب فيه، لقد كانت جلسات الكاتب الكبير تحمل كل مرة شيئا جديدا، إذ كانت تضم كل ألوان الطيف من يسار ويمين وإسلاميين وليبراليين وقوميين عرب، مفكرين، باحثين عرب من بينهم المعروف والمجهول، الأكاديمي والسياسي. وكان يتحدث مع الجميع باهتمام متوازن. ومن أشهر أصدقاء الكاتب والذين كانوا على اتصال متواصل معه: الدكتور غازي القصيبي وزير العمل السعودي، كاتب رواية "شقة الحرية"، الاستاذ محمد بن عيسي وزير الثقافة ثم الخارجية المغربي، ومؤسس مهرجان ومنتدى اصيلة المغربي. وقد أتاحت لي هذه الجلسات التعرف على المشهد الثقافي في لندن، والتعرف على العديد من المؤسسات والمنظمات كمؤتمر الحوار العربي البريطاني ومؤسسة التفاهم العربي البريطاني، والعديد من الشخصيات المقيمة في لندن، ومن بينهم ابنته زينب من زوجته الأسكتلندية جولي وهي الحاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة أوكسفورد. لا أود الحديث عن كتابات الطيب صالح ورواياته فكلها معروفة ولهذا الحديث أهله من النقاد والباحثين العرب، ولكن ما أود سرده هنا هو تجربتي الشخصية كطالب مغترب بسيط في لندن، والمساحة التي منحني إياها هذا الكاتب الكبير، لقد كان هذا الرجل إنسانأ بمعني الكلمة وبما فيها من مضامين، ودودا شديد البساطة لقد كان الرجل أشبه بطفل وديع لم تمنعه الشهرة من أن يكون بسيطا ومتواضعأ، وكلما اجتمعت به، كنت أتذكر قولاً ً مفاده: "إن العظيم هو الذي تشعر في حضرته بأنك عظيم"، أعطاني هذا الكاتب الكبير مساحة لم أكن أحلم بها فقد كان صوفي النزعة، مرهف الحس، في تواضع جم يخاطب الوزير والفقير بالإيقاع والطريقة نفسها. وكان يتحدث عن كل الأدباء الذين قرأ لهم إلا عن نفسه، كان يردد كثيراً أن كل كتاباته لا تساوي قصيدة واحدة من قصائد المتنبي. كان يتحدث عن كتاب انجليز وأفارقة من شتى الثقافات. حدثني يوماً عن الشاعر والرئيس السنغالي الأسبق لييوبولد سيدار سنغور الذي كان أحد أهم شعراء اللغة الفرنسية. وكان يعرج على ذكر الأدباء العرب وخاصة من كانت لهم اهتمامات بالنزعة الصوفية أو كانوا من المتصوفة. وقال لي ذات يوم إن جدك عبدالسلام الأسمر (يقصد الصوفي الليبي سيدي عبدالسلام الأسمر الفيتوري دفين مدينة زليطن/ ليبيا) يعتبر أشهر صوفي في شمال أفريقيا. كان الطيب حريصا على حضور معظم المهرجانات الثقافية العربي، في مهرجان ومعرض القاهرة للكتاب فى 2002، أطلق رؤيته حول الثقافة العربية وضرورة فصلها عن السياسة. مازحته مرة عند عودته من مهرجان الجنادرية الثقافي في السعودية قائلاً: يا مولانا يبدو أنك سعودي الهوى، فأجاب برقة: إني عروبي الهوى والهوية، ومهرجان أصيلة بالمغرب يعتبر أهم مهرجان عربي حتى الآن. كان الطيب عروبيا، وهو المقيم في الخارج اكثر من العرب المقيمين داخل الوطن العربى، لقد كان مسكونا بالوطن وان كان لا يسكن الوطن. تشعر وأنت تستمع إلى الطيب صالح بأن داخله حزنأ مقيمأ من الغربة وإن كان يخفيه، لقد رحل الطيب عنا مرتين مرة حين هاجر إلى الشمال، ومرة حين رحلت روحه الطاهرة إلى السماء، ولكنه هاجر إلى قلوبنا قبل ذلك. ما أوسع الحزن وأضيق الكلمات رحمك الله يا طيب لقد كنت إنسانا، طيبا، صالحا، وستبقى.