توقيع اتفاقية الحريات الأربع وإن جاء متأخّرًا بين الخرطوموجوبا إلا أنه يُمثّل خطوة في بداية الألف ميل لحلّ الأزمات التي خلقتها اتفاقية نيفاشا التي قسّمت السودان إلى دولتين ولكنها لم تحلّ معضلاتها وأزماتها التي انتقلت من الجنوب القديم إلى الجنوب الجديد في الشمال ومن الشمال القديم في الجنوب الجديد إلى الشمال الجديد للجنوب الجديد في شكل تمرّد وحروب أهلية وقبلية على طول الحدود ولذلك فإن ما حصل في أديس أبابا رغم أنه جاء متأخّرًا إلا أنه يُمثّل البداية الجادّة التى يجب تطويرها من أجل حل جميع الأزمات فقد كان من الممكن أن يكون الانفصال سلسًا وأن تقوم العلاقات الجديدة وفقًا للمصالح المشتركة المبنية على العلاقات التاريخية الراسخة ولكن يبدو أن للساسة وتابعيهم في كل من جوباوالخرطوم رأي آخر، فالخرطوم التي فقدت الإيرادات المالية من موارد النفط لا يهمّها من الأمر إلا إيجاد بديل لهذه الموارد ولذلك سعت بكل قوّتها لفرض الأمر الواقع الجنوب الدولة التي لا تملك موانئ بحرية ولا خطوط أنابيب ولكنها نسيت أن الجنوب الدولة ليست الجنوب الإقليم القديم وأنها بادلتها بمواقف أشدّ لم تضع الخرطوم لها الحساب فجوبا بعدها أعلنت إغلاق آبار نفطها وبدأت البحث عن طرق جديدة لتصدير النفط ووقّعت اتفاقيات مع الدول المجاورة والتي كانت الخرطوم لم تضعها في حساباتها فيما استمرّت في الضغط على الخرطوم عبر حركات التمرّد في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور ولم تُفلح خطط الخرطوم في دعم تمرّد الجنوب في جعل جوبا تتراجع عن موقفها ولذلك كان لا بدّ من البحث عن حل توافقي يُعيد الثقة المفقودة ومن هنا جاءت اتفاقيات أديس أبابا الإطارية والتي تشمل المواطنة واستكمال ترسيم الحدود بين الدولتين وهي لا تختلف عن اتفاقية أديس أبابا السابقة التي أجهضها البشير شخصيًّا والتي وقعها مساعده نافع علي نافع مع مالك عقار وهي كانت كفيلة بمنع اندلاع الحرب من جديد في الجنوب الجديد. ولكن مع توقيع اتفاقية أديس أباباالجديدة ظهرت نفس الأصوات الرافضة بقيادة الخال الرئاسي الذي يبدو أن نافذين في الحزب الحاكم يقفون خلفه، فالخال الرئاسي بدأ في دق أسفين الخلافات داخل الإسلاميين بِشأن هذه الاتفاقية والدعوة صراحة لإسقاطها وإجهاضها رغم أن الرئيس البشير شخصيًّا وافق عليها والسؤال ماذا يُريد الخال الرئاسي؟ وهل هو يمثل المواقف الحقيقية للإسلاميين وناطق رسمي باسمهم أم هو يُعبّر فقط عن آراء شخصية علما بأن كتّابًا إسلاميين بازرين في الحزب الحاكم ومن الداعمين للحكومة بل بينهم من يعمل ناطقًا رسميًّا باسم الحزب الحاكم يكتبون مقالات راتبة في جريدته. من الواضح أن هناك جهات داخل الإسلاميين لا يرغبون في حلّ الأزمات مع الجنوب بل يرغبون أصلاً في حرب جديدة مع الدولة الوليدة وأن البشير نفسه قد ساير هذا الموقف بالإعلان عن التعبئة العامة وسط الدفاع الشعبي لتجهيز كتائب جهادية ولذلك فإن الاتفاقية الجديدة رغم أن فيها مخرج للخرطوم من الأزمات التي خلقتها مواقفها من نيفاشا إلا أنها ستُواجه بمواقف رافضة وأن موقف الخال الرئاسي منها يُمثّل بداية قيادة الحملة لإجهاضها والعودة لمربع الحرب. فالخرطوم ليست المُهدّد لهذه الاتفاقية بل إن جوبا نفسها وعلى لسان رئيس الجنوب سلفا كير قد ربط تنفيذ الاتفاقية وحلّ الملفات الخلافية بتبعية مناطق أبيي وكاكا التجارية وكافي كنجي وبعض مناطق النفط إلى الجنوب وهذا يعني أن اللقاء المقرّر أن يجمعه بالبشير قريبًا بجوبا لحلحلة الملفات الخلافية سيكون مثل سابقاته لأن شروط سلفا كير قد أجهضته مسبقًا علمًا بأن للخرطوم أيضًا شروط وقد تكون أصعب من شروط جوبا، الأمر الذي سيعود بالأمور إلى مربع أديس أبابا الذي يقوده الرئيس الجنوب إفريقي السابق تامبو أمبيكي المدعوم إفريقيًّا وأمريكيًّا وغربيًّا. فالواقع ، ليس أمام الخرطوموجوبا إلا الحوار الثنائي لحل الأزمات التي خلقتها نيفاشا، فالمجتمع الدولي لم يسمح بتجدّد الحرب والظروف الداخلية لكل من السودان وجنوب السودان لا تسمح بهذه الحرب، فجوبا لا تزال دولة هشّة وتحت رعاية دولية، والخرطوم من جانبها تُواجه أزمات في الجنوب الجديد وفي الغرب في دارفور بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي ربّما تقود السودان الى ربيع صيفي جديد يلحقه بالربيع العربي، وإن المطلوب تطوير اتفاقية أديس أباباالجديدة وجعلها خريطة طريق لحل جميع الأزمات خاصة أن جميع الأزمات السودانية سواء كانت شمالية أو جنوبية مرتبطة ببعضها بعضًا وجميعها نشأت واستفحلت بسبب فقدان عدم الثقة في الخرطوم التي يجب عليها ان تُدرك أن سياسة المراوغة وشراء الزمن أصبحت لا تُجدي نفعًا. فعلى الخرطوم أن تُدرك أن أمريكا بدأت تتحرّك عبر الكونغرس وأن عينها ليس على الجنوب فقط وإنما على الجنوب الجديد بعدما هدأت دارفور في نظرها، وإنها في انتظار أي فرصة مناسبة للتدخّل وما مشروع سلام السودان الجديد إلا البداية لما هو أسوأ قادم في صيف الخرطوم التي ستجد نفسها في مواجهة الجميع منفردة، لأن العرب فيهم ما يكفيهم من أزمات وإن الأفارقة ستكون قلوبهم مع شقيقتهم الجديدة في أي مواجهة مع السودان، فالقضية ليست محلّ مساومة، فحلّ الأزمة واضح وإن تفاهمات أديس أباباالجديدة وضعت الإطار لها وإن أي محاولة للتراجع عنها أو إجهاضها من طرف الخرطوم يعني العودة لمربع أمبيكي وإطالة أمد النزاع وهذا ليس في صالح الطرفين. فالسؤال المطروح هل سيكون لقاء البشير سلفا كير المتوقّع بجوبا قريبًا البداية لتدشين علاقات جديدة تقوم على الثقة المتبادلة بين السودان وجنوب السودان؟ أم أن الخال الرئاسي سينجح في إجهاض هذا اللقاء أصلاً؟ أم أن اللقاء سيكون مثل سابقيه التي وضعت مصفوفات وتفاهمات قادت إلى الواقع الحالي في علاقات الطرفين؟ _ كاتب سوداني