بقلم: مقداد خالد مدخل: مشيت يا (سالم) الحبوب بعد وريت طيور الحلة .. تلقى العافية وين وحبوب بعيد عن نبلة ولا رصاصة .. ولا شرك رماد منصوب مقطع من الملحمة الشعرية (فاطنة) (1) أخر صورة لحميد حسن سالم كما يحلو لأهله، والتي بالمناسبة تماهي الصورة الدائمة العالقة في قلب مريديه، وأتذكرها حالياً في غباش (فاليوم للغبش .. وليأتي الغد بالحال الذي يريد) ناجم عن فراغ قلبي كفؤاد أم موسى ساعة القته في اليم، وعن تراكم ذرات الغبار التي كست الجو وعلقت فيّ، بالتزامن مع دموع تأبى أن تنسال أو تجف منابعها، هي صورته بالعراقي الأبيض، النظارة السوداء، متوسطاً عنقريب من الحبل لا يعرف الوسائد، وبأقصي الصورة من جهتها الشرقية يسكن كوز (فارغ) قدّ من النيكل، وفي خلفية اللوحة خليط من شجر المانجو والنخيل، فيما يدخل على الصورة (رادي الدندهوب) كلمةً شاذة، ربما لكونه أعتاد بث النشاز لصانع (الضو) وشخصيته (منونياً) مع هنا أم درمان: (حبيبتي آه وودادي وين وحبيبي وُوب .. والباقي كلُّو مقابلات .. والنشرة ما في ولا خبرْ .. عن بلدُو عن شِدَّة عَنا). (2) وشدة العناء ذاتها، تدفعني لتذّكر ليلة بمثابة (القدر) وتجنباً للمبالغة (ليلة القدر) خاصتي، من أيام سني الدرس بجامعة كردفان، سيذهب واهم إلى أنها ليلة التخرج، وآخر على أنها إحدى ليال انتصارات (الوحدة الطلابية) التالدة أيام المنبر النقابي، وسيذهب أخر إلى أنها تلك الليلة التي (أنشدّت) فيها تلك الغادة الحسناء القادمة من وراء بحور العرب ناحيتي (زي سلكاية في طنبور). لكنهم أجمعين على خطأ، كوني أعرف –يقيناً- تلك الليلة بأنها الليلة التي قدم فيها حميد ليحاضرنا عن الوطن، وينشدنا الغبش، ويساررنا عن الكيفيات الملائمة لصناعة المستقبل وذلك قبل أن يعرف العالم مصطلح خارطة الطريق، تناسينا يومهاً عمداً أختلافاتنا السياسية مع طلاب (الجبهة الديمقراطية) وطلبنا ودهم أملاً في رفدنا بحصاد التسجيلات الصوتية لزائرهم الكريم، إبان عصور ما قبل الموبايل، ولكنهم تناسوا –عنية- وقتها كل أفكار زعيمهم كارل ماركس الاشتراكية، وأخبرونا براسمالية بائنة أنهم الوكيل الحصري لكاسيت (الليلة) ومهروا أقوالهم بتوقيع أسفل يسار أحاديثهم، حمل أسم (الجبهة الديمقراطية – فرع شركة حصاد للصوتيات والمرئيات). المهم، أمتلات يومها المدرجات ك (سنبلات خضر) عن أخرها، وضاقت القاعة ذرعا دون بوادر للفرج، حد إثارة غيرة وحفيظة أساتذتنا المتنطعين، حال قرروا برشد، مغادرة متردمهم المشيد بالاسمنت وزيارة الجامعة، كافين عن صم آذانهم وإستغشاء ثيابهم وقوفاً إلى جانب الحق، والحق واجب الإتباع الذي كان يمشي على قدميه متبختراً ساعتها بين الناس، يشير بزيه وسبابته وإبهامه جهة محاضرات الاكاديمين البوار، منزوعة الروح والدسم، ويدمغها بأنها السبب الرئيس في عزوفنا عن القاعات، قاصرين دخولها ما أمكن على فترات الامتحانات والبدائل والملاحق، هذا إن لم نقصرْ (الشر) على طريقة (أدروب) و(نبيت) أو بمصطلحات الجامعة ال (ريبيت). (3) جلسنا يومها صمتاً ك (صنة شيخ على حافة جرح والدم معكم في الحجار تاريخ)، إجلالاً لمهابة الفارس الخارج من أساطير اليونان، الطال من حماسة مهيرة بت عبود، ومناحات بنونة بت المك نمر، وبسالة أنصار المهدي قبالة مدفع المسكيم، وثبات ود حبوبة أمام صلف الانجليز، وأبنوسية علي عبد اللطيف ونمو أشواقه ناحية مصر، وخطب الفضلي وزروق الفذة لمرتادي نادي الخريجين، ودمور أزهري ومنديله أو (علمنا) الأبيض، وهدوء ورزانة عبد الخالق محجوب حتى في ساعات غضبة النميري، فضلاً عن جلبة العمال وانتصاراتهم بقيادة (شفيعهم) ود أحمد الشيخ. ساعات من عمر الزمان قضيناها، ونحن في جهجهة مع (الضو) المحاط بالبحر، ومع صريخنا ل (عم عبد الرحيم) يا حاج القطر ياحاج القطر، وفي الحراسات مع (الزين ود حامد) والنوباوية، وفي المهاجر وراء المقود مع (هاشم ولد زينب بنت وراق)، ومع (حمتو) إنتظاراً لأوبته، ومع (السرة بت عوض الكريم) الدغرية بعد أن قرر النيل ذاته الإنحناء للجغرافيا قريباً من دارها، ومع (عيوشة) في رقصات الهيجان، ومع (نورا) مفسرة الأحلام وموصدة ترابيس (الأشعار) بأن قضي الأمر الذي فيه تستفيان. ساعات، ونحن نتلمس الجغرافيا .. بالكلمات، ومن يعرف حميد لن يلجأ ل (قوقل أيرث) بغبائه الجمّ وهو يضع نقطة على خريطة ويسميها لنا مدينة، ومن لاذ بقصائد حميد سيجد تاريخ المدن، نزقها، شخوصها أحداثها، وتطلعات أهلوها، وكل علم اجتماعها .. والانثربولجي. عرفنا (الجابرية)، بخطوط طولها وعرضها، وكيف يمكن أن يكون نباح كلابها دفاعاً عن العرض أصدق إنباءٍ من خطب رموزها بحثاً عن أصوات الناخبين، و(أتبرا)، برجالاتها الموسومين هيبةً فيما تتسربل نسائها ب (الحِرة) وهو ما مكن صديقنا الطيب، الإبن غير البار لمدينة الحديد والنار، أن (يخوجل) في طرقات الجامعة بطاؤوسية طيلة أيام تلت الليلة الشعرية، قامعاً كل عبارات سخريتنا المعتادة بحركة مزدوجة ييمم فيها وجهه تلقاء قاعة كردفان كما (هبنقة) –أنّا كان موقعه- وبعدها يتلوا على مسامعنا: (يا عطبرة الطيبة يامنجم الثورات .. جيتك بعد غيبة وغربة وطي جمرات رجالك الهيبة نسوانك الحارات) فنبلع ريقنا ونلعن وحي حميد الذي تنزّل على (أبو الطيب المتجوهل) ليعرف بغتة قدر مدينته التي كان جلّ معرفته عنها أنها مدينة (الأمل) .. عطبرة. (4) رحل حميد، ولكن بعدما علمنا التحزب للإنسان (شن الطين وشن المال وناس بيتك مراضى جهال)، والمناداة والمطالبة بالخدمات كحقوق واجبة السداد (دايرين بوسطة ومدرسة وسطى .. دايرين كهربا دايرين موية .. الشفخانة وسوق منضبطة)، والإنحياز لطبقة الغبش (من التعب البلا صالح تفيقي تروقي تنجمي)، ومظاهرة و(مقالعة) الحق (ال نندق .. نندق .. نندق .. ويفضل فينا لهيب الحق)، والوقوف صفاً ضد منابر العنصرة (كلنا لآدم .. وآدم أبو البشرية)، ومنصات الجهوية (بس الما هو عادي .. دة من وادي حلفا .. ودة من كاجو كاجي .. ودة من كردفان) والتعلق بأستار المواثيق التي يتشدق بها العالم اليوم (نورا تحلم بي عوالم زي رؤى الأطفال حوالم .. لا درار لا عساكر لا مظاليم لا مظالم) كما علمنا كيف نهيم عشقاً بنادوس (ولمن يجهلون حميد، فما نادوس الا مقلوب كلمة (سودان) فرددنا مع المجنون، مجنون نادوس: (أيوة بحبك حباً جما وياما بحبك يانادوس). رحل محوّل حياتنا وأوجاعنا لشريط سينمائي (يا دنيا زي سكرة وتفك)، ومصدّر عباراتنا وأمثولاتنا بعد تدويرها وإعاداتها إلينا في قالب من البساطة المدهش حتى نهتف (يا الطاف الله) كحين قوله: (كما أنه المطر من طين .. كمان من طين بيجي الرواق). رحل أباطه والنجم، فما هو (قارون)، رحل دون حاشية تحول بينه والناس فما هو (هارون)، رحل دون (نوبل) التي كان يستحقها لولا أننا لا نعرف أقدار الرجال، رحل بعد أن ترك لنا إرثاً سنبكيه كما تبكي النساء، رحل وتركنا شتى حول من يخلفه، وفي النهاية كحال قادة الأسكندر الأكبر (غازي العالم) بعد مواته سنتقاتل وندعي أحقية وراثته فيما سيظل كرسيه فارغا، رحل بعد أن أمننا على صياغة مشروعه الشعري إلى واقع معاش .. ولكن هل نقدر .. هل نستطيع؟ (5) بالأمس ترجل حميد، واضعاً قشة أخرى على ظهر بعيرنا، ومضيفاً للشعر بيت (ولكنه أخير) مجهضاً أحلام (الثوار) في هبة الشارع لمرة ثالثة، فالبلاد حد قادتها تخلو من أسباب الربيع العربي، وتخلو اليوم من شاعر يؤسس لشعبها معني أن يعيش وينتصر. رحل حميد، معلناً بأن الموت ليس إطلاقاً بقضية الميت وإنما هو قضية الباقين، رحل والباقين يدورون في ساقية الغلابة المتعبين، وفي فلك السؤال السرمدي: لماذا يموت الشاعر وتبقى كلماته .. ألم يقل هو كل تلك الحياة؟!! الرأي العام 21 مارس 2012م