أجمعت الصحف الفرنسية، اليمينية واليسارية، على أن الدرس الجديد واللافت في الانتخابات الرئاسية الفرنسية تمثّل في وقوف الفائز والمهزوم الثلاثاء جنباً إلى جنب ب"قوس النصر" ليضعا يداً بيد إكليل الزهور على قبر الجندي المجهول ويجسّدا روح الوفاء للوطن والديمقراطية والتداول السلس والهادئ للسلطة. ويتزامن المشهد الفرنسي مع مشهد آخر يناقضه على الطرف الآخر من البحر الأبيض المتوسط، ظهر فيه الرئيس السوري بشار الأسد على شاشة التلفزيون الرسمي وهو يضع إكليلاً من الزهور ويقرأ الفاتحة خلال زيارة خاطفة لنصب الجندي المجهول بدمشق عشية انتخابات برلمانية هزلية وسط حمامات من الدم. سلام الشجعان ب"قوس النصر" حفلت الصفحات الأولى من الصحف الفرنسية بصور الرئيس المنتهية ولايته نيكولا ساركوزي والرئيس المنتخب فرانسوا هولاند وهما يوقعان معا في سجل الاحتفال السنوي بذكرى انتهاء الحرب العالمية الثانية في الثامن من مايو 1945 ويصافحان المحاربين القدامى وأعضاء الحكومة وأعضاء السلك الدبلوماسي. وأشارت الصحف إلى أن هولاند كان يحرص على التأخر بخطوات قليلة عن ساركوزى، على أساس أنه لا يزال يمارس مهام عمله، بينما كان الأخير يحرص على انتظار الرئيس المنتخب ليكونا جنبا إلى جنب. وحملت كلها عناوين متناسقة: "معا من أجل الجمهورية"، "وفاء للوطن ولتاريخه العريق"، "وراء صخب الماراثون الانتخابي حقيقة واحدة تظل خالدة اسمها الضمير الوطني"، "مصافحة الثامن من مايو ستظل عالقة في أذهان الفرنسيين"، "سلام الشجعان بقوس النصر". وجاءت مبادرة ساركوزي بدعوة خصمه للاحتفال معه بالذكرى الوطنية لتمحو الصورة السلبية التي لصقت به طيلة فترة ولايته المنقضية والتي شوهت خلال الحملة الانتخابية والمواجهة التلفزيونية بمحاولته الاصطياد في مياه اليمين المتطرف واستثمار ملفات مثل الهجرة والأمن وتوظيف فزاعة الإسلاميين وافتعال النقاش حول اللحم الحلال. وكان اول مثال عن الشهامة وأدب الممارسة السياسية الديمقراطية عندما تحمّل ساركوزي في تواضع المسؤولية كاملة عن الهزيمة وحيّا منافسه ودعا أنصاره إلى احترام الفائز. وعن الكرسي حدّث ولا حرج! في المملكة العربية السعودية حيث لا يسمح بتكوين احزاب سياسية ولا تنظم انتخابات رئاسية ولا تشريعية تأثّر العديد من الكتّاب بالمشهد الديمقراطي الفرنسي. وعلّق كل من علي إبراهيم وحمود أبو طالب وخلف الحربي وغيرهم بالقول في مقالات صحفية أن ساركوزي وهولاند أضافا درسا جديدا للدروس التقليدية في ممارسة الديمقراطية، يمكن أن تكون نموذجاً يُحتذى في العالم العربي. يقر جميعهم بأن "الديمقراطيات الغربية لم تصل إلى هذا الوضع إلا بعد طريق طويل من الممارسة ومن العمل السياسي لأحزاب ومؤسسات راسخة"، كما قال علي إبراهيم تحت عنوان "يا أهل 'الربيع العربي' تأملوا فرنسا". ولكن أين "بنو يعرب" من التجربة الفرنسية؟، يتساءل حمود أبو طالب. ف"لم تمتلئ الميادين الفرنسية بالمحتجين على مؤامرة تزوير، ولم يعتصم أنصار ساركوزي عند قوس النصر ويرشقوا الآخرين بالحجارة وزجاجات المولتوف، أو يطلبوا تنظيم جمعة أو سبت أو أحد الزحف إلى مقر الرئاسة الفرنسية أو غيره للمطالبة بإبطال نتيجة الانتخابات". أما عن "ما بين ساركوزي والأسد!"، فحدث ولا حرج، كما يقول خلف الحربي. ف"كل سوريا لا تريد الأسد رئيسا للجمهورية (...) ولكن الدكتاتور يتشبث بكرسي رئاسة الجمهورية حتى ساعة الاحتفال بقتل آخر مواطن سوري!". فالالتصاق العضوي بالكرسي هو ديدن الحاكم العربي. وليس أدلّ عن ذلك من رفض عبده ربه منصور هادي الذي تولى رئاسة اليمن بعد تصويت شعبي ضمن اتفاق لنقل السلطة توسط فيه مجلس التعاون الخليجي ودعمته الولاياتالمتحدة الجلوس في كرسي علي عبدالله صالح، احتراما للرئيس "الخارج" من السلطة بعد حكم دام أكثر من 33 سنة انتهى بموجات عارمة من المظاهرات المليونية الغاضبة في كل أرجاء البلاد، دامت أكثر من سنة. الديمقراطية ليست فقط صناديق إقتراع تجتاح حمى الانتخابات حاليا أكثر من بلد عربي ولكن "أول انتخابات ديمقراطية منذ الإستقلال" التي نظمت في أكتوبر 2011 بتونس، ملهمة "الربيع العربي"، أثبتت أن الديمقراطية ليست مجرّد انتخابات، حتى لو كانت حرة ونزيهة. فتونس التي شهدت تحالفاً فريداً ونادراً بين القوى العلمانية والإسلامية، أو"الترويكا"، لإنجاح ديمقراطيتها الوليدة لا تزال مسرحا للاحتقانات الإيديولوجية والتوتّرات السياسية والإجتماعية والإعلامية. والبلاد لا تزال غارقة في "الفوضى الديمقراطية" التي لا تستند على المبادئ الأساسية للديمقراطية غربية كانت أم شرقية مثل حرية الاعتقاد وحرية الرأي وحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة. وهي الدروس التقليدية للديمقراطية. والمفارقة هي أن جميع الفرقاء يدعون إلى وحدة الصف ويدّعون خدمة الشّعب، لكن الخاسر لا يقبل بالخسارة والفائز يعتقد أن الفوز يخول له حق الجور على من لم يصوتوا له، حتى لو كانت المنافسة مفتوحة وشفافة وحرة ونزيهة. من "الديمقراطية ولّا بلاش" إلى "بلاش من الديمقراطية" نشرت صحيفة ليبراسيون الفرنسية الأسبوع الماضي تقريراً بعنوان "بعد الفوضى التونسية البؤس الباريسي" يروي المعاناة المريرة لما يقرب من ألفي شاب تونسي هاجروا بعد الثورة إلى فرنسا وخاطروا بحياتهم للوصول إلى ما كانوا يعتقدون أنها "الجنة"، فوجدوا أنفسهم مشرّدين على الأرصفة أو تحت الجسور يتضرعون من الجوع والبرد والمرض بين النفايات. ومثلهم بالآلاف في بلدان أوروبية أخرى. في نفس الأسبوع كشف استطلاع أجرته مؤسسة استشارات متخصصة في سبر الآراء، تدعى "أصداء- بيرسون مارستيلر"، عن أن تخوفات الشباب الاقتصادية حلت محل بهجة "لربيع العربي" وأن الحصول على أجر عادل وامتلاك منزل أصبحا الآن من أبرز أولويات الشباب في الشرق الأوسط. بمعنى آخر، أن رغبة تحمل تكاليف المعيشة المرتفعة حلت محل التطلع إلى العيش في دولة ديمقراطية. تقول المؤسسة أن2500 شاب عربي تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة شاركوا في الاستطلاع الذي جرى بين ديسمبر/كانون الأول 2011 ويناير/كانون الثاني2012 في الإمارات العربية المتحدة وعُمان وقطر والبحرين والسعودية والكويت ومصر والأردن ولبنان والعراق وتونس وليبيا. ولم يشارك فيه شباب سوريا أو فلسطين. وكشف الاستطلاع أنه عندما ينظر الشباب العربي إلى المنطقة والعالم فإنهم يتطلعون للإمارات العربية المتحدة كبلد يحبون كثيرا أن يعيشوا فيه وكبلد يأملون أن تقتدي به أوطانهم. ميدل ايست أونلاين