قراءة في المشهد السياسي: جامعة الخرطوم..! ما يقوم به طلاب الجامعة من إحتجاجات وتظاهرات ضد سياسات القمع والإرهاب والتجويع، لهو إمتداد طبيعي لتراث راسخ في تربة الوطن ووجدان شعبه الشفيع خضر سعيد لا يمكن الحديث عن مسيرة التطور في السودان، بمختلف جبهاته السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والأكاديمية، إلا بمعية الإشارة إلى دور جامعة الخرطوم الحاسم في هذه المسيرة. وعندما نقول جامعة الخرطوم إنما نعني كل مكونات هذا الصرح العملاق، وخاصة الأساتذة والطلاب. فما مر منعطف بهذه البلاد، منذ معاركها ضد المستعمر من أجل الإستقلال وحتى اليوم، إلا وكان لأساتذة وطلاب هذا الصرح بصماتهم الإيجابية الواضحة فيه. ففي العام 1949، وقبل أن تتطور كلية غوردون إلى جامعة الخرطوم، أسس طلابها تنظيم “مؤتمر الطلبة" والذي جعل من ضمن أولويات مهامه النضال ضد المستعمر من اجل الاستقلال وحق تقرير المصير عبر التحالف بين الحركة الطلابية والحركة الجماهيرية خارج الجامعة. وفي أكتوبر 1964، كان لطلاب جامعة الخرطوم الفضل في إشعال شرارة الثورة ضد ديكتاتورية 17 نوفمبر، ليجددوا ذات الفضل، متحالفين مع حركة النقابات المهنية، في إشعال شرارة إنتفاضة أبريل 1985 ضد الديكتاتور نميري. ومن هنا فإن ما يقوم به طلاب الجامعة اليوم من إحتجاجات وتظاهرات ضد سياسات القمع والإرهاب والتجويع، لهو إمتداد طبيعي لتراث راسخ في تربة الوطن ووجدان شعبه. وإضافة إلى دورها المشهود في تخريج كفاءات مهنية عالية المستوى ظلت تقدم خدماتها في مختلف بلاد العالم، فإن جامعة الخرطوم ظلت أيضا، ومنذ تأسيسها، تفرخ أجيالا من القادة السياسيين والمفكرين والمبدعين في مختلف المجالات. وأعتقد، لا يستطيع أحد أن يتنكر اليوم لحقيقة أن معظم قادة البلاد، في الحكم أو المعارضة المدنية والمسلحة، هم من خريجي جامعة الخرطوم حيث كان فيها تدريبهم الأول على دروس الوطنية والعمل السياسي وإنضاج الإنتماءات. قصدنا بهذا الإبتدار أن نضعه في مواجهة أولئك النفر من قادة الإنقاذ الذين يسعون، عمدا، للي عنق الحقيقة عندما يشيرون إلى إستغلال القوى السياسية لطلاب الجامعة..!! أما مدير جامعة الخرطوم، البروفسر حياتي، فكأنه يواصل كتابة سيناريو المغالطات الحكومية، عندما يتحدث نافيا إن يكون لطلاب الجامعة مسئولية فيما يحدث في الجامعة من تظاهرات وإحتجاجات. وتصريح السيد مدير الجامعة يمكن أن يفهم منه: أولا: إن ما يتم في جامعة الخرطوم من فعل سياسي معارض لسياسات وتصريحات قادة الإنقاذ، هو فعل منكر دخيل على تقاليد الجامعة وعلى تقاليد طلابها، ويستحق التبرؤ منه. ثانيا: إن الطلاب من غير طلاب جامعة الخرطوم، مثلا طلاب جامعة النيلين أو السودان أو الإسلامية، يمكن أن يكونوا هم من قان بتنظيم هذه التظاهرات والإحتجاجات، وبالتالي يمكن ضربهم وإعتقالهم، بل والإعتداء على حرم جامعة الخرطوم لمطاردتهم. نعيد للأذهان أحداث الجمعة 19 فبراير 2012 المتعلقة بالمعركة بين الطلاب وصندوق دعم الطلاب وما صاحب ذلك من إقتحام الشرطة لحرم الجامعة وحرم داخليات الطلاب، ونطرح تساؤلا، نظنه مشروعا، حول ما توصلت إليه لجنة البروفسر الكرسني الخاصة بتقصي الحقائق حول تلك الأحداث؟ مظاهرات طلاب جامعة الخرطوم، ضد الإجراءات الإقتصادية الأخيرة، والتي تفاقمت في اليوم التالي لحديث أحد قادة الإنقاذ في برنامج “الإتجاه المعاكس" بقناة الجزيرة، ورد فعل الحكومة العنيف تجاهها، ربما كانت من أهم الأحداث التي شغلت الشارع السوداني والأسر والميديا والإعلام الأجنبي خلال الأيام الماضية. وفي هذا الإطار، وفي المؤتمر الصحفي للسيد مدير جامعة الخرطوم، كانت أسئلة الإعلام للسيد المدير تتمحور حول إغلاق الجامعة وتعطيل الدراسة، وإنتهاك الحرم الجامعي من قبل الشرطة والمدنيين المسلحين، والطلاب المعتقلين. وعندما سئل السيد المدير عما أشيع حول إستقالته بسبب تعامل السلطات مع هذه الأحداث، جاء رد مدير الجامعة دون توقعات الإعلاميين أنفسهم، إذ نفى أي علاقة بين تلك الأحداث ورغبته في الاستقالة التي عزاها لأسباب أخرى. ومن هنا جاء تأويلنا ربما لما لم نستطع عليه صبرا!! لقد طال عنف الدولة قيما كثيرة تربينا عليها، وعادة ما يدعي الجميع الدفاع عنها: الجرئة في التعبير عن الرأي، مناصرة الحق، التقاعل مع قضايا الوطن والشعب، الشجاعة والبطولة في معركة الحريات...الخ. وهولاء الشباب الذين يدرسون في كليات الآداب والإقتصاد والقانون والتربية وكليات العلوم الطبيعية...، هم حكام البلاد القادمون وصناع قرارها السياسي. فلماذا يستكثر النظام عليهم إقدامهم على خوض معركتهم التي نؤمن نحن بعدالة طرحها وبقوتها في التصدي لسياسات النظام الخاطئة وإدمانه الإنفراده بإتخاذ القرارات الهامة في القضايا المصيرية، من قرار الحرب حتى ردم النيل الأزرق وتوسيع مساحة يابسة شطه في الخرطوم. وكما ذكرنا آنفا، لا نعتقد أن هنالك من يجروء على نكران دور الحركة الطلابية، وبشكل خاص طلاب جامعة الخرطوم، في معارك الاستقلال ومقاومة وإسقاط الأنظمة الديكتاتورية...، فلماذا يسعى أستاذ تخرج من جامعة الخرطوم، ويعرف تماما أن المتربعين على قمة قيادة الحزب الحاكم هم من خريجي الجامعة نفسها، أي كانت بداياتهم السياسية في تنظيماتهم الطلابية في الجامعة، وفي أركان النقاش، ومساجلات انتخابات الإتحاد، ومختلف أوجه النشاط الطلابي الأخرى في الجامعة.. لماذا يسعى الأستاذ/المدير لتحويل الجامعة إلى مجرد حاضنة للمدجنين والمتحولين فكريا حتى يساندوا الظلم؟! هذا ما فهمناه من ردود السيد المدير في المؤتمر الصحفي، أما إذا كنا مخطئين في الفهم فله منا الأسف والإعتذار.! أحد الأسباب الرئيسية لقيام الحرب العالمية الأولى، والتي سجلها المؤرخون في كتب التاريح، هي “غباوة وتهور القادة على الصعيد الفردي"! وأي مهمة أو وظيفة على الأرض، مهما بلغت دقة الضوابط الموضوعة لأدائها، تسمح باللمسة الفردية. والتاريخ موجود للرصد والتسجيل: في إطار الدولة الأموية، تختلف لمسات عبد الملك بن مروان عن لمسات معاوية بن سفيان، وهارون الرشيد في الدولة العباسية تختلف لمساته عن الخليفة العباس...، أما عمر بن عبد العزيز فتختلف لمساته الفردية عن كل هولاء. فهل بلغ الخوف من النظام، والخوف على المصالح الضيقة، حدا يجعل الفرد يتنكر لردة فعله تجاه ما يحدث في جبهة من صميم جبهات واجباته، وهي الدفاع عن حرمة الجامعة ومستقبل طلابها؟؟ عزاؤنا إن التاريخ لا ينسى. إن المعركة الدائرة في البلاد، ليست مباراة بين الهلال والمريخ حتى يمكن السماح بتشجيع فريق ثالث أو الوقوف على الحياد. بل هي معركة بين الخير والشر، بين من يريد عدالة في توزيع الثروة والسلطة، وعدالة في التمتع بالحقوق في الغذاء والصحة والسكن والتعليم والعمل، ومن يريد أن يحتكر الثروة والسلطة، ويذهب للعلاج في مستشفيات أوروبا وأمريكا تاركا مستشفيات “الخرطوم التعليمي" و"الشعب التعليمي" و"أمدرمان" و"الأكاديمية".....في حالة لا تليق بمستوى البشر، معركة بين من يعشق التسوق في ماليزيا ودبي غير عابئ بوحل التسوق في سوق ستة وسوق مايو وسوق كرور، وحتى سوق السجانة العريق، ومن يسعى لتحقيق عدالة تسع الجميع!! إن هذا النوع من المعارك لا يسمح بالحياد أو المواقف الرمادية، خاصة بالنسبة للمواقف الفردية للذين يتبوأون مناصب حساسة، مثل المناصب التربوية والأكاديمية. فالفرد منا، في هذه البلاد المثخنة بالجراح، يقع على عاتقه واجب مصيري، ويناط به دور حاسم، على الأقل كل في مجاله، من أجل وقف الدمار والتدهور المريع الذي طال كل أوجه الحياة في طننا السودان.