عندما دعا الرئيس السوداني، عمر البشير، عددا من القادة العرب والمستثمرين ليشهدوا في وقت سابق هذا العام افتتاح مصنع سكر بلغت تكلفته مليار دولار، اضطر إلى إلغاء الدعوة بطريقة مفاجئة ومخزية. لم يكن المديرون السودانيون يعلمون أن الشركة التي تزود أكبر مصنع للسكر في إفريقيا بالبرمجيات استحوذت عليها شركة أمريكية، أقدمت على الفور على تطبيق عقوبات تفرضها واشنطن على الخرطوم، ورفضت تقديم تكنولوجيا تتصل بالآلات من على بعد آلاف الأميال بواسطة الأقمار الصناعية. "لم يخبرونا. أدركنا ذلك فقط عندما بدأنا المشروع"، هكذا قال فريد عمر مدني، أمين عام شركة سكر كنانة، وهي شركة تساهم في الدولة، وتمتلك 30 في المائة من شركة النيل الأبيض للسكر، مالكة المصنع التي اجتذبت أيضا أموالا من الخليج ومصر للمشروع الذي يهدف إلى جعل السودان الذي يعاني متاعب مالية، مصدِّرا كبيرا للسكر. وأخيرا تم افتتاح المصنع هذا الشهر، بعد أشهر من الموعد المقرر، وبعد أن حصلت شركة البرمجيات على ترخيص يسمح بتجاوز العقوبات. لكن التأخير سلط الضوء على إلى أي مدى أصبح من الصعب على السودان أن يجد طريقا للخروج من الأزمة الاقتصادية في ضوء العقوبات الأمريكية التي فُرِضَت لأول مرة منذ 15 عاما، في إطار سياسة فشلت حتى الآن في إعادة تشكيل نظام الخرطوم الذي تربطه الولاياتالمتحدة بالإرهاب، والصراعات، والأعمال الوحشية. وغالبا ما يقول المسؤولون في الخرطوم إنهم تعلموا أن يعيشوا من دون الولاياتالمتحدة بشكل خاص، والغرب بشكل عام، وذلك من خلال المتاجرة مع آسيا والاقتراض من الخليج. لكن الإحساس بتأثير العقوبات كان واضحا تماما حين أفلس الاقتصاد النفطي المزدهر، بعد انفصال جنوب السودان الغني بالنفط في العام الماضي، ما أثار احتجاجات متفرقة تدعو للإطاحة بالنظام. وقد يساعد إلغاء العقوبات على جذب الاستثمارات الأجنبية ويسمح للحكومة بأن تقترض مرة أخرى في الأسواق الدولية. لكن سياسة العقوبات أصبحت في طي النسيان من خلال تمسك الولاياتالمتحدة بأن تغير الخرطوم من سلوكها دون أن تقدم لها أي حوافز، ومن الجانب الآخر أصبحت الخرطوم في شك بعد ما فشلت واشنطن في احترام وعودها الماضية الخاصة بمكافأة الشمال في حال السماح للجنوب بالانفصال. وقال أحد مستشاري الحكومة: "يا أيتها الولاياتالمتحدة، كم من نقاط الضغط تحتاجين إليها، لقد وضعت البلد تحت قبضة نيلسون (قبضة في المصارعة)، فكيف يكون ذلك في صالحك؟". وتعزو الولاياتالمتحدة تحول أهدافها إلى الصراعات التي تنخرط فيها الخرطوم ضد أهالي الولايات المهمشة في المناطق الحدودية. وقال المبعوث الأمريكي الخاص، برينستون ليمان، ل "فاينانشيال تايمز": "يحتاج السودان إلى إصلاح الحكم في البلاد، وأن يأخذ في الحسبان المطالب المشروعة للشعب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق والشرق، فضلا عن المطالب الداعية إلى مزيد من حرية التعبير، وحرية الصحافة، وحقوق الإنسان في جميع أنحاء البلاد". وأضاف: "مثل هذه التغيرات ستؤدي أيضا إلى تطبيع كامل للعلاقات مع الولاياتالمتحدة". واليد الأمريكية مقيدة أيضا بالاتهام بارتكاب جرائم حرب موجهة إلى البشير وآخرين من أعضاء النظام. وبسبب خلاف رسوم نقل النفط الجنوبي المُصدَر عن طريق البنية التحتية الشمالية، قرر الجنوب إيقاف إنتاجه هذا العام، مجردا الشمال من المزيد من المال. ومن دون النفط، أصبح تأثير العقوبات محسوس بشكل أكبر، ما يساعد على دفع الخرطوم للتوصل إلى اتفاق بشأن الأمن والمسائل المالية مع الحكومة الجنوبية، قبل انقضاء مهلة تنتهي في الثاني من آب (أغسطس) المقبل. والفشل في الوصول إلى اتفاق قد يؤدي إلى المزيد من العقوبات. وقال محلل في الخرطوم: "قد تكون العقوبات الآن أكثر تأثيرا. من الواضح أنهم يجعلون الأمور أكثر صعوبة". وأضاف: "على الدوام كانت العقوبات أكثر معاقبة للشعب (...) أنا لا أعتقد أن العقوبات تخدم أغراض أي شخص الآن. ولو كانوا في الولاياتالمتحدة قد تعاملوا مع الأمر بنزاهة أكثر، كانوا سيجعلونهم يهتمون"، مشيرا إلى رفض الولاياتالمتحدة رفع العقوبات عندما انفصل الجنوب. وفي البدء صنفت الولاياتالمتحدة السودان دولة راعية للإرهاب في عام 1993، بعد أن تم ربط تفجيرات مركز التجارة العالمي بزعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، الذي كان يعيش آنئذ في الخرطوم. وعلى الرغم من أن السودان طرد بن لادن في عام 1996، إلا أن الولاياتالمتحدة حظرت في العام التالي 1997 العلاقات المالية والاقتصادية والتجارية مع هذا البلد، وشنت هجمات بصواريخ كروز ضد الخرطوم في 1998. لقد تأثر كل شيء، من المصانع حتى المكتبات التاريخية التي لم تعد قادرة على استيراد الكتب. فكل المعاملات المالية المقومة بالدولار يجب أن تتم تسويتها عبر نيويورك، بغض النظر عن المكان الذي صدرت منه، الأمر الذي حدّ من تحويلات السودانيين في الشتات. وقال أسامة داود عبد اللطيف، وهو رجل أعمال سوداني بارز: "كان أثر العقوبات كبيرا جدا، لكنه أضرَّ بأناس ليست لديهم مشكلات مع الولاياتالمتحدة التأثير يقع على الأشخاص الخطأ". وأوضح أن العقوبات أجبرت "مجموعة دال" التي يملكها والتي تبلغ عائداتها مليارا، على "قطع الكثير من الخطوط" وجعلت المعاملات المصرفية "تحديا حقيقيا". وخصصت الولاياتالمتحدة 213 مليار دولار في ميزانية عام 2013 من أجل تخفيف عبء الديون، بما يتضمن صفقة محتملة لمعالجة ديون السودان الخارجية البالغة 39 مليار دولار، لكن ليمان قال إن الإفراج عنها يعتمد أيضا على "تغيرات سياسية". لكن رجال النظام لا يزالون متشككين.