-يسمو بروح المشاهد ويدخله في أجواء صوفية تنهل من التراث من خلال حكاية رجل إنجليزي يدعى "هربرت" يعيش خلال فترة الأربعينيات في إنجلترا حيث الحرب العالمية الثانية *يستمد المسلسل وهجه من فضاءات الإيمان ويدعو إلى المحبة والسلام ويعطي دروسا في الزهد والترفع عن السفاسف أصبحت الأعمال الدرامية التي تتناسب مع روحانية الشهر المبارك نادرة جدا، وإن وجدت فإنها تأتي من خلال الأعمال التاريخية، لكن أن نرى عملا اجتماعيا يحمل في ثناياه نفحات روحية تعزز إيمان الصائم وتمده بطاقة روحية تجعله يحلّق في فضاءات سماوية فهذا صار ضربا من الأحلام وسط مسلسلات عديدة لا تراعي أجواء رمضان وتثير موضوعاتها الغرائز رغم أن منتجيها يعلمون أنها معدة للعرض في شهر رمضان!. لذا رأيت في المسلسل المصري "الخواجة عبدالقادر" الذي كتبه عبدالرحيم كمال وأخرجه شادي الفخراني، استثناء يستحق الوقوف عنده، لا بسبب الأداء الرائع لبطله النجم يحيى الفخراني فقط؛ بل لأنه يسمو بروح المشاهد ويدخله في أجواء صوفية تنهل من التراث الصوفي من خلال حكاية رجل إنجليزي يدعى "هربرت" -أكد المؤلف أن قصة المسلسل حقيقية، وأن الخواجة عبدالقادر ألماني الجنسية، وليس إنجليزيا كما هو موجود في المسلسل، حيث إنه قدم لمحافظة سوهاج للعمل كمهندس واعتنق الإسلام-، يعيش "هربرت" خلال فترة الأربعينيات في إنجلترا حيث الحرب العالمية الثانية تدور رحاها فتخطف شقيقه الأصغر فيلقي هذا الحدث ظلاله على حياته فيحصر تفكيره في زاوية الموت الذي يطلبه لكنه لا يأتيه، فيدمن على شرب الخمر فيتلكأ في عمله فيخير بين الاستقالة أو النقل إلى الهند أو السودان، فيسأل عن المكان الأصعب فيقول له رئيسه إنه السودان فيختاره، وهناك يلتقي ب"فضل الله" السوداني المتدين الذي سيغير نمط حياته بالكامل، وكل هذه التفاصيل تأتي من خلال استرجاع رجل دين متنور هو أبو عبدالقادر "محمود الجندي" المصري الذي يعيش في عصرنا ويقف بمواجهة المتشددين الذين يريدون هدم ضريح الخواجة عبدالقادر الذي صار يحظى بتقدير أهل المنطقة وعليه كتب "الناس موتى وأهل الحب أحياء" لا لشيء إلا لأنه "خواجة "!. وواحد من هؤلاء المتشددين ابن عبدالقادر الذي أسماه والده على اسم الخواجة اعتزازا برجل وجد في الإسلام منقذا لعذاباته، فاعتنقه وتغيرت نظرته للحياة وترك شرب الخمر وصار إنسانا فاعلا ويسير الخطان اللذان يفصل بينهما أكثر ستين سنة بشكل متوازٍ يشد المشاهد إليه وتتخلل ذلك خطوط أخرى في عصرنا تتحدث عن التطرف وما يرافقه من عنف ومواجهة السلطات للعنف بعنف أشد، لكن تبقى مشاهد الخواجة عبدالقادر وهو اسم اختاره اعتزازا بالمتصوف عبدالقادر الكيلاني، في السودان وهو يمارس الطقوس الروحية ويتلقى من شيخه السوداني كلمات تدخل إلى القلب مباشرة وتضيء النفس. ومن المشاهد الجميلة التي تدل على انفتاح الشيخ عندما يخبره هربرت في أول لقاء يجمعه به باستحياء إنه يشرب الخمر، فيقابله ابتسامه عريضة ويقول له: هل تشرب الخمر لتسكر ؟ أنا أيضا أسكر ولكن بدون خمر.. وتنطلق أنشودة تردد من الشعر الصوفي : وما شربت لذيذ الماء من ظمأ إلا لمحت خيالاً منك في الكأس وما جلست إلى قوم أحادثهم إلا وكنت حديثي بين جلاسي ولو قدرنا على الإتيان جئتكم سعيا على الوجه أو مشيا على الرأس. مؤكدا في أحاديث كثيرة على المحبة وفعل المحبة في النفوس، وحين يدعوه للعشاء في بيته لا يقدم له سوى الماء والخبز والجبن ويكتفي ببضعة لقيمات، وعندما يسأله عن زوجته وأولاده يجيبه "اختارهم الحبيب". هذه الروح المتسامية القانعة بقضاء الله، السابحة في ملكوته، تجعله يتمسك بالحياة ويجدّ في عمله ويعيش أوقاته سعيدا. ولسنا بصدد نقد المسلسل لأنه يواصل عرضه وقد انتقل الخواجة عبدالقادر من السودان إلى مصر -جرى تصوير تلك المشاهد بمحافظة أسوان ومدينة الأقصر، بسبب توتر الأوضاع بالسودان- ولكن أحببت أن ألفت النظر الى هذا العمل الرائع الذي يستمد وهجه من فضاءات الإيمان ويدعو إلى المحبة والسلام ويعطي دروسا في الزهد والترفع عن السفاسف، ويرى أن في المحبة الخلاص في زمن سادت به لغة العنف الشبيبة