1. قبل أربعة أعوام، رحل عن عالمنا الشاعر الفلسطيني محمود درويش؛ ولكم كان رحيله مؤثِّراً لكثيرين وهو في أوج عطاء موهبته الخلّاقة التي لم يعرف الشِّعر مثلها في البلاد.في التاسع من أغسطس 2008م، توقف قلب الشاعر بعد عمليّة جراحية له، ولم تشأ الأقدار أن يخرج ظافراً منها بالحكمة والشعر كما حصل في عامي 1984 و1998م؛ فقد بدا أنّ الأسطورة التي نهضت من ملل امتلائها، ومن زخم بلاغتها وقعت على بياض هو ذاك البياض الذى حرّره ذاته من تاريخها، وارتفع بشعره إلى مرتبة الشّعر الصافي الذي كان يحلم به حتّى سعى إليه بقدميه. هكذا، كان الشاعر قد رمى بالنّرْد بين أكفّنا المعروقة، وخلد إلى الأبد حيث يأخذه الإيقاع إلى ضفاف أخرى، لا هي شرقيّة ولا غربيّة. مات الشاعر لتحلّ مكانه الأسطورة التي انبثقت من جراح المعنى، وكانت قد تكوّنت، لآمادٍ وحيواتٍ، في الشعر وعبره. 2. من الغياب، من قريته (البروة) التي سوّتْها الفكرة الصهيونية بالأرض، قدم إلينا عاشق من فلسطين الأكبر بنعالٍ من أغنية وزيتون وماء. وبالموهبة الّتي عثرت بفضيلة الإيقاع السخيّ والسّليم على موضعها بين أبْياتٍ من آجرّ الوجود لاتَبْلى ولا تتداعي، جعل الشّاعر محمود درويش مكانه محفوظاً في قلوب النّاس، وبازغاً بين عظام شعراء الأرض الذي دفعوا بالتجربة الإنسانيّة إلى أقصاها، وبمغامرة البحث الشّعري إلى أقْصاها، وبالسماء الّتي لاعَب طيْرَها بين حِجْر أمّه وأصابعه إلى أقصاها، لأنّه لا أعلى من الأرض في أسطورته. الأسطورة ' كذاكرةٍ متخفّية، لتحمي الشعر من غلبة الجيش على الإيقاع وعلى تاريخ القمح، ولتحمي الزّمن من هيمنة الراهن'، كما كتب في 'حضرة الغياب'.هذا الشاعر، الذي عرّفت قصائده بالمأساة الفلسطينية في العالم كُلّه، وتُرْجمت أشعاره إلى لغاتٍ عديدة، يتّخذ في تاريخنا الشّعري وجه الأسطورة التي تحيا بجراحها الجماعية والذاتية، وتجعل من أخلاقيّات عملها الجمالي صورة القصيدة التي يكتبها، ويُكبّ عليها باستمرار. داخل غنائيّته الخاصة والمحتمية بنُدوبها، يتآلف التاريخ والحداثة والذات، ولا يُخطئ العمل عليها قول الحقيقة المرتجفة بين جوانحه، بلسان الشّعر من غير أن يُصادِر ذلك مجهول معناه.داخل الأسطورة بوصفها إمكاناً ذا أهميّة قصوى في البحث عن حركة المعنى، الحيويّة والمهدّدة أكثر، الّتي تعود بالقصيدة إلى بعدها الأوّل، بلاغتها الأولى، كانت تتحرّك شعريّة محمود درويش. لهذا، نجد في كلّ عملٍ شعريٍّ لمحمود درويش، بعد 'ورد أقلّ' على الأقلّ، قاعاً أسطوريّاً يضيء استعاراتِ وحلولاً ممكنة لتجربة الغياب الّتي تصطرع في وعي الذّات الّتي سلبها الآخر تاريخها بالأساطير المخفورة بالنّار والحديد. كان يصنع الأسطورة الفلسطينيّة خارج الصّور النمطيّة الّتي تكوّنت عنها، وصارت عبئاً عليها. بها يحرّر هواء فلسطين من ثاني أوكسيد صهيون، بعد أن كثّفها في روحه، وارتفع بجرحها الفاغر إلى مرتبة الإنساني، وأدمج حياة الفلسطيني في الفنّ واللّغة والتّاريخ، ووقف على النّقيض ممّن رهنوا مفهومهم للمسألة الفلسطينيّة بالشّعاري والسياسي الضيّق حتّى حوّلوا مفرداتِها إلى مادّة ضجر، تماماً. بالنتيجة، جعل الشّاعر من المسألة أسطورتَه الشّخصية عندما لم يتردّد في أن يتناول فلسطين كموضوع في الحبّ والحياة والحرب والسلم والحكمة والخسارة عبر أنا الأغنية المتقشّفة، وعبر فعّالية الإصغاء الذي يصل الذاتي بالجمعيّ، ويُدرك أسماء شهوده الحقيقيّين، ويكتشف عبر عناصر سيرته البيوغرافيّة والتخييليّة شاهِد التاريخ الذي يحيا معناه، باستمرار. يحياه في صرير بابٍ لمفِتاحٍ مُعلّقٍ على المجهول، بدايةً من 'لماذا تركت الحصان وحيداً؟'. وإذا كُنّا نهتمّ، هنا، بالشرط التراجيدي للخروج الذي أعلنَتْه بيروت، فإنّه من المهمّ أن نلتفت إلى شرط آخر ننساه، شرط العودة إلى رام اللّه المحاصَرة والمعلَّقة، الذي يبدو لي مُفْرطاً في إنسانيّته، وموضّحاً لكثيرٍ من مفردات الأسطورة التالية، وذلك لمّا دفع باتّجاه شخصنة الجمعي، وأسطرة الذاتي أثمرها عمل الإصغاء إلى علاقة ذات الشّاعر بالأشياء الفالتة والبالغة في الهشاشة في وَعْيها الذي 'يُدَرْمن' اللحظة بجماليّات اليومي كما في (حالة حصار). بأسطورته يتوهّج، ومن الهامش يُواجه ولا يَخْشى التّيه. أمّا الأساطير المتكثّرة للآخر الّذي يقتات عليها، فإنّه يشحذ مجازَه ويُدْخل جُمّاعَها في تيهٍ مضادّ. قوّته في 'أناه' الّتي تبتكر، من داخل غنائيّته الجديدة، الجوهريّ العابر بماء الشّعر وحده، وفي حاجة الأنا الشّديدة إلي الأسطورة الّتي تنتسج، في قلب العالم، خيط الأغنية الرفيع بين الواقعي والخيالي؛ وترتيباً عليه، بين الأنا والغريب، الضحية والجلّاد، الحقّ والقوة. لهذا نفهم مقصديّة الشاعر الكتومة في أن يقدّم الأسطورة في مرايا متقابلة متخفّفة من ألوان البلاغة ومحسّناتِها، ويسندها إلى غناءٍ بسيط ذي إيقاعٍ يزداد خُفوتاً، كأنّه يريد'الشّعر الخالص' المحلوم به، العابر والمتحرّر من تاريخه اللا شخصي، ويجمعه من أطرافِه في الهامش. دَرْس 'جداريّت'ه الأبيض، تحديداً. ينقلنا شعر درويش في الذهاب الإياب بين الأسطوري واليومي حتى يظلُّ الحدس بالآتي راهناً، والذّات الّتي تكتبه وتسهر علي ظلاله الوارفات لانهائيّة. بشريعة القلق والبحث، يتحوّل محمود درويش في قصيدته بشكلٍ مستمرٍّ، وتُراقب سياسات القصيدة الّتي يكتبها معنى أن تكون هنا والآن، وأن تنتمي إلى زمنها الذي يتحوّل. معني الإستراتيجيّة. والسؤال الآن: ماذا أراد درويش أن يقول لنا، وهو الماشي بيننا من نصف قرْنٍ؟ وماذا نُريد ممّا قاله بعد غيابه الحاضر للعام الرابع؟ هذا السؤال لا يُطْرح إلاّ إذا أدركنا أنّنا في قلب الإشكاليّة الّتي كان محمود درويش يجترحها، ويعنينا بها، حيث تصير التّغريبة الفلسطينية، من الآن فنازلاً، تغريبتنا في الحياة والكتابة. 3 . على متداد أزْمنة ثقافيّة خصبة وحادة من استحقاق الشّعر والمعرفة به، أدمنت قصيدة محمود درويش الوعي العميق والحيويّ بالكتابة التي لا تنفصل عن أخلاقيّاتها وشرطها الإنساني بشكْلٍ لا ينقطع عن تجديد فهمه للذات والعالم، وعن طريقة استبصاره للمستقبل الّذي يسير إليه بمزامير من غناء. لكنّه منشغلٌ، بالقدر نفسه، بإواليّات عمل الكتابة وطرائق تنظيمها وتخييلها، أي بالشّعرية الّتي تأتي من تعاضد دوالّ القصيدة وعناصرها الّتي تتحوّل باستمرار، من ذاتٍ إلى ذات. لا يشكّ واحدُ ممّن عكفوا على شعريّته، بوصفها واحدةً من أهمّ وأندر تحارب شعرنا الحديث، في أنّ عناصرها التكوينيّة تقوم، أساساً، على الذات وفعّالية المعنى إلى جانب الإيقاع الدالّ المائز والأخطر في تصوُّر الشّاعر للكتابة نفسها؛ وهو الّذي ما فتئ يُلحّ عليه كأنّه يقضي حياته في البحث عن إيقاعه، أي البحث عن ماء ذاته وكتابته في آن. الإيقاع الّذي يأتي من الصوت وغير الصوت. لا نفهم الإيقاع، هنا، بمعناه العروضي أو الماهوي المتمثّل في: ما هو الإيقاع؟ بل ما يصنع الإيقاع؟ بمعنى أن يكون متحوّلاً في نسق الخطاب حيث يأخذ أشكالاً من البناء، وينظّم الذات في معنى خطابها ممّا يحفظ العمق من الأسطورة، ويجعلها في حياةِ دائمة. وإذا كانت القصيدة شيئاً غير الذكرى التي تنتزع الحياة من النسيان، فإنّ الإيقاع بمثابة تحْيينٍ للذات وزمنيّتها. لعناصر الإيقاع والذّات وفعّالية المعنى بوصفها متحوّلةً في القصيدة أثرُها وقيمتُها في تجربة ما بعد 'أورد أقلّ' الّتي صاحبَتْها تحوُّلات نصّية ومعرفية تبدّلت داخلها وضعية الدالّ الشعري وممكناته في المتخيّل والكتابة: أ الاشتغال على البناء بشَكْلٍ أكثر وعياً وملموسيّة، بحيث انتقل إلى هاجس معرفيّ من عمارة القصيدة إلى عمارة الدّيوان/ الكتاب. ب وُلوج المعنى الشعري في عمليّة خلْقٍ جديدة ومدهشة من الاحتمالات تجعل المعنى لانهائيّاً. ج صعود الأنا، من أنا الأغنية إلى أنا الفرد الّتي تُعيد التّأْريخ لأشجار نسبها الرمزي، الشّخصي والجمعيّ عبر سيرته الذاتية التي يُهوّيها شعراً. وبالنّتيجة، تعيد النّظر إلى الآخر في صوره وهجراته داخل الواقعي والأسطوري. د تقديم مُقْترح جماليّ ثالث في سياق الشعر العربّي المعاصر يُصالح بين خيار الوزن وخيار النّثر، بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النّثر الذين أنتجا سائدَيْهما. ه تدشين وعيٍ إنتقاليٍّ ومتطوّر في اللغة يتمرّد على القيمة الاستعماليّة لها، من خلال الانتقال من مفردات المنافي والاغتراب والحنين إلى أخرى ناتجة عن حكمة الخسارة تُطلق أجنحتها في أفق ملحميّ يتنفّس في الأسطوري والتاريخي والديني والرمزي حيث الذات تصوغ هوياتها داخل هواء اليوتوبيا. و تطوُّر الغنائيّة من الموضوع المركّب إلى الموضوع البسيط، الذي يركِّز على ما هو كونيّ وإنسانيّ وهامشيّ في تَجْربة قلقة تُريد امتلاك التسمية من جديد، خارج الموتيفات المكرورة. لكنّ كثيراً من الدراسات لا تزال تُصرّ على تمثيل شعر محمود درويش في يافطاتٍ ومسمّيات ذابت في الماضي كأن ليس لها ما تقوله، وليس هناك ما يُبرّر، اليوم، مراجع مفاهيمها الاختزالية والدوغمائية التي تعجز عن أن تُصغي إلى واحدةٍ من أهمّ وأغنى تجارب الشعر العالمي، في ما تطرحه مقترحاتها الجمالية. ولقد لفت محمود درويش، في ما يُشْبه وصيّة الشاعر الأخيرة، إلى التحوُّط من استعمال التأويل السياسي في قراءة شعره ، لأنّ ذلك يُصادر حريّته وعمل معناه في المجهول؛ ومن ثمّة، يُجْهز حتى على حياة الأسطورة نفسها.شاعر وناقد من المغرب القدس العربي