اجرى الحوار حسين الجفال: الناقدة د. ميساء الخواجا؛ استاذة الأدب المساعد في جامعة الملك سعود بالرياض، استوقفها الدارسون للأسطورة في شعر بدر شاكر السياب، فراحت على مهل تبحث بمغامرة شيقة في ماكتب عنه، ترى أنه تم إغفال عدد من الأسئلة المرتبطة بدور الأسطورة ووظيفتها في النص. وبأن السياب استطاع الارتقاء ببعض النماذج البشرية المعاصرة ورفعها إلى مقام الأسطورة، هنا نسلط الضوء في حوار مع ناقدة لها اشتغالاتها الكثيرة وابحاثها في القصيدة الحديثة لعلنا نعيد قراءة السياب بشكل مغاير.. * في كتابك (تلقي النقد العربي الحديث للأسطورة في شعربدرشاكرالسيّاب) ثمة فنتازيا نقدية، وإسقاطات متخيلة غير واضحة لشعره؛ ألا يُعتبرهذا النبش فيه نوعٌ من المغامرة؟ *في البداية كتابي هو دراسة فيما كتبه النقد العربي عن الأسطورة في شعر السياب، أي هو قراءة على القراءة، تستفيد من معطيات نظرية التلقي. كان السؤال الأهم هو هل قرأ النقد العربي شعر السياب وما الذي قدمه في هذا الإطار ؟ هنا كانت المغامرة في تتبع هذا الكم الهائل من الدراسات التي تناولت السياب والبحث عن المحوري وموجهات القراءة فيها. أتفق معك هنا حول وجود بعض الإسقاطات على شعر السياب فقد اختزله عدد كبير من الدارسين في أمرين، أولهما آلامه وتقلبات حياته فطغى السياب الإنسان على الشاعر فيه، وتحول السياب إلى مجرد مجتلب للأساطير يستدعيها لما يوافق المرحلة التي يعيشها، ويلبسها المضمون الذي يتفق معها. وثانيهما اختزاله في عدد محدود من القصائد الأمر الذي قد يحمل إشارة ضمنية إلى خلو القصائد الأخرى من السمات الفنية أو المضمونية التي بحث عنها الدارسون، ومن ثم إغفال عدد من الأسئلة المرتبطة بدور الأسطورة ووظيفتها في النص. إن اختلاف آليات القراءة الذي لاحظته الدراسة لم يمنع كثير من الدارسين من الوصول إلى نتائج متشابهة طرحت تساؤلا حول طبيعة التفكير النقدي العربي، لاسيما أن عددا كبيرا منها كان يتجه صوب القصائد نفسها، والقضايا ذاتها، مع وقوع واضح في أسر الدراسات المبكرة التي كتبت عن السياب فلم تخف على سبيل المثال هيمنة دراسة إحسان عباس وتقسيماته التي وضعها. ومن ثم ظل عديد من الدارسين عدا نسبة ضئيلة أسير مفاهيم ثابتة، وتصورات راسخة غلبت فيها سيرة الحياة على فنية النصوص. *أين يكمن التجديد في شعرالسياب بعيداً عن مسألة الوزن والقافية؟ *لا يمكن هنا إغفال دور السياب التأسيسي في ريادة شعر التفعيلة، ومساءلة النموذج الشعري العربي القديم ومحاولة تجاوزه. المسألة هنا لم تكن مجرد تجديد في الوزن والقافية بقدر ما كانت مراجعة لمفاهيم ظلت سائدة زمنا طويلا حول مفهوم القصيدة. ما فعله السياب نتاج لحركات سابقة ومتفرقة لكنه قام باختراق الشكل الشعري العمودي، بإعادة توزيع البحور والقوافي. لا بد هنا من وضع هذه المحاولات في إطارها الزمني وعدم تحميلها أكثر مما جاءت به، فلولا تلك المساءلة الأولى لما جاءت المساءلة الأكبر مع قصيدة النثر والتوجه صوب حداثة الكتابة. صحيح أن السياب وجيله لم يتجاوزوا القصيدة الكلاسيكية تماما لكنهم قاموا بتطوير العناصر التي رأوا أنها غير مناسبة، والأهم أنهم فتحوا التساؤل حول مفهوم الشعر وآلياته. في عصره استطاع السياب أن يكون نفسا جديدا في الكتابة الشعرية، ويضاف إلى ذلك محاولاته في توظيف الرمز والأسطورة، وهو ما أشار إليه عدد من الشعراء والنقاد. مع السياب تحولت الأسطورة والرمز إلى بنية فنية أساسية على اختلاف بين قصائده في ذلك. بذلك يكون للسياب أيضا دور مهم في إثارة عدد من القضايا المرتبطة بطبيعة البناء الفني واللغة الشعرية وغموض القصيدة. *الألم والوجع والموت كلها روائح قاهرة تئنُّ في قصائدالسياب، هل هنالك وجه آخرغيرالمعاناة في شعره؟ *لعل الألم يولد الإبداع، وهذا رأي يمكن أن يصدق مع السياب الذي عاش حياة قصيرة حافلة بشتى التقلبات الفكرية والفنية. لكن اختصار السياب في معاناته يهضم كثيرا من الجوانب الإبداعية في شعره، فكما ذكرت قبل قليل استطاع أن يقوم بمساءلة مهمة وجوهرية لمفهوم القصيدة وبالتالي لطبيعة البناء الفني، وهنا يكمن إبداعه، وبقاء شعره. التوجه صوب القصيدة الطويلة، الرمز والأسطورة، اللغة الشعرية والإيقاع، كلها مسائل يصعب تجاوزها في شعره. *ما مظاهرالأسطورة لدى السيّاب مع ملاحظة أن الكهولة المبكّرة التي يعيشها الشاعركانتْ أكثر تنكيلاً في نصوصه؟ *إذا ما وضعنا السياب في إطاره وزمنه، يمكن أن نرى محاولاته الجادة في اكتشاف قصيدته الخاصة. هذه المحاولات التي اتخذت أشكالا عدة بين التوظيف التقريري للأسطورة، وبناء القصيدة كاملة على الرمز الأسطوري. لكن الخطوة الأهم فيما أرى هي محاولة السياب اكتشاف نماذجه الخاصة به وصناعة أسطورته الخاصة لاسيما من خلال الارتقاء ببعض النماذج البشرية المعاصرة ورفعها إلى مقام الأسطورة كما فعل مع ابنة عمه وفيقة وحفصة الموصلية وبائع الخرز الملون. هنا يتمكن الشاعر من نمذجة أشخاص عاديين معمقا من إيحائية نصه الشعري، ويبني نموذجه وقصيدته الخاصة. لا أنكر هنا أن قصائد السياب لم تكن كلها على نفس القدر من الإيحائية والنضج الفني وأنه عانى من كهولة مبكرة جعلته يداور حول النماذج نفسها والأساليب ذاتها، كما جعلته يقع في أسر التقريرية والصراخ المباشر أحيانا، لكني أحب أن أضع الشاعر في زمنه، فمن طبيعة المحاولات الأولى أن تتراوح ما بين الصعود والهبوط، ولعل الإشكالية الكبرى التي وقع فيها السياب هي أنه لم يستطع تماما كسر حاجز القصيدة العمودية، ورغم ما حققه من اختلاف إلا أنه لم يستطع الخروج عن الإطار العام لتلك القصيدة، ووضعه في إطاره الزمني وكونه في فترة البدايات وضمن جيل الرواد يمكننا من فهم مثل هذه الإشكاليات. *رمزية السياب في حياته؛ هل انعكست على شعره؟ *السياب فيما أرى أحد الحالات الخاصة في الشعر العربي بتقلباته الفنية والفكرية، وربما لم تأت رمزيته في حياته بقدر ما جاءت في فترات لاحقة. وربما انعكست هذه التقلبات على فنية القصيدة عند السياب، لكني لا يمكن أن أرجع ذلك إلى معاناته النفسية والجسدية والسياسية فقط، فهو شاعر يشكل مرحلة البدايات نسبيا، ويحمل ما تحمله تلك البدايات من ضعف أو نضج، وعدم اتساق في فنية ما كتب. صحيح أن كثيرا من الدارسين ربط بين السياب وحياته، بل إن عددا منهم قسم مراحله الشعرية تبعا لمراحل حياته بين المرض والتقلبات السياسية والفكرية، لكن ذلك لا يمنع من أهمية الوقوف عند النص في ذاته ومساءلته فنيا، وبالتالي الوصول إلى الدور الحقيقي الذي مارسه السياب في الحركة الشعرية الحديثة. * (أنشودة المطر) و(المومس العمياء) أهم تجربتين للسياب على مستوى العمق الشعري، هل تجاوزهما الشاعرفي نصوص أخرى؛ أم أن وتيرة اللغة عاليةً في كافة قصائده برأيك؟ *قد تشكل قصيدة 'أنشودة المطر' النموذج الفني الذي لم يستطع السياب نفسه تجاوزه فيما بعد، وذلك على عدة مستويات منها اللغة والإيقاع والبناء الشعري، ولعل ما يثبت ذلك كم الدراسات التي تناولت تلك القصيدة من زوايا مختلفة، وأعادت اكتشافها في كل مرة. لكن ذلك قد لا ينطبق على المومس العمياء التي أرى أنها تعاني من مشاكل فنية رغم أنها حظيت بتقدير من بحث عن المضمون الاجتماعي والفكر السياسي. هنا يمكن الإشارة إلى نماذج أخرى ارتقى فيها السياب فنيا كانهر والموت والمسيح بعد الصلب ومرحى غيلان وحدائق وفيقة وغيرها. فيما يخص وتيرة اللغة عند السياب فأنا أرى أنه من الشعراء الذين احتفظوا بالإيقاع العالي، مع لغة سلسة عمد فيها إلى توظيف ما يدعم ذلك الإيقاع كالإكثار من الأفعال المضعفة والتكرار واختيار الأصوات ذات الجرس الموسيقي الواضح، ولعل ذلك كله يعود بنا إلى ما أشرت إليه سابقا من البقاء نسبيا في إطار القصيدة الكلاسيكية، وعدم تجاوز النموذج الأول بشكل تام، وتلك هي معضلة البدايات بشكل أساسي. * كباحثة .. ما الذي شدّكِ للكتابة عن السياب في حين أن كثيرين كتبوا عنه؟ *كما أشرت في البداية، الكتابة اهتمت أساسا بقراءة ما كتبه النقد العربي عن السياب، في محاولة لتفكيك تلك القراءات والبحث في منهجيتها ونتائجها، وكان يحركني تساؤل أساسي: هل درس السياب فعلا ؟ وهل كانت تلك الكثرة تعني الاختلاف أم الائتلاف، وظل السؤال قائما حول وقوع هذا الشاعر في أسر المفاهيم الثابتة والمتكررة عدا حالات قليلة، وحول مدى إخلاص الناقد العربي لمنهجه الذي يعد به في مقدمات دراسته، وبالتالي مدى الحاجة إلى الوقوف عند النص في ذاته بعيدا عن المؤثرات الأخرى. *ترى ما الذي غيب الرمز الأسطوري في النص الشعري الحديث في الجزيرة العربية؟ *لا يمكن تعميم مثل هذا الحكم، والجزم باختفاء الرمز الأسطوري في نصوص شعراء الجزيرة العربية. ما أراه هو أن توظيف الأسطورة هو اختيار شعري فني في المقام الأول، ولا يعني غيابه الانتقاص من فنية النص، والعكس صحيح. ومع ذلك يمكن الحديث عن بعض محاولات التوظيف الأسطوري في شعر الجزيرة العربية، لكن الاتجاه الأكبر كان صوب توظيف التراث بأشكاله المختلفة. ربما لعب المحظور الديني دورا ما في غياب الأسطورة نسبيا لكني أؤكد أنه اختيار فني أساسا وربما كانت الحداثة الشعرية في الجزيرة مشغولة بإثبات حضورها الفني في المقام الأول بعيدا عما يمكن أن يثير المزيد من التساؤلات حولها. * ما السبب الرئيس في حضور الرمز عند الشعراء العرب في الخمسينات والستينات؛ أهو وعي باذخ بالتأريخ أم هروب من الرقيب والنظم الدكتاتورية؟ *أرى أن حضور الرمز جاء مرتبطا بعدة عوامل لم تكن السياسية أولها، ولعل أهمها تشكل مفهوم جديد للشعر وآلياته، هي مسألة متكاملة تجمع بين مساءلة جوهرية لتاريخ القصيدة العربية ومحدداتها الفنية، وتماس مع الشعر والنقد الغربيين والاتجاهات الشعرية المختلفة ومنها الرمزية والسريالية التي أعادت اكتشاف الخيال وأهمية التعبير غير المباشر، وبالتالي الانفتاح على رؤية مختلفة للقصيدة تستدعي لغة مختلفة وآليات فنية جديدة. هذا الانفتاح أدى إلى إعادة اكتشاف الشاعر العربي لتراثه من جهة، وإلى اكتشاف إمكانات توظيفه فنيا من جهة أخرى. مفاهيم الحداثة حول التجاوز المستمر وكسر القوالب والخروج عن إطار النموذج إضافة إلى فهم أهمية الإيحاء وضرورة الابتعاد عن التقريرية والمباشرة، واختلاف مفهوم الصورة الشعرية وأهمية تحرير الخيال، إضافة إلى ما فعلته الرومانسية كخطوة أولى من إعطاء أهمية كبرى للفردية والذاتية، كل ذلك مارس دورا مهما في إعادة تشكيل القصيدة العربية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التوظيف الرمزي وبعد القصيدة عن المباشرة لم يتوقف عند ستينيات القرن الماضي، فمازال الشعراء يبحثون عن قصيدتهم، وعن لغتهم الخاصة المرتبطة برؤيا كل منهم، وكثر الحديث عن حرية الدال وانفتاح المعنى وقابلية النص لتعدد القراءة مع اختلاف في آليات الكتابة والتوظيف والبناء الفني. * هل حضر الرمز في الشعر الجاهلي، وما هو اهم ما طرق الشعراء من أساطير؟ *قد يصعب الحديث عن وجود الرمز بمفهومه الحديث في الشعر الجاهلي، وإن كان هناك نقاد يتحدثون عن رمزية بعض المفاهيم في ذلك الشعر كالحديث عن رمزية الطلل والوقوف على الديار على سبيل المثال. وما أراه أن ذلك لا يعيب الشعر الجاهلي إذا ما وضع في سياقيه الفني والتاريخي. يمكننا هنا الحديث عن توظيف كثير من المعتقدات الشعبية في الشعر الجاهلي، أو الحديث عن الجن والغول كما في شعر الصعاليك وغيرهم، لكن ذلك كان يأتي غالبا في إطار سرد الحكاية أكثر مما هو توظيف لغة رمزية أو بناء القصيدة على رمز معين، وهذا يتفق مع مفهوم القصيدة الذي يقوم أساسا على وحدة البيت ومقاربة التشبيه ومقاربة الواقع كما حدد النقاد العرب في فترة لاحقة.