عن دار النشر 'أسيريو وألفيم' صدر مؤخّرا في العاصمة البرتغا لية لشبونة كتاب تحت عنوان: 'رسائل حبّ فرناندو بيسوا و أوفيليا كيروس'، من جمع وتصنيف الباحثة البرتغالية المتخصّصة ' مانويلا باريرا داسيلبا'. يتضمّن هذا الكتاب جميع رسائل الحبّ المخطوطة التي كان قد تبادلها الشاعر البرتغالي الكبير 'فرناندو بيسوّا' (1888-1935) وحبّه الوحيد في كل حياته 'أوفيليا'، وهي فتاة بورجوازية من عائلة برتغالية ميسورة، كما يؤكّد الكاتب الإسباني 'أنطونيو خيمينيث باركا' في مقال له حول هذا الموضوع الشيّق نشر في جريدة 'البايس' الإسبانية بتاريخ 30 يوليو (تموز)2012'. أولى الفقرات من الرسالة الأولى الموجّهة من أوفيليا إلى بيسّوا كانت بتاريخ 29 أيلول/سبتمبر 1929، كانت تبلغ حينئذ التاسعة والعشرين من عمرها، تقول فيها:'فرناندو اليوم كان حظي تعسا ،هذا هو حال أموري في المدّة الاخيرة كلها تنتهي نهاية سيئة، كانت أمنيتي أن تصل ساعتنا.. وأخيرا وصلت وأنت تشعر بالسأم من حياتك ومنّي، ألم أعد أروقك يا فرناندو الصغير..؟'. ويجيبها فرناندو بيسوّا (الذي كان مغمورا في ذلك الوقت وسيصبح فيما بعد من أكبر شعراء البرتغال): 'أوفيليا كل حياتي تحوم حول أعمالي الادبية، جيّدة كانت أم سيّئة، فلتكن كيفما تكون، الجميع ينبغي أن يقتنع أنّني هكذا ،ماذا سيفيد مطالبتي بالأحاسيس التي أعتبر أنّها جديرة برجل عادي، إنّ ذلك في منظوري كمن يطالبني أن أكون أشقر وذا عينين زرقاوين'. مشهد ميلودرامي غرامي لقد تعرّف فرناندو على أوفيليا أواخر 1919في إدارة تجارية حيث كانت تعمل فيها أوفيليا كسكرتيرة، ولم تكن آنذاك تتجاوزالتاسعة عشرة ربيعا من عمرها، وكان بيسوّا يعمل كمترجم عن اللغة الإنكليزية للرسائل التجارية لمدّة بضع ساعات في اليوم، وكان في الواحدة والثلاثين من عمره، وفي شهر فبراير(شباط) من عام 1920وقع فرناندو بيسوّا لأوّل مرّة صريع الغرام في حبّ هذه الفتاة الأنيقة التي تشعّ شبابا ونضرة، وذات يوم عندما كانا لوحدهما في الإدارة قام بيسوّا بمشهد ميلودرامي مسرحي غرامي أمام الفتاة ،وعلى الرّغم من المفاجأة المثيرة التي جعلت الفتاة تخرج مهرولة خارج الإدارة، فإنّ التصريح بالحبّ المبالغ فيه الذي عبّر عنه بيسّوا لها بتلك الطريقة الميلودرامية الممسرحة قد راقها كثيرا. بعد هذه الحادثة الغريبة كتبت أوفيليا الرسالة الغرامية الأولى التي وجّهتها لفرناندو بيسوّا إنها تقول له فيها:' إنّني أفكّر فيك كثيرا ،وأفكّر كيف أنني أصبحت أهمل شابا كنت أعرفه (خطيبها في ذلك الوقت) والذي كان يحبّني كثيرا'، وتضيف أوفيليا قائلة :' سأكون صريحة معك، إنّني أخشى أن تكون مشاعرالحبّ عندك نحوي ذات أمد قصير '. وتضيف: 'إذا كان فرنانديتو (تخاطبه بصيغة التصغير من باب التلطيف والدلل) لم يفكر قطّ في أن تكون عنده عائلة، فإنني أرجوك أن تخبرني بذلك .' ويجيب بيسوّا أوفيليا على هذه الرسالة الصريحة والجريئة قائلا لها:' إنّ الذي يحبّ حقيقة لا يكتب رسائل تشبه مطالب المحامين. فالحبّ لا يتعمق في دراسة وتحليل الامور، كما لا ينبغي له ان يعامل الآخرين وكأنّهم متّهمون'. كلّ رسائل الحب سخيفة وتشير الباحثة البرتغالية 'مانويلا باريرا داسيلبا' :' أن اللغة المستعملة في بعض الرسائل يفهم منها أن هذا الحبّ لم يكن أفلاطونيا كما يتبادر إلى الذهن لأوّل وهلة ،بل إنها رسائل لا تخلو من المداعبات الكلامية الغرامية وبعض الإباحية غير المعلن عنها بوضوح '. كما تؤكد داسيلبا انّ الرسائل تحفل بالعديد من المواقف والمشاهد والاخبارالحياتية الخاصة، وعن العصر الذي عاش فيه فرناندو وأوفيليا، وتتخلل هذه المراسلات الحميمية كذلك نزهات ومحاورات وسمر، كما أننا واجدون فيها ممانعات من طرف بيسّوا للتعرّف على عائلة أوفيليا، كما أنها لا تخلو في بعض الأحيان في بعض المواقف من التصنّع والتكلّف والتحذلق،وتستشهد الباحثة البرتغالية في هذا المضمار بكون فرناندو بيسوّا قال فيما بعد في إحدى قصائده الكبرى المعروفة : ' أنّ جميع رسائل الحبّ سخيفة ومسفة'.. وقد بلغ الأمر ببيسوّا في بعض المناسبات لكي يزيد في توثيق علاقته بأوفيليا أن إدّعى أنه قد ربح جائزة مليونية كبرى في بعض المسابقات الإنكليزية للتسلية التي كان الشاعرالبرتغالي الكبير مولعا بها كثيرا وذلك بهدف الزواج ' . كما كان الشاعر بيسوا يتنكّر ويكتب باسم مستعار وهو ' ألفارو دي كامبوس' وذلك لأهداف نقدية وأغراض شخصية، وكانت هذه الشخصية الخيالية أو الوهمية التي اختلقها تتدخّل كذلك في شؤون بيسّوا وأوفيليا نفسيهما كذلك . ومثلما كان يتنافس ' فيردريك نيتشه' والموسيقار الألماني الكبير' ريتشارد فاغنر' على الظفر بقلب معاصرتيهما الفاتنة الإيطالية 'لوسالومي'، كذلك كان ينافس بيسوا في حبّ أوفيليا خطيبها السابق وشخصيات أخرى وجيهة، بعضها حقيقي وبعضها الآخر خيالي(ألفارو دي كامبوس نفسه)، وكان ذلك التداخل بين المحبّين العاشقين يشكّل حجر عثرة في سبيل حبّ الشاعر المتيّم بخليلته الاثيرة . وتؤكّد الباحثة البرتغالية' داسيلبا ' في هذا القبيل :' أنّنا واجدون في هذا الكتاب رسائل موجّهة إلى أوفيليا بتوقيع إسمه الآخر المستعار وهو 'الفارو دي كامبوس' حيث كانت ترى فيه أوفيليا شخصية سيّئةغير محبّبة، بل إنها تقول صراحة' انه شخصية لا تروقها في شيء'. الوداع الأخير ويودّع بيسوا أوفيليا برسالة حزينة غامضة تحمل تاريخ شهر يونيو(حزيران) 1920 والتي يقول لها فيها:'إنّ قدري ينتمي لقانون آخر لا تعرف أوفيليا شيئا البتّة عن وجوده، هذا القانون يخضع أكثر فأكثر لمعلمين لا يمنحون شيئا ولا يغفرون' . بعد انصرام تسع سنوات شاء الحظ أن يجتمعا من جديد، لقد أصبحت أوفيليا سيّدة في الثامنة والعشرين من عمرها، وأمّا بيسّوا فقد أمسى رجلا ناضجا ولكنه أصبح مدمنا لتعاطي'البراندي'وهو منشغل ومهووس من أجل إتمام عمل أدبي من أعماله الكبرى الذي غدا بين يديه كمتاهة لا نهاية لها. إنّ أوفيليا الآن لم تعد تتحدّث عن الزواج. وطفق هو في الابتعاد عنها وأصبحت من جرّاء ذلك مراسلاتها له حوارا عقيما وميؤوسا منه من طرف واحد حيث ما انفكّت ترجوه في كل مرّة أن يكاتبها من جديد، ثم سرعان ما طالبته بالفراق النهائي الذي سيحدث أواخر 1929 . وتشير داسيلبا :' أنه في عام 1935 وقبل أشهر قليلة على وفاته رأى فرناندو بيسوّا كتابه الوحيد الذي نشر في حياته وهو قصيدته الرائعة التي جاءت في شكل رسالة، وكان هذا الكتاب تحت عنوان: 'في يوم مّا طرق أحدهم الباب وهرعت الخادمة لفتحه' هذا ما حكته أوفيليا نفسها بعد مرور سنوات عديدة . إنّها تقول في هذا الصدد:' جاء أحدهم بكتاب، وعندما سلّموني إيّاه وفتحته تبيّن لي أنّ الكتاب رسالة مطوّلة يتصدّرها إهداء، عندما سألت عن الشخص الذي جاء بالكتاب، وبواسطة الوصف الذي قدّمته لي الفتاة التي استلمت الكتاب عرفت أنّ الذي استقدمه كان فرناندو بيسوّا نفسه، حينئذ أسرعت مهرولة نحو باب المدخل، ولكنّني لم أجد أحدا، ومن ثمّ لم أر بيسوا أبدا من جديد '. يعرّف فرناندو بيسوا نفسه في مؤلّف له تحت عنوان' كتاب اللاّطمأنينة ' فيقول:' أنا أرباض مدينة لا وجود لها،أنا التعليق المحظور على كتاب لم يكتب قطّ ،أنا لست شيئا ،انا لست احدا ،أنا لا أعرف الإحساس،أنا لا اعرف التفكير ،أنا لا أعرف ان أحبّ، انا شخصيّة في رواية لم تكتب بعد، موجودة في الهواء محتقرة لم تكن قط في أحلام من لم يعرف كيف ينجزني كاملا .' ونختم هذه العجالة عن هذا الكتاب الجديد المثير حول فرناندو بيسوّا وخليلته الوحيدة أوفيليا والمراسلات الغرامية التي كانت بينهما بقصيدته التي سبقت الإشارة إليها آنفا وهي تحت عنوان'كلّ رسائل الحب سخيفة ' (*) يقول بيسّوا فيها: كلّ رسائل الحبّ سخيفة لن تكون رسائل حبّ إن لم تكن سخيفة في زماني كتبت كذلك رسائل حبّ مثل تينك الرسائل الأخريات سخيفة رسائل الحبّ إن كان هناك حبّ لابد لها أن تكون سخيفة ولكن في آخر المطاف فقط الخلائق التي لم تكتب قطّ رسائل حبّ هي فعلا سخيفة من يا ترى عندما أكتب يوحي لي دون أن أتفطّن لذلك برسائل حبّ سخيفة الحقّ، أنّ ذكرياتي اليوم حول رسائل الحبّ تلك هي بالفعل سخيفة كل الكلمات المنبورة مثل العواطف المنبورة هي بطبيعة الحال سخيفة * هذه الأبيات من ترجمة كاتب هذه السطور عن الإسبانية . القدس العربي